بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الاثنين، 2 مايو 2011

قصص قصيرة جدا َ-عادل كامل/ بغداد




قصص قصيرة جدا َ

عادل كامل/ بغداد


[ من أنا ]





قرب الرجل المسن الصحيفة التي وجدها بجواره، في المقهى الشعبي الذي اعتاد الجلوس فيه، فألقى نظرة إلى عناوين الصفحة الأولى، ثم قلبها، كي يجد بصره منجذبا ًإلى رسم كاريكاتيري، رسمه مؤيد نعمة، في الصفحة الأخيرة:
ـ " أأنا هو الكلب! " تاه بصر، وهو يقول في نفسه:
ـ " أم أنا العظم الذي في فمه؟" سكت لبرهة، وأضاف بصوت خفيض:
ـ " أم أنا هو هذا الذي لم يعد حتى كلبا ً، في صبيحة هذا اليوم البارد" أعاد الجريدة إلى مكانها، وطلب شايا ً، وراح يحدق، عبر زجاج المقهى، في المارة، مرددا ً مع نفسه، انه لم يعد حتى فائضا ً كي يستغيث، أو يتذمر، أو يموت!
[2010]


[صياد]


هل أطلق النار ...تساءل الصياد، مع نفسه، وهو يصّوب بندقيته نحو الهدف...؟ لا . فقد لمح، في تلك اللحظة، خلف سرب الطيور البيض، قرص الشمس يرسل أشعة حمراء في السماء. ماذا حدث؟ سأل نفسه: ألا تستطيع أن تطلق رصاصة...؟ تجمد، وفمه كف عن النطق، وهو يراقب سرب الطيور البيض يبتعد ويتلاشى أمام بصره، فيما مكث يراقب قرص الشمس، وقد غدا بقعة حمراء، وقد توارى خلف الأشجار. لم يفق إلا وهو يرى، في المرآة، بقعة رمادية لم يستطع التعرف على ملامحها، وما اذا كانت هي التي تخرج منها، أو انها هي التي كانت تتوارى داخلها.
[2011]

[ذكرى]



كان يشاهد فلما ً وثائقيا ً عن الحرب .. لم يبتسم، ولم يحزن، ولم يسأل نفسه كيف نجا من الحرب التي ذاق غبارها، وتنفس دخانها حد الموت. بل وجد بصره منشغلا ً في تأمل يده: خالية من الأصابع تماما ً. لقد فقدها في زمن السلم. ترك متابعة الفلم وحدق في مرآة كانت بجواره، لقد حاول تذكر محياه، فقد كان يرى كتلة رمادية خمّن أنها كانت دائرية، إنما ـ وهو يتحسس محياه ـ أصبحت ذات نتوءات، ولم تعد، كما ألفها، وجها ً بشريا ً. قرب ما تبقى من يده وحدق فيه: هذا ما تبقى في نهاية المطاف!
[2011]



[ في الحرب]
بسبب العاصفة، والمطر، والبرد، والظلام، فقد جرت المعركة بالأصابع، والسلاح الأبيض، والحجارة. ليجد نفسه، بعد ساعات، يستنشق هواء ً باردا ً، ويشاهد قرص الشمس يرتفع ـ من وراء قمم الجبال ـ في السماء. بهدوء، ترك أصابعه تحفر حفرة صغيرة، بين الصخور، ليضع رأسه فيها كاتما ً آخر ما دار بباله: ذلك لان الحرب لم تنته بعد.
[1988]




[ حوار]


سأل المحتضر حفيده، وهو يصغي إلى أصوات هتافات عالية، مدوية، عنيفة، كانت تأتيه من الشارع: أنا لم افعل شيئا ً، فلماذا يطالبون بطردي! تجمدت الكلمات في فم حفيده الصغير، وهو يستعيد مشاهد كان جده يرفعه فيها عاليا ً، وفي مقدمة المتظاهرين. ولم ينس كيف تم إلقاء القبض على جده، في الأسبوع الماضي، ولم يعد إلى الدار، إلا وهو يردد: لم أفعل شيئا ً، فلماذا يريدون إسقاطي، وطردي من المدينة! تابع الجد النطق بصعوبة وهو يرى حفيده يبكي بصمت: تلك هي الحياة يا حفيدي، فأما أن تكون صيادا ً، حاذقا ً، وأما أن تجد نفسك وقد تحولت إلى طريدة. لكن الجد لم يبح بآخر ما دار بخلده: لا تخف، فالحياة تطرد الجميع!
[2011]

[ بحث ]




فصلوا رأسي عني وطلبوا مني أن أغادر. فعلت. وأنا اهرب تعثرت بصخرة رفعتها ووضعتها فوق راسي، ورحت أتلمسها، فعثرت على حروف كانت تتبعثر، وتتناثر، فحاولت جمعها ومعرفة من يكون صاحبها، فلم استطع، وها أنا مازلت ـ منذ نهاية العصر الذي ولدت فيه ومت ـ أقوم بالبحث عن صاحب الرأس، الذي بدوره، هامسا اخبرني، يجهل الجسد الذي يشاركه البحث!
[2011]



[مرآة]


حدق في المرآة، منشغلا ً بالبحث عن لون خال ٍ من التفاصيل، فنهض، كما في كل مرة، وفتش في غرف البيت، وفي الحديقة، وفي سطح الدار، ثم خرج إلى الشارع، وبحث في الأزقة، والمقاهي، دون أن يعثر على اللون الرمادي الذي ظن انه رآه ذات مرة، في المرآة. وكما في كل مرة، يعود، في آخر الليل ـ منهكا ً ـ إلى البيت، فيترك جسده يستقر فوق السرير، من غير أحلام.
وفي صباح اليوم التالي، قرر أن لا يبحث عن هذا الذي ـ تخيّل ـ رآه، لأنه، وهو يمسك بالمرآة، لم يعثر على علامات، أو نهايات، أو ألوان تدل على وجود محياه. لم ينهض للبحث عن الذي رآه في ذات مرة، لا في غرف البيت، ولا في الحديقة، ولا في المقاهي، ولا في الشوارع، بل، في آخر الليل، لمح المرآة تمشي، فمشى خلفها، فدخل صالة الاستقبال، ثم ذهب خلفها إلى المطبخ، ودخل غرفة النوم، من ثم عاد يمشي خلفها في الشارع، وفي الأزقة، وأخيرا ً رآها تعود إلى البيت، فجرا ً، وكان يرى فيها ملامح رمادية لوجه جعله ينهض، ليفتش عنه في البيت، وفي الحديقة، وفي سطح الدار، من ثم ..أخيرا ً قرر أن يرمى المرآة في النهر! آ ... كانت ثمة مرايا لا تحصى تحدق فيه، الآمر الذي جعله يسأل نفسه: والآن ما العمل؟ آفاق فجرا ً، وكانت أصابعه منشغلة بجمع شظايا زجاجية متناثرة فوق الأرض، وفي الحديقة، وفي سطح الدار، وفي الأزقة، وفي المقاهي..ليلمح، بشرود، أدق أجزاء محياه موزعة في الشظايا، وهو يجمعها، ويضعها في كيس، بانتظار أن يجد لها مكانا ً يخفيها فيه بعيدا ً لا عن المارة، ولا عن الآخرين، بل عن عينيه، وهما تبحثان عن مرآة جديدة.
[2011]




[هل كنت أفكر؟]

هل كنت أفكر؟ لم تجد الآلة التي أمضى البروفسور س سنوات طويلة في صنعها، جوابا ً. ذلك لأنها كانت ـ ذاتيا ًـ تدرك أن س، هو الأخر، كان يسأل نفسه السؤال ذاته، لكنها أجرت مقارنة سمحت لها أن تقترب منه، وتداعب ما تبقى من خصلات شعر رأسه البيضاء. كانت فكرة س أن يمضي ابعد من صناعة جهاز تكتمل فيه الدورات: البصر/ الإحساس بالفراغات/ واختلاف الملامس/ والبحث عن صلات مشتركة بين الحدود، بعد أن كان قد جعل جسده ـ ودماغه ـ وأحاسيسه كلها نموذجا ً لجهاز يتعلم كيف لا يستعين به، أو بسواه. لم يصدر الجهاز صوتا ً مرتفعا ً كي يسأل البروفسور س ما اذا كان مضطربا ً بسبب أن الجهاز بلغ درجة الاكتفاء بالعمليات كافة، ومنها، معالجة مشاعره بالأسى، والمسرات، والاكتفاء بعمل يحد من الرغبات أو من الخمول، هامسا ً، بذبذبات لا مرئية، قرأها س، فهز رأسه، استجابة مبكرة لذاتية عمل الجهاز.
ابتعد احدهما عن الآخر. س تمدد فوق سريره الخشبي للاستراحة، فيما كان الجهاز يقف عند بابل المشغل، منشغلا ً بتسجيل درجات الحرارة، والأصوات، والإشعاعات، والروائح، والمؤثرات اللا مرئية، ويدون ـ في ذاكرته ـ ما كان يصدره س من ذبذبات، وموجات مشفرة، وعلامات مخبأة بإحكام، ومن باثات للتمويه، ليست حرارية، أو صوتية، بل وغير قابلة للقياس، أو الرصد. كان يجمعها، إلى جانب عمله الرقمي للبيانات الأخرى، ذات الصلة بالمحيط الخارجي. فأدرك الجهاز، أن هناك، بينه وبين س، فجوة انه لم يعد يجهل ما كان يدور في عقل، وجسد س، فيما كان البروفسور، قد اكتشف لذّة في الكف عن المراقبة، والرصد، متلذذا ً بترك لا وعيه ـ مع الجهاز ـ في استكمال برنامجه، وقد حفزه للعثور على محفزات صاغها في ذاكرته، بأنه لم يعد شبيها ً بمعلمه، إنما لم يعلن ذلك، لان معلمه ـ هو الآخر ـ ليس شبيها ً به، إنما كان، كلاهما، يستكملان الدورة، بما فيها الحافات غير المنغلقة، لم يبتسم الجهاز، ولا البروفسور، فقد كانا يرصدان صمتا ً راح يمحوا ما سجل في البيانات السابقة. آنذاك راح الجهاز يسأل نفسه، السؤال الذي طالما شغل البروفسور س: هل كنت أفكر؟


[ في ذات صباح]

وهو يعبر الجسر، من اليسار إلى اليمين، استوقفه مشهد صبية، عند المنتصف، كانوا يقذفون، إلى الأعلى، قطعا ً صغيرة من الخبز، فتقترب النوارس منها، لالتقاطها قبل أن تسقط وتعود إلى النهر، نهر دجلة، في يوم حرارته مرتفعة. كانت النوارس تراقب حركة أصابع الصبية وقد انقسموا إلى فريقين، الأول يرمي فتات الخبز، فتحاول النوارس التقطاها، والآخر يقوم بقذفها بالحجارة. لم يجد الكهل وقتا للتفكير، فقد كان متأخرا ًعن موعد عمله، لكنه وجد جسده يتوقف عن الحركة، مرددا ً في نفسه: أي كمين هذا .. أي كمين ...! ثم عاد يراقب ـ بشرود ـ المارة يعبرون من اليسار إلى اليمين، ومن اليمين إلى اليسار، غير مكترثين إلى المشهد. وبصره مشغول بمراقبة أصابع الصبية، كم كانت نحيلة، ودقيقة، وهي تقذف قطع الخبز إلى الفضاء، فتتوجه النوارس نحوها لالتقاطها، فيسرع الفريق الآخر من الصبية لمهاجمتها كأهداف أصبحت مباشرة وبالإمكان إصابتها من غير جهد أو أخطاء تذكر. حاول الكهل أن يفتح فمه، أو أن يصرخ، أو أن يستغيث، لكنه فشل. فحاول لفت أنظار المارة لما يحدث، لكنه لمح أن صبيا ً كان يحمل سكينا ً، فوجد جسده يتراجع، خطوة خطوة، من اليسار إلى اليمين، لكن النوارس كانت مازالت تحوّم بيضاء في الفضاء تاركة، في بصره، ومضات تشع لونا ذهبيا ً تارة، ولونا ً فضيا ً تارة أخرى، وهي ترتفع إلى الأعلى، فيما كانت أنامل الصبية، لا تكف عن إصابة أهدافها.
[2003]


[ظلال]
" أرجوك، أرجوك ... دعني أصغي إلى صوتك. فأنا اعرف انك لن ترد على أرقام لا تعرفها، لكني لست رقما ً ..... مجهولا ً" قرأ الرسالة، ، ثم سأل نفسه: من يكون ...من تكون .. صاحب هذا/ هذه الرسالة؟ كانت آخر رسالة وصلته، عبر الهاتف، سمحت له أن يكتب كلمة واحدة: من..؟ فجاء الجواب بكلمة واحدة أيضا ً: النهر!
لم يكن مستعدا ً لإجراء مراجعة رموز نصف قرن وفكها ليجد معنى ما لكلمة نهر. لكن ذاكرته قفزت إلى مشهد لم يمح ولم يندثر بين ملفات حياته المزدحمة بالمشاهد، والصور. تذكر انه عبر النهر مع فتاة اضطرته أن يفعل ذلك، في زورق خشبي صغير. كان ذلك قبل عشرين سنة. قبل دهر، دار بخلده، لكن لا احد صدق حكايته تلك، وهو ـ نفسه ـ عدها وهما ً. ها هو يصغي إلى كلماتها تتحدث عن زورق يتقدم ضد التيار، مارا ً ببساتين النخيل، ويتوقف الزورق عند ضريح يطل على النهر، لصق الماء. كانت تقول له أنها ـ مع زميلاتها ـ يجئن إلى المزار، ومع كل واحد وردة، وكل فتاة منهن تقوم بقطف جزء منها، فان كانت النهاية أحادية، فإنها لن تحصل على فتى أحلامها. أما أنا ـ أصغي إلى صوتها يأتيه صافيا ً ـ وفي ثلاث مرات، يكون الرقم زوجيا ً.
رن الهاتف. الرقم المجهول ذاته. تركه يرن، فيأتيه الصوت ممتزجا ً برذاذ الماء وبرائحة عطر طالما قاده إلى مكانها، متموجا ً، انما غاب بصره مع خصلات شعر امتدت مع الموج، كان يراها ترتفع حيث ينابيع النهر، هامسا ً: لا توقضيني. ولم يجد بدا من الإصغاء إلى الصوت:
ـ " سألت: من؟ قلت لك النهر. الآن أقول لك: أنا ..من .. معك ..ذهبنا إلى أعالي السماء"
لم يعد يرى نهرا ً، ولا أمواجا ًـ ولا مزارا ً، ولا خصلات شعر سود تتموج مع الماء، لم يعد يرى فضاء ً أو غيوما ً رمادية تتلبد في السماء، لم يعد يرى ... أو يصغي .. أو يتنفس رائحة عطر وردة تمسك بها أصابعها، اثر مرور طائرة أعقبها صوت انفجار ... دوى تاركا ً صداه يملأ الفضاء ..."
ـ " أنا قلت لك لا استطيع أن اذهب معك ... بعيدا ً "
ـ " لِم َ تركتني .. أغادر ...إذا ً ....؟"
إنما كان ـ شاردا ً بصوتها ـ قد ترك لا وعيه يراقب ابتسامة مختزلة، لا صوت لها، وقد ملأت محياها حتى لم يفكر في انه حلم أن تكون أمامه فيما قالت له إنها عثرت على فتاها، تاما ً، وإن لم تكمل نهاية ما اذا كان العدد فرديا ً، أو زوجيا ً. كان للطائرة لون امتزج بالدوي فيما كان الزورق ينحدر مع التيار.
حدث ذلك عندما كانت الغيوم تتلبد، لتظهر فجأة طائرة تخترقها، وأخرى كانت تتبعا تاركة أزيزا ً حادا ًن فيما كان الزورق ينحدر مع الماء وسط النهر. وسط دجلة. ويرى ظلا ً بلوريا ً لفتاة لم تجتز زمن ورتها، بعد أن تركتها تذهب مع الموج، من شدة فزعها، وهي تراقب مرور الطائرات. رآها تملأ الفضاء بصمت فراح يراقب مسافته، إلا انه قال في نفسه، كان الرقم صفرا ً.
كالنائم، والزورق مازال ينحدر مع الماء، قال انه لن يصل إلى البحر أبدا ً. فيراها تثب نحو الساحل، فيهرول ـ هل هرولت؟ ـ للامساك بظل رآه يغيب، فيسأل نفسه: من؟ كي يصغي إلى صوتها يأتيه من البعيد: أنا هي من مازالت تسكن معك النهر، وبصري مازال يراقب خطاك تمشي فوف الماء.
[1991ـ 2011]

ليست هناك تعليقات: