بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 2 أكتوبر 2010

الفية الولد الخجول-العشر السادس-عادل كامل-تقديم مدني صالح




العشر السادس


[1]
فاكهتي الليلة تدعوني إلى الصيام ( يا أيها الحصار)
فيما المنقرضات .. مثل الكواكب ، تخفق في قلبي.
[2]
بأعلى الأصوات سأدعوكم إلى الصمت.
[3]
لديكم أعراسكم .. لديكم مواليدكم .. لدىّ
جسد يشاكس الجسد.
[4]
منذ زمن بعيد انحنيت .. بلا مبالاة .. لكوكب
اسمه كلمات.
[5]
ليس لأسرار الحب أسرار .. إنما الجسد حزين
والشجرة ضاعت بين الأشجار
والجرح كف عن الكلام .
[6]
تنحني الأشواك حيث تنهض الشمس
مثلما .. واأسفاه .. نفسي تنحدر إلى الغروب.
[7]
جراحي تحتفل الليلة: لا قيامة لا ميلاد
جراحي تغني الليلة: لا موت لا انبعاث
جراحي تكتب الليلة: لا صمت لا كلام.
[8]
أيها الولد المشاكس ماذا فعلتْ
لتنحني لك السكاكين؟
[9]
مثلي لا تعرف : أهذه موسيقى ميلاد .. أم طقطقة عظام ..
مثلي لا تعرف : أهذه موسيقى عشاق أم همسات وشاة.
[10]
كلمات تدلني أن النسوة الجميلات لا يعرفنّ الموت
فيما هّن .. دائماً .. يسّرن بمحاذاة المنفى.
[11]
مثلي لا تعرف الحجارة كتمان الأسرار
فانا لدى قلائد
وقليل من رماد يغطي عظامي.

[12]
روحي مشاكسة وجسدي عنيد ..
إنما في مقلتي عشاق سيولدون.
[13]
لا موت لا حياة .. إذ ْ الحجارة تتكلم
والليل لا يتتبع خطاه.
[14]
وسيعود المحارب ذات يوم إلى الحدائق
وإنما أيضا .. لن يأسف على حروب مؤجلة.
[15]
أنت تهب البحر للشعراء
أنا أهب الملائكة بعض المناديل.
[16]
أين يذهبّن النسوة العاشقات
فيما المنفى باتساع الأرض ؟
[17]
هبط عليّ ملاك يدعوني إلى الصمت
إنما روحي تزدهر بجياع ظرفاء.
[18]
ليس لدينا كلام ممنوع
ليس لدينا أسرار
لدينا ولد يجرجر ’أماله إلى المجهول.
[19]
أسلحتي : غيوم .. أصابع .. حصى
أسلحتي : جسد يشاكسني
أسلحتي : رياح تنثر كلماتي حيث لا أريد.
[20]
آدم علمنا الكلام .. والخطيئة .. أعلمكم:
الكلمات علمتنا لا آدم .. هناك
عشاق في الصحراء .
[21]
ليس هناك إلا غرقى في مقلتي
وبعض أشلاء جريح ضاع في القبائل .
[22]
جرحي يغرد أيضا .. مثل بلابل بلا أصوات.

[23]
دعهم يسرقون كنوزك .. إنما لا تدع القلب يضطرب.
[24]
اكتب : الصمت آخر كلام الأنبياء.
[25]
حكماء مروا من هنا : هالو .. هالو
كان الرب بانتظار إجراء الحساب.
[26]
ليس لديّ عذارى أو احتفالات
لدى أشياء لا اعرف ماذا افعل بها
ولدى أشياء لا تعرف ماذا تفعل بي.
[27]
كلانا نورس .. في البراري .. أو في مدن الدخان.
[28]
غادرتني جراحي . إنما تركت لي هذا الكوخ بلا اصداء .
[29]
أتساءل : البحر ازرق صافٍ مثلي فلماذا غادر ذاكرته
ومثلي : لماذا يريد استعادتها ؟
[30]
انحنت أعالي الروح .. هذه المرة ، مثلي
لغيوم لا تأتي إلا بالجفاف.
[31]
روحي مثل وثن نسي تاريخ ميلاده.
[32]
لكني أحيانا ابحث عن أعياد ادخلها بلا مبالاة.
[33]
تأتى العتمة وتذهب .. تترك أحيانا مطراً وأحيانا
كلمات تستجدي الكلمات.
[34]
شيخوختي تترنح فوق ورقة
هذا هو أنا .. حصاد يحمل رائحة المواسم كلها.
[35]
أينما اذهب معي كلماتي .. أحيانا أعطيها للمارة
وفي الغالب يسرقها العشاق مني.


[36]
لا مأوى لدىّ .. إلا كلمة .. إنما لدي أيضا
فضاءات.
[37]
ما الشعر إن لم يكن أفراح عصافير مشاكسة.
[38]
فيلق مشاكس .. هنا .. في روحي
استقر بلا استئذان.
[39]
يقال لي إنهم أعادوا لي براءتي ..
فما معنى هذه الأصوات ؟
[40]
كلانا جريح – أنا والمعادن .. بامتداد الآفاق.
[41]
لدىّ صخور تتكلم .. بينما أنا في المنفى وحيد.
[42]
قديسون يتنـزهون في روحي .. فيما أنا
الملم عزلتي للإقامة.
[43]
لدى دخان .. وصمت .. وبعض أسلحة كفت عن الأحلام.
[44]
أحيانا اصطحب ظلي في نزهة
إنما دائماً اتركه خارج دائرة الضوء.
[45]
هذه الوعود .. مثل هذا الرماد .. مثلي نياشين اضطراب.
[46]
على م َ تساومني القبائل .. وليس لدىّ إلا رماد.
[47]
لا أصدق الريح التي تأتي بالغيوم
ولا اصدق نفسي إلا عندما أراها لا تنثر الورد
فوق الوعود.
[48]
إنها رياح متعبة .. مثلي .. تسير إلى الحقول
بينما أنا أسير بمحاذاة المنعطفات.
[49]
وهل للزنبقة قبر ..
مثلما للكلمات أضرحة لا تكف عن العواء.
[50]
أسرقت صحوي من ليلي .. واسرق ميلادي من موتي القديم .
[51]
كلانا ذئب .. الضحية .. والوليد.
[52]
اخذ الموت منا أقل مما أخذت الأفراح
إذ ْ الذئاب غادرت ظلال حملانها.
[53]
لدىّ سكين .. إنما لدىّ مالا تحصى من الجراح.
[54]
جرحي سرقه الليل
بصري أهديته إلى النهار
لهذا تراني أعود إلى البراءة.
[55]
طلبت وردة .. فأعطوني حدائق
طلبت قطرة ماء .. أعطوني البحار
إنما أعطوني بسعة القبر: كلمات.
فقلت: أريد الأرض.
[56]
أريد أن أتتكلم .. هذا هو بعض صمتي.
[57]
أنا وحيد مثل رابية .. أتوزع بين أسلحة جميلة !
[58]
لا استعير سلامي من الحرب
ولا خبزي من العصافير
لدىّ أصابع اعرف كيف اجعلها تتكلم
وأهرامات تفتح لي أبوابها عند الحاجة.
[59]
منذ دهر لم اذهب إلى نفسي
بينما يومياً
أرى الشعراء يقرأون قصائدهم للريح.
[60]
البلابل لم تطلق النار
إنها كانت تغرد
إنما المارة سرقوا غابتها.
[61]
بعيداً .. بعيداً .. بعيداً عن غيمة لا تعرف الكلام
أقول :
شاهدت غيمة تنحني بلا أعذار.
[62]
الليلة استعير سكري من كروم يافعة وسط حقولي الجريحة.
[63]
من شدة خجله تعلم الرقص .. والكلام .. مثلي
في احتفال الدخان.
[64]
لدىّ غيمة تسقيني البراءة
وعصافير تأتيني بالفجر
وبعض أفكار التراب.
[65]
بعض كلامي يُسرك إذا ذهب إلى الصمت
وبعض صمتي يُسرك إذا ذهبت إلى الكلام.
[66]
كفى يا بلبل .. أأنا الذي أسكرك .. أم لأنك بلا
غابات – مثلي –تغرد – هذا الخجل الأليف.
[67]
هذه الكلمات بعض سلامي
وهذه العبارات مثل صمتي الأخير.
[68]
لدى مرآة أحاور فيها خجلي
ولدى جراح لا تكف عن مؤانستي.
[69]
انه العابد رأى الوثن مهشماً
فيما كنت أمتلك غيوماً تنـزف غرباء.
[70]
بعض أسرار المدن تنام معي .. فيما كلي يرقد في الجحيم.
[71]
أسلحة تستعير قسوتها من الملائكة
فيما روحي تشهد حصاد العصافير.


[72]
هذه الشموس لا ترسل أنبياء .. أو ملائكة
هذه الشموس .. مثلي .. تبحث عن طريق.
[73]
أين سنغادر .. إذا أتيت
أين سنقيم إذا لم تأت ؟
[74]
اللهم لا تبعث فيّ المسرات .. جراحي ندية
وروحي مثقلة بالبراءات.
[75]
دع الليل غافٍ .. مثلي .. كلانا مثقل بالأفراح.

[76]
وحيد مع ترابي أولد ووحيد معه أموت.

[77]
دع ليلي غافٍ .. فجسدي بلور .. وروحي أثقلتها
الأعراس.
[78]
خذ أعيادي .. أعراسي .. أفراحي
خذ ما تشاء
إلا جسدي الحزين.
[79]
لديكم حقول من الذهب والأنبياء ..
لدى فقط .. حقل من الأوهام.
[80]
أأشاكس نفسي أم أصالحها ..
بينما العواصف تدعوني إلى ولائم التراب.
[81]
بعض مسراتي مخاوف .. وبعض مخاوفي مسرات.
[82]
قلبي سفينة ركابها غرقى .. وابتهالات نذور.
[83]
لي خوف اذهب إليه عند المسرة
ولي موت يحميني من سهام العابرين.

[84]
في كوخي نجمة .. تهبط .. أعطيها .. زادي .. وارحل.
[85]
تتكون روحي من براري . ومن خوف جميل.
[86]
ماذا تريدون من هذا الولد الخجول
هذا الذي انحنى للإمطار .. وانشغل بصمت الأصوات
[87]
سأرقد فوق العشب .. مثل طفل سرقوا مقلتيه.
[88]
بمحاذاة روحي عويل .. إنما هناك دائماً بلابل تغرد.
[89]
اكتب : أنا قارة من الاضطراب .. وولد يوزع صوته للعصافير.
[90]
ينحني الصمت أيضا .. فيما أنا اجمّع أوهامي.
[91]
هذه الطيور ماذا تريد من كلمات لا تعرف الطيران.
[92]
هذا الصوت لا يفزع الموتى .. صوت المطر .. والرصاص .. لكنه يهشم روحي .
[93]
في عامه المجهول .. بلغ سن الموت .. فلماذا تحتفل الأضرحة بأعياده المنسية .
[94]
ماذا تريد الشموس مني أنا الذي بلا ظلال .
[95]
هذه بعض الرموز : حشائش .. عناكب: مسرات .. وانهار لكنها أبدا ًليست إلا علامات.
[96]
أينما اذهب أجد جراحي تغني.
[97]
سأنحني لشموس تذهب إلى عتمتها
مثلما قط لم أوش برموز أحلامي.
[98]
ينحني لأزمنة لم تولد .. ويستفيق لأزمنة لن تولد.

[99]
أنا بقايا قصائد .. أنا بقايا رما ..د
أنا تراب مؤجل.
[100]
بين الأسلحة القتيلة
هناك أصابعي لا تريد أن تذهب إلى النوم .

الجمعة، 1 أكتوبر 2010

طاوة جلجامش ومطبخ رئيس الحكومة-بقلم علي السوداني


طاوة جلجامش ومطبخ رئيس الحكومة
علي السوداني
وهذه واقعة موثّقة موثوقة ثقة ، كانت وقعت في بلاد ما بين القهرين ، وهي واقعة ظريفة لطيفة جذابة ذات أجراس تجلجل وخواصر ترقص وأرداف تأكل العقل وتطيّر القلب وتحفز المخيال حتى منتهى القصد والمآل . والحكاية - سادتي الرجال وسيداتي النسوان - كانت أشهرت قبل ليال قليلات وكان مقدراَ لها أن تقلب الدنيا ، لكنها غطّيت بلحاف ثقيل وأنباء منفرة تتسايل كما مستحلب دبق فوق أمسيات وظهيرات الناس الحارّة ، وتدور حول معمعة ومنطحة ولادة حكومة . عندنا سفير في أمريكا اسمه سمير وكنيته الصميدعي قال ، أن أعمامنا الأمريكان الرحماء قد سلّمونا آلافاَ مؤلفة من قطع آثار عراقية منهوبة - الأرجح هو ان الحرامية كانوا من جنود وجنديات الهمج الأمريكان ومن تبعهم ، لأن غالبيتهم تتحدر من أبناء ملاجىء وأوكار شذوذ ومنغلة وبؤس ودكاكين مافيا - وقد تم شحن الصناديق المكتومة والمعلّمة وشديدة الوضوح نحو سمائها وولاداتها الأولى ببلاد ما بين الضيمين . بعد شهور مشهرة صدر فرمان آثاري بعرض المسروقات في جامخانات وعلى أرفف ودكك المتحف العراقي المشهور والمزروعة بنايته حتى اللحظة شرق كراج علاوي الحلة وعربانات الفشافيش المبهّرة بكرخ بغداد العباسية . في هذه الأيام والليالي ، فاحت وقبّت رائحة شك وريبة وخديعة ودسيسة ونهيبة ، من أفواه وزراء ونواب ومدراء وحراس منهم أميرة وقحطان وقيس ، تناقضوا وتضادوا وتناطحوا حول صينية دسمة مفقودة قوامها ستمائة وثلاث وثلاثون قطعة أثرية مؤكدة ، فأرسلوا الى السفير سمير العائش بأرض واشنطن ، كي يستأنسوا برأيه ويستفهموا من فهمه ، فأجابهم الرجل اجابة شافية وافية كافية بعدد المشحونات وواسطة النقل . بعدها بليلة ويوم قال جنرال أمريكي مشهور دائح الآن ودائخ في مستنقع أفغانستان ، اسمه باتريوس : ان الآثار الرافدينية كان تم نقلها غير منقوصة ببطن طائرته الخصوصية صوب منطقة بغداد الخضراء . بعيد ليلة ويوم وساعة - لسعدي الحلي البديع أغنية عذبة اسمها ليلة ويوم - من رسالة باتريوس المانعة الجامعة ، تشاطرت وتشطرت الحكومة البغدادية واعلنت عثورها على الصناديق والكراتين المفقودة في مكان اختلف الرواة الثقاة وتنابزوا وتشاتموا حول تسميته ، فمنهم من قال هو مطبخ من متبوعات رئيس الحكومة وقال آخر انه مخزن يتبع نفس الأطيان ، كانت الصناديق قد دسّت وحشرت فيه " خطأ " صحبة أدوات مطبخية منها القدور والطناجر الشبيهة بأخياتها المستعملات في طبيخ وشوربة شارع الموكب أيام حزن رعية بابل على فقد ديموزي ومصيبة عشتار والخواشيق التي تشبه ملاعق سومر والجفاجير والطاوات التي واحدتهن تشبه الطاوة التي كان جلجامش يقلي بوساطتها البيض والطماطة والباذنجان ، والمسبحات مثيلات المعلّقات بجيد الملكة الراحلة شبعاد ، والجطلات والسكاكين والتختات والطباخات ام سبع عيون الشبيهة بطباخات أور وما حولها ، وعلب وعصّارات ومصاصات مايونيز وصاص وكاتشب ومطحونات ثوم ودارسين وهيل وبابونّج وما الى ذلك من مطيّبات ومشهّيات ومغريات كان الراحل العظيم آشور بانيبال مغرماَ بفرشها وطشّها فوق مائدة عظماء ضيوف وضيفات مغارب الأرض ومطالع شمسها ، وتلك - وحقي وحقكم - تسويغات وتفسيرات وتأويلات تكفي وتسد وتغلق باب القيل والقال ، وتزرع الحكومة بواد غير ذي شبهة وعتب وعيب . أما مخلص وزبدة الحكي ، فهو أن ما عاد أو أعيد من آثار انما جاء في باب ترقيع وترميم شقوق الفضيحة العظمى ، وان الباقية من المسروقات في أمريكا الوغدة وأسرائيل وبيت أبي ناجي ، لهي أزيد وأعظم من العائدات ، وفي ختمة مكتوبي هذا ، أتوسل الى رعية وادي الرافدين أن تنزل سبّاباتها وتكف عن شتم الحكومة والتشكيك في طهارة وعفة المطبخ الذي نامت فيه الآثار المضمومة ، ودارت على حولين متصلين !!

الخميس، 30 سبتمبر 2010

الوفاء بالعهود-اضاءة-بقلم حامد كعيد الجبوري


إضاءة
الوفاء بالعهود
( أحميدي الشعار ) إنموذجا
حامد كعيد الجبوري
بخمسينات القرن المنصرم وصولا لمنتصف عقد الستين كان في محافظة بابل شخصية غريبة ، رجل لا يختلف عن بقية الرجال بملبسه ، يرتدي العقال والكوفية – اليشماغ -الأبيض المنقط بالسواد ،وعباءة رجالية وسترة تحتها ما يسمى ( الصاية ) ، أراه يجلس في المقاهي الشعبية ، وهناك مقهى يرتادها طيلة أيام السنة ، إلا بشهري عاشور وصفر ، وشهر رمضان لأن عمله بهذه الأشهر يؤجل للأشهر ما بعدها ، والرجل يجلس بهذه المقهى ليتخذها مقرا لعمله ، وعمله هو أحياء الحفلات لمن يرغب بها ، والحفلات تقام عادة بالزواج وختان الأطفال ، فمن يرغب بحفلة زواج أو ختان يذهب للمقهى التي يجلس فيها ( أحميدي ) للتعاقد معه على إحياء تلك الحفلة ، في اليوم المحدد لتلك الحفلة تأتي الفرقة الفنية ل ( أحميدي ) وهي تتكون من عازف للإيقاع – الطبلة - ، وعازف آخر لآلة ( الدف ) ، وفي بعض الأحيان آلة ( المطبك ) ، يجتمع الرجال بمكان محدد لهم والنساء كذلك ، والأطفال يتنقلون بين آبائهم وأمهاتهم ، في هذه اللحظات تخرج حسناء مرتدية لباسا يشبه ملابس الغجريات ، ولها شعر طويل مسرح ، واضعة كامل زينتها على شفتيها ، وخدودها ، وعيناها ممتلئة بالكحل ، وهي تضع بين أصابعها شيئا يشبه ما تضعه النسوة على أصابعهن وهن يخطن الملابس ، وأعتقد أنها تسمى ( الكشتبان ) ، ولكن هذه الراقصة تضع بين أصابعها كما قلت شيئا مصنوعا من النحاس تسمى ( جنبارات ) ، ولا أعرف معناها ، ومنها تطلق أصوات تبعا لحركة أصابع تلك الراقصة ، كنت أعتقد أن هذه الراقصة امرأة حقا ، ولكن أبي أخبرني أن هذه الراقصة هي رجل تنكر بزي الراقصات ويدعى ( أحميدي الشعار ) ، وحين تنفض تلك الحفلة تخلع الراقصة ملابسها وتعود لتلبس ملابس الرجال ، ول( حميدي الشعار ) ذؤابتان طويلتان يسرحهما ويعقفهما ليضعهما تحت غطاء الرأس ( العرقجين ) ، وحميدي ليس له شارب إلا بشهر رمضان ومحرم وصفر ، لأن عمله يتوقف في الأشهر المذكورة سلفا فيطلق العنان لشاربه ، وسبب حلق الشارب ليوهم الآخرين على أنه أنثى وليضع أحمر الشفاه على شفتيه أثناء أداء مهماته الراقصة ، في بعض الأحيان وعندما يعرف الأطفال حقيقة ( أحميدي ) يفعلون معه كما يصف الممثل المصري عادل إمام ،(العيال بتعمل حاكات غريبه وتكري) .
إحتاج ( أحميدي الشعار ) لمبلغ من المال فماذا سيفعل وهو اللا يملك شيئا ، أقنع أخته – حمديه - المتزوجة في البصرة لبيع مسكن والدهما ، وافقت الأخت لبيع الخربة التي يسكنها ( أحميدي ) ، وبيع الدار للمحسن الحاج حسان مرجان ، وهو خال رئيس وزراء للعراق فترة الحكم الملكي المرحوم الأستاذ عبد الوهاب مرجان ، قبض أحميدي المبلغ كاملا ستون دينارا عراقيا ، وكان ذلك بداية خمسينات القرن الماضي ، وستون دينارا آنذاك مبلغ لا يستهان به ، حينما قبض أحميدي المبلغ لم يخرج منها حصة أخته حمديه ، وتصرف بالمال لوحده وقضى على آخر دينار بجيبه والدار لا تزل باسميهما هو وأخته ، بعد مضي مدة ما أرسل الحاج حسان مرجان محاسبه وصديقه الوجيه ( هاتف الجبار الحساني ) مختار محلة الوردية ، أحدى مناطق الصوب الصغير للحلة الفيحاء ، ليأخذ موعدا من ( أحميدي الشعار ) لإجراء معاملة نقل ملكية الدار ، وحينما فوتح ( أحميدي ) بذلك أطرق مليا صوب الأرض وقال لهاتف الجبار ، ( عمي أبو عامر أنطيني مهلة شو جم شهر وآنه حاضر ) ، أعتقد هاتف الجبار أن ( أحميدي الشعار ) لديه لعبة ما بخصوص نقل الملكية وقال له ، ( عمي شو أنت كاعد عطال بطال وأنت قابض فلوسك شو تعال باجر للعقاري وخل أنسجل البيت لو أنت عندك لعبة) ، أجابه ( أحميدي ) ، ( على بختك عمي والله آني ما سويها ولا أنكر البيعة بس أفلوسي كلهن خلصن وما أنطيت أختي حمديه حكها الشرعي وهو 20 دينار ، كلت لما يجي موسم شغلنه أجمع الفلوس وأنطيهن لحمديه وأخلص ذمتي ، ويعمي أبو عامر حمديه بيتها بالبصره هم يريدلي فد خمس دنانير حتى أروح أجيبها وتعترف بالبيعة ألكم ، وتدري هي أختي خو مو تجي وتصرف على نفسها وآنه أخوها ، لازم أنه اللي أصرف عليها ) ، عاد المرحوم هاتف الجبار لصديقه المرحوم حسان مرجان وأخبره بتفاصيل ما جرى ، والمعروف عن الراحل حسان مرجان سخائه الجنوني ، لذا قرر أن يدفع حصة ( حمدية ) مرة ثانية إضافة لمبلغ عشرة دنانير لحميدي لجلبها من البصرة ، وسلم المبلغ الى ( أحميدي ) الذي رفض بدوره أن يأخذ هذا المبلغ مصرحا بأن ذلك عار سيلحق به إن فعلها ، وتحت التأثير الوجاهوي لهاتف الجبار قبض أحميدي المبلغ وذهب الى البصرة وجاء بحمدية أخته وأجريت معاملة انتقال الملكية للحاج حسان مرجان ، بعد أن أنتهى موسم الركود بعمل أحميدي ، وبالمناسبة فأن أشهر الشتاء تعتبر من أشهر الركود إليه ، لأن الأطفال لا يختنون بهذه الأشهر ، والقلة القليلة من المترفين يتزوجون أيام الشتاء ، والفقراء لا يتزوجون بالشتاء لأن مصاريفه أكثر من الصيف ، ومثلا لذلك من أين سيأتي بأسرة النوم لضيوفه من الأقارب وغيرهم وكما يقال ( الصيف فراش الفقير ) لذا فالفقراء لا يتزوجون شتاءا إلا ما ندر ، ناهيك عن أن موسم الركود بشهري محرم الحرام وصفر ومعروفة طقوسهما الدينية ، إضافة لشهر رمضان حيث تعطل كل المناسبات إلا الدينية منها ، وفي موسم عمل ( أحميدي ) جمع المبلغ الذي أعطاه له الحاج حسان مرجان وهو ثلاثون دينارا وذهب بالمبلغ إليه ، أستقبله الحاج حسان بوجهه المألوف مبتسما له وقائلا ل ( أحميدي ) ، ( آمر عمي أني حاضر شتريد ) ، أخرج ( أحميدي ) مبلغ الثلاثون دينارا وقدمها للحاج حسان مرجان ، قال له الرجل ( عمي هاي شنو ) ، أجابه أحميدي ( هاي القرضه اللي أنطيتنياها ) ، فقال له حسان رحمه الله أنا لم أعطك قرضة مالية وإنما هدية متواضعة لنبلك يا ( أحميدي ) ، أصر الرجل على دفع المبلغ وأصر الآخر على رفض استرجاع النقود لأن الحاج حسان لا يسترجع ما يعطي .
قد يتبادر لذهن القارئ الكريم ما علاقتنا بهذه القصة التي قد نسجت من قبل كاتبها ، وأنا أقول بدوري أنها قصة حقيقية غير منسوجة ويعرفها الكثير من أهالي بابل الكرام ، وأقسم أن المرحوم هاتف الجبار قد رواها لي هكذا ، وربما يتبادر للذهن أيضا ما علاقتنا بقصة ( شعار ) ، وهنا أقول للجميع أن مثل هذا الرجل – الشعار - الذي يعد من قبل طبقات غير قليلة من الشعوب على أنهم لا يستحقوا الاحترام ولا ينجزوا وعدا أبرموه ، ودليل تخطيئهم ما رويت عن هذا الفنان – الشعار - ، ولكن أقول هل أنجز لنا من أوعدونا بأن يصلحوا حال العراق والعراقيين ، وواقع الأمر أنهم أصلحوا حالهم أيما إصلاح وتركوا ممن أوصلهم لكراسيهم يعانون الفقر والحرمان وقلة الخدمات ، بل انعدامها تقريبا ، ألا يجدر بهم أن يتخذوا من ( أحميدي الشعار ) قدوة ودرسا لهم ، للإضاءة ........ فقط .