بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الثلاثاء، 22 يناير 2013

إضراب رمزي وعام-عادل كامل





إضراب رمزي وعام


    [ هذه القصة مهداة إلى أطفال الحجارة: أبناء المستقبل، وهي تتحدث عن قوة البراءة تجاه الظلم، وكأنني كنت أتوقع الثورة التي حدثت بعد ست سنوات. وقد نشرها، الأستاذ محمد الجزائري، بشجاعة، في مجلة (فنون) البغدادية، بتاريخ 4/7/1982]

عادل كامل

     عندما عدت إلى بيتي في يوم شديد الحرارة، مساء ً، استقبلتني زوجتي مذعورة، خائفة. وقبل أن تدعني اذهب إلى غرفتي، جرجرتني من يدي إلى غرفة الأطفال.
ـ " ماذا حصل؟"
     للحظة وجيزة تجمدت، فقد تصّورت أن سوءا ً ما أصاب احد الصغار الثلاثة، وهو سوء متوقع بسبب المرض أو غير ذلك. ثم أن مدينتنا كانت قد شهدت بعض حوادث العنف وغيرها من الأسباب التي جعلتني غالبا ً أعيش حياتي بقلق واضطراب، إلا انها قالت:
ـ " كلا ..لم يحدث ما تصورت .."
     فدار بخلدي حالا ً أن الأسوأ هو الذي حدث ومع ذلك سألتها بهدوء:
ـ "ما الذي حدث بالضبط؟"
     حدقت في ّ كأنها خارجة من عالم سحيق مجهول بنظرات حادة ارتسمت فيها مخاوفي الخفية دفعة واحدة، وتمتمت بصعوبة ملحوظة:
ـ " أطفالك اضربوا عن الطعام!"
     ابتسمت، لم تكن هي ابتسامة اللامبالاة أو عدم الاكتراث، ولم تكن هي ابتسامة السخرية التي طالما ارتسمت لدي ّ، وإنما ابتسامة الذهول، المشوب بسمة الغموض القدري، قلت في نفسي: كل شيء يحصل.  وسرت بخطوات رجل لم يبق له في الحياة الكثير كما لم يكن له منها القليل. ووقفت أمام الباب أحدق في الأطفال الثلاثة. كانوا واجمين صامتين كأنهم تلقوا حكم الإعدام أو كأنهم داخل زنزانة موصدة بإحكام، تراجعت إلى الخلف، بيد أن زوجتي رفعت صوتها:
ـ " هيا، ادخل .. وعالج الأمر.. فهم منذ الصباح لم يتناولوا شيئا ً" 
     حسبت الأمر محض مزحة، أو قصة طريفة ترويها الأم لأطفالها قبيل النوم. لكني تذكرت قصة الإضراب الذي أعلنه أطفال حضانة مدينتنا قبل أسبوع، فخشيت ان يكون ان هناك شيئا ً من الصدق. سألتها:
ـ " لماذا ..؟"
ـ " آ ...لماذا تسألني .. أنا لا أ‘رف ..."
    استسلمت، فقد كنت اعرف أطفالي جيدا ً رغم أن أكبرهم لم يتجاوز الثالثة من عمره. أما الأخير فكان بالكاد يحبو . كنت اعرف عنادهم اللعين، وحركاتهم المؤذية، وصمتهم، وصحوهم المخيف. وللحق فإنني منذ ولادة الكبير غيرت حياتي برمتها واستسلمت لحياة خاصة قلت انها هي حياتي وسأعالجها بنفسي. فانا رجل لا أتوقع أن أعيش طويلا ً، رغم تأكيدات الأطباء المغايرة لذلك، إلا أنني، في الغالب، كنت استسلم لمخاوف وأمراض ذات آلام مبرحة عنيفة فاهرب إلى غرفتي واجلس فيها وحيدا ً أعالج حالتي المرضية بوسائلي الشخصية، تارة أصلي، وفي الغالب اشرب الخمر بدوافع زهد ثمنه، رغم ندرته والجهد الفادح المبذول في الحصول عليه، وهناك امكث يوما ً أو بعض يوم حتى أفيق فاذهب إلى دائرتي. في العمل أؤدي واجبي المحدد لي. وهو واجب وهمي غالبا ً لأنني أؤديه في البيت أو لأنه لا يوجد لدي ّ أي واجب بالمعنى الدقيق، وهكذا أتخلص من حالة المرض والألم بسبب التخدير.. ثم في لحظات خاصة، اجلس لأصلي ساعة كاملة أو أكثر وقد قلت أن عقاب الله يخصني وحدي لكني بدوافع فوضى الحياة قلت أن الآخرة كانت ـ أقصد الجحيم ـ بهذا المستوى من التشوش والعذاب غير المنظم فأنني سأكف حتى عن الصلاة بل حتى عن تذكر نعم الحياة و .. ضحكت مثل مجنون لأنني لم اعرف منها غير ما يجعلني أؤمن بأساطيري الذاتية وحدها لكوني قد تخليت عن كل شيء عدا حياة اقضيها مع هؤلاء الأطفال الثلاثة وأحيانا ً مع أمهم التي هي، في كل الحالات، سقط متاع الحياة بالمعنى العام للكلمة.
     وجاء صوت زوجتي لينبهني. قلت لها:
ـ " حسنا ً " وسألتها:
ـ " متى أعلنوا الإضراب ؟"
ـ " منذ الفجر"
ـ " لننتظر حتى ساعة أخرى ..."
     وحدست انها فكرت بعدم اكتراثي حتى لأمر خطير كهذا الأمر، إلا أنني أقنعتها بأنهم سيعودون إلى رشدهم وسيعودون إلى تناول حليبهم اليومي، لكنها حدقت في ّ كأنها تود لو محتني من الوجود. قلت لنفسي: كان عليها أن تعرف ذلك منذ زمن بعيد. إلا أنني عدت إلى غرفتي بعد أن طلبت منها إلا تعذب نفسها بدافع إضراب وهمي أو حقيقي. وهنا، بعد أن جلست في غرفتي تذكرت الحرب التي خضتها وكدت أموت فيها بعد ان مات عشرات المقاتلين، تذكرتها بهاجس أقوى من نسيان تلك الأيام المرة.. فقد كانت الحرب وهمية أيضا ً! فقد كنا في بيروت في تلك الأيام نقاتل    بقيادة ...، وربما يكفي أن أتذكر المخيمات التي قصفت وآلاف النساء والأطفال والشيوخ الذين تركوا تحت الشمس بلا طعام أو رحمة. حتى أنني كدت أطلق النار على راسي بدافع الاحتجاج على السماء. لكن ما هو ذنب السماء ...؟ وقاتلت العدو وجها ً لوجه. إلا انه كان أقوى منا بأسلحته المتطورة. كما لا اعرف .... وصليت، ورحت أؤدي رياضة الروح بقلب متورم وأنا أكافح الآم الجسد المختلفة في الصدر والظهر والساقين لدرجة أنني كنت اغني لو لم اعد من الحرب أو أن الحرب لم تعد معي بهذا الأذى أو أن حياتي قد كفت عن الاحتضار الأزلي الذي أحسست به منذ زمن يرجع إلى أيام طفولتي المبكرة.
    رحت أتناول عقاري الروحي اليومي وأنا عالج قضية واحدة فقط: هل أعلن أطفالي الإضراب حقا ً؟ ماذا سنقول للشرطة لو انتشر الخبر وتناقلته وكالات الأنباء والإذاعات الخاصة بسرقة الأخبار وشرائها بأثمان باهظة، وهنا فكرت شخصيا ً ان أبيع هذا الخبر! لكني انبت نفسي بعد صلاة جديدة وقلت أنني أنا الذي سيحاكم بعد ذلك ـ هل اضربوا حقا ً وضد من ..؟ تلك الأسئلة استجدت داخل راسي كأنها قصف معاد لمواقعنا في جبهات القتال، وكدت انهض وأتعرف الأمر بنفسي، لأنني حسبت أن زوجتي لم تنقل لي الخبر بشكل دقيق، ثم انه لم يحدث لطفل في عامه الأول  أن أعلن الإضراب عن تناول حليبه. لكني  وأنا استعيد تفاصيل خاصة بحياتنا العامة، صدقت الأمر وفرحت له! وللحق انتابني رعب أن تكون مسرتي قد بلغت ذروتها أو حدها الأخير! آنذاك تكون النكبة قد وقعت، وهي نكبة أخرى تخص حياتي الشخصية، أما النكبة العامة فواقعة لا محالة. ولكن من ذا الذي سيشي بفرحي هذا؟ فزوجتي لا يمكنها أن تفعل ذلك وتتعاون مع البوليس السري، كما لم تكن على معرفة بدواخلي الخاصة النائية التي حرصت أن اكتمها داخل ممرات مشفرة بالكتمانات والتمويهات المعقدة، فضلا ً عن انها لم تكن تتمتع بهذا الذكاء للوشاية بي!
  طرقت الباب:
ـ " نعم"
     وأصغيت لكلمات زوجتي، وهي تبدو لي، أكثر استسلاما ً لقدرها المجهول، ولكني لم امنحها الحرية التي كانت هي سبب في فقداني لها! وكدنا نتشاجر حول الأمر هذا، إلا انها فشلت في إدانتي أو في إيذائي! وهو فشل احسبه النجاح الأخير الذي حققته في حياتي! وذلك بسبب موضوع إضراب الأطفال عن تناول طعامهم منذ الفجر. نهضت وسرت وحيدا ً إلى غرفتهم.
قال الابن البكر:
ـ " هالو ..  بابا "
ـ " هالو ..." 
     وجلست عند حافة السرير، حيث ساد الصمت التام بيننا، وعندما حاولت التحدث معه، وجدت نفسي محاصرا ً بخيبة عميقة، وأكيدة، إلا أنني بعد ذلك بنصف ساعة سألته:
ـ " ولن تتناول حتى الحلوى ..؟"

ـ " نعم"
     وأغلق فمه بإصرار غريب. كم كان جميلا ً وهو يخفي قرارات لم تصدع بعد.
ـ " آه ..اذا ً ..حقيقة .. أيها الملعون ..."
ـ " أرجوك ..!"
     كان ثمة شحوب قد ارتسم فوق محيا الطفل الثالث، لأسباب غامضة، على الرغم من أنني انفق نصف دخلي لمعالجة أمراضه دون جدوى، وها هو يرفض تناول الحليب.
    ومضى وقت آخر فشلت فيه  في إقناع أيا ً منهم بالتراجع أو التخلي عن فكرة الإضراب، وأدركت عميقا ً أن روحا ً شريرة تقودهم وتجعلهم بهذه الصلابة. "ليكن ...." وقلت في نفسي: انهم أحرار في أن يموتوا ... فانا فكرت أن أتخلص من حياتي قبل ربع قرن أيضا ً لولا أن ذاتي تصالحت مع اللامبالاة وتركت الأيام تأخذ مسارها نحو خاتمتها الزائلة. فجأة سقطت فوق ارض الغرفة من شدة هستيريا الضحك:
ـ " يا رجل ...!" وأضاف ولدي الكبير:
ـ " على من تضحك ...؟"
ـ " على نفسي ..." قال بصوت خفيض:
ـ " هذا جيد!" 
     ونطق الثاني بصوت رزين هادئ:
ـ " لِم َ لم ْ تشترك معنا في الإضراب...؟"
    في لمحة وجيزة استعدت لحظات عنادي عندما كنت في الثالثة من عمري. كان ذلك بمثابة لغز لم أفصح عنه وقد دفنته عميق ً في مدافن روحي، لغز أنني لم استطع الطيران! ولا المشي فوق الماء! إلا أنني ـ بمرور الأيام والسنين ـ تخليت عن أحلامي، وصرت ارتعب ذعرا ً من كل مخلوق يمتلك تلك القدرة: لِم َ لا تشاركنا الإضراب! ربما ـ بل يقينا ـ كان يسخر مني، ويرغب أن يحولني إلى هزأة! فكدت أقول له: وأية فائدة ترجى من الإضراب؟ والمقاومة ستباد ...!  قال بصوت حاد:
ـ " إنكم  انتم أيها الكبار ساعدتم العدو ... على ما يجري الآن!"
ـ " اسمع، أنا لا علاقة لي بالعدو ..."
ـ " بل أنت العدو ذاته"
    تكلمت بعد أن تنفست بصعوبة، وبعد أن أشعلت سيكارا ً جديدا ً:
ـ " ربما .. ولكنني ..."  قاطعني الولد البكر:
ـ " دعنا نتحدث هنا... نحن لا نريد أن نغدو كبارا ً مثلكم.."
     لا اعرف لماذا ارتج جسدي دون أن امتلك قدرة السيطرة عليه. ربما تخيلت فتيل الإضراب قد بدأ  من هنا وعم الجميع. ماذا سيحدث بعد ذلك؟ مرة أخرى سأجرجر إلى مراكز الشرطة وأذل هناك بدافع إنسانيتي ذاتها، لا احد يستطيع أن يفهم عذابي، وحساسيتي. 
كدت اصرخ واستعمل صلاحيتي بوصفي أبا ً في إنهاء الإضراب، لكنني خجلت من ذلك وقلت أين هي إنسانيتي اذا ً!
     مضى زمن ثقيل مثل كابوس تذكرت عبره صديقا ً لي كان لا يؤمن بالكوابيس وهو يقول لي: إننا نستطيع أن نطردها كما نطرد شبح الموت! لكن جسدي نز عرقا ً باردا ً، وتنمل، وأحسست بالخدر يدّب في أطرافي، وبالوهن، حتى حسبت أنني سأسقط ميتا ً كما حدث ذلك لأحد المقاتلين ذات مرة عندما راح يتحدث بحنان غريب عن أطفاله وزوجته ومشاريعه القادمة، ثم بعد ذلك بدقائق ابتسم ومات! لكنني لم اسقط ميتا ً، بل نهضت وأنا أقول لهم:
ـ " اذا لم تنهوا إضرابكم فإنني ..."
ـ " ماذا تفعل ..؟"
     صرخ الثالث بلغة رجل عنيد:
ـ " اذهب واخبر الشرطة ...؟"
ـ " أيها الوغد .. لِم َ تذكرني بالشرطة ...؟" 
     ضحك حالا ً ونطق من غير خجل:
ـ " كنت احسب انك ستتحدث عن الشرطة الإنسانية! أيها الرجل، أيها الأب، لا توجد مدينة فيها شرطة يمكن أن توجد فيها إنسانية..  وأنت تعرف الباقي .."!
     فقدت السيطرة على غضبي، فقد دار بخلدي، أن أعدائي ـ الآن ـ أقوى من أعدائي في الماضي! هل وهنت؟ وكدت أعلن ـ من غير تفكير ـ الإضراب واشترك معهم في الملهاة العامة. وللحق كنت في ذات يوم قد أعلنت عن رغبتي الأكيدة اختيارا ً للتخلص من حياة وضيعة يتحول فيها الأعرج الخسيس إلى بهلوان يعلمنا فيها الرقص، والأعمى  يبهجنا بشفافية الألوان، والأحمق يغوينا بالمسرات، والنذل يصبح قدوة لنا! لكني  شربت، وشربت، وشربت السم المر حتى وجدت الموت مستحيلا ً! ثم بدأ نبض الحياة الغامض يحرك في ّ رغبات بدائية ملغزة أعادتني للمشي في دروب التراب، والناس، برأس لا اعرف كيف توارى ولم يبق منه إلا بقعة مازالت تلتصق بجسدي القديم.
ـ " لن أموت ..!" ورفعت صوتي فجأة:
ـ " سأذهب إلى غرفتي ..ولن اخرج منها!" 
   قالوا بصوت واحد:
ـ " لن نخرج أحياء من غرفتنا ... اذهب وقل للجميع إننا أعلنا الإضراب "
   حسنا ً، ابتسمت بمرارة، وقلت لهم:
ـ " ما هي مطالبيكم إذا ً ...؟"  صاحوا بالصوت العنيد ذاته:
ـ " لا مطالب لدينا ..."
    وهنا ومضت خاطرة في راسي حول الأجناس، ومختلف الزواحف، والثدييات،، والنباتات، والمزدوجات، والمثليات، والمخنثات، والمخصيات، خاطرة أنها محكومة بزوالها قبل أن يكون لها أي فعل يستحق عناء التفكير، كلها، ختم عليها الزمن بمحوها، فلم َ الاضطراب؟ إلا أنني خفت أن يكون جنسنا لن يتعرض للانقراض بهذا اليسر، فقد تمتد الحياة حتى تستكمل دورتها!  الأمر الذي يجعل الإضراب يمتد ولن يحدث الانقراض حتى بهلاك ثلاثة أطفال دون سن الثالثة من أعمارهم! فهناك أطفال يولدون يوميا ً في المزارع، وفي الشوارع، وفي المختبرات، ومن شتى الأنواع والأشكال، من غير أباء أو حتى من غير أمهات، فالعالم تبدل.. سيولدون ويتكاثرون وسيحلون محلنا، ولا احد سيذكر أننا كنا في يوم ما، إلا كمنقرضات لم تترك إلا رمادها، وشخابيط فوق الجدران، وخرز في المدافن. فلم الحزن، ولم الأسى؟ لكنني لم امتلك إلا رغبة بالبكاء. فقال احدهم:
ـ " أسمع، الأجدر بك أن تذهب وتقاتل ..."
   هنا وجدت نفسي اعترف بصراحة أنني سأذهب متطوعا ً، لأنني ذهبت لكنهم لم يسمحوا لي أن افعل شيئا ً. اللعبة محكمة أيها الصغار. وتابعت أقول لهم أنني كنت أفضل الموت في خنادقنا على أن أبقى قيد الاحتضار ولأي سبب من الأسباب. أو اهرب بعيدا ًبحثا ً عن ملاذ امن. وتابعت أقول لهم أنني سأعود إلى غرفتي واترك لهم حريتهم في مواصلة الإضراب أو .. الكف عنه !
    فجأة وجدتهم يصفقون لي! بيد أنني عندما شاهدت الشحوب يرتسم في محياهم أحسست برعب وخوف جعلاني أتسمر كتمثال أمامهم. فقلت بصوت لا يخلو من قوة:
ـ " لن نباد.. لن يباد نوعكم .. لن تنقرضوا ..."
ـ " نعرف ذلك!"
ـ " إذا ً ...."
    هرولت أغادر غرفتهم. كي أعود وحيدا اجلس دخل جدران بدت لي كقبر سد بعناية، وحيدا ً كحصاة دفنت في كوكب مهجور. وفي وحدتي تلك رحت استعيد بعض أدق التفاصيل التي تخص عائلتي، إلا أنني وجدت نفسي استسلمت أخيرا ً لأحلام وخواطر شتى: فانا لست السبب الوحيد ...في وجودهم! ولست أنا هو من سرق حقوقهم، وانتزع أحلامهم، وفرط في مصائرهم! لكني أحسست بالزمن يغادر حلقاته في المشي، فها هو يسرع، كومضات، لا تجد من يعترضها. فمضت الساعات، والأيام، والسنين... وحالما أفقت من الكابوس، أصغيت إلى صوت يخاطبني. قلت لزوجتي:
ـ " ماذا ....؟"   فقالت بصوت مرتبك، عال ٍ:
ـ " أنا ذهبت وطلبت الشرطة ..."
ـ " الشرطة .. لماذا ..؟"
     كان جسدي قد ثقل فالتصق بالأرض، ومع ذلك نهضت من غير أن اسمح لأحد بمساعدتي، أو لمسي، أو مد العون لي. كنت أعرف انهم جاءوا لاعتقال الأطفال، وكنت اعرف ما الذي سيحدث، هناك، في الزنزانات، والسراديب، والغرف الحديدية الموصدة. أسرعت إلى غرفة الأطفال وخاطبتهم:
ـ " أنا السبب ..." وتابعت:
ـ " وأنا سأعلن الإضراب وامتنع حتى عن التنفس، أو استنشاق رائحة هذا الهواء ..."
ـ " لا .. لا تفعل ذلك"  فقلت لهم:
ـ " كانت ... حياتي .. توشك على الانتهاء ... وها هي ... بلغت نهايتها"  قال احد رجال الشرطة هامسا ً في أذني:
ـ " أسكت، لا تحرضهم .. إن كلماتك خطرة ..." فقلت ساخرا ً ، لكن بألم دفين:
ـ " هم الذين يحرضوننا، أيها السيد الشرطي ..فهم وحدهم يعرفون ماذا يحدث، بعد الذي حدث لنا..."  فسمعت شرطيا ً يقول لرفيقه:
ـ " إذا ًهذه هي العائلة التي بدأت شرارة الإضراب ....وأوقدت الفتيل ..."!
     بمسرة، وأنا أحتضر، والفظ أنفاسي الأخيرة تخيلت أطفالي الثلاثة يصعدون إلى السماء. فقد كنت أرى طيورا ً بيضاء لها أجنحة ترفرف تاركة نسمات لها عطر جذور الأشجار، كانوا يحتفلون، وهم يهبطون من الأعلى إلى الأسفل، ويدورون في الفضاء، ففقدت الإحساس بالألم، وزال الخوف، وفيما بعد، بعد ساعات، وشهور، وسنوات، كنت استقبل آلاف الأطفال وهم يحلقون بنا إلى مملكات نائية، بيد أن أشعة الشمس كانت ما تزال حادة تملأ سماء مدينتنا، وأرضنا، وحقولنا، وأقاليمنا، وعواصمنا، وهي تعلن إضرابها الجديد.
[ 4/7/1982 مجلة فنون]

ليست هناك تعليقات: