بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الأحد، 6 يناير 2013

قصة قصيرة-رماد-عادل كامل



قصة قصيرة

رماد
عادل كامل
     ما الذي كان سيفعله في تلك اللحظات، في تلك اللحظات على وجه التحديد، عندما لم يجب صديقه على سؤاله؟ أيكرر السؤال أم يعود إلى صمته الخاص..؟ لا يعرف لماذا لوى رقبته وحدق في وجه صديقه، ليتجمد الدم فيه.
-         ماذا ؟ ..
    في جزء وجيز من الثانية، بوعي لا إرادي، التقط صورة لصديقه. لقد تذكر كلمات قديمة حول عمله الصحفي: " لا تدعك لصا ً يسرقك إلا وقد ضمنت ربحك.." هنا. أبتسم..فأكمل إلتقاط الصورة، لكنه، وفي الذهول الذي تلبسه، رفع صوته:
-         لقد صورتك..يا صديقي العزيز..!
   هناك عدد من القرويين ينظرون إلى المارة. طلبة. محامون يبحثون في قضاياهم اليومية..فقد كان المقهى يقع لصق المحكمة الكبرى، وبالقرب من أكبر أسواق المدينة.
    هز المصور رأسه أستجابة لفكرة قالها له صديقه، قبل ربع قرن، فكرة أن يصور كل ما يحدث ويدور ويتجمد ويتعفن في المقهى..فكرة راقت له.. وعملياً لم يترك المصور زاوية من زواياها، أو ركناً لم يصوّره..فقد صور الشيوخ الطاعنين في السن، الواحد بعد الآخر، حتى قيل أنه صور جميع مواليد (1910) الذين ماتوا، في هدوء..ذلك لأن الأبناء وأحفاد هؤلاء الموتى كانوا يتطلعون إلى صوره النادرة التي إلتقطها في مختلف الأزمنة، كما صوّر مختلف الألعاب التي مارسها الرواد: الطاولي..الدومينو.. الورق..الشطرنج وغيرها من الألعاب السرية أو التي لا أسم لها.. وقد حاول صديقه أن يقيم له معرضا ً وثائقيا ًيصوّر فيه عالم المقهى الغريب، وتاريخه.  لكن الأخير لم يكن، في أي يوم من الأيام، مولعاً بالشهرة. فقد كان يؤدي واجبه مصوراً هاوياً، ثم موظفاً صغيراً في مجلة أسبوعية شبه مغمورة وكان يعيش بعيدا ً عن الأضواء. وبلا ضجات..وهي الحياة التي تماثل حياة صديقه الذي أدرك، منذ عقد في الأقل، أن الحياة غير جديرة بالصخب.
    وعندما عاد ونظر في محيا صديقه الشاحب، لا يعرف لماذا تذكر هؤلاء الشيوخ، الذين لم يبق لهم، في الحياة أو العمر، إلا النوم حتى ساعة أقفال المقهى، حيث يأتي النادل ويخبرهم بذلك. فينهضون كسالى، كل منهم يسير نحو مستقره الأخير، في غرفة من غرف البيوت الجماعية، أو في أحد الفنادق القديمة. ولا يعرف لماذا دار بخلده، أن زميله صار واحداً من هؤلاء الذين يعيشون في الوقت الضائع..أو..وه..
-         ألا..تنهض؟
    لكن المصور أنشغل بفكرة غامضة مفادها أنه صور المقهى على أمتداد العقدين الآخرين دون أن يصوره أي مصور فوتوغرافي آخر..بيد أنه راح يتأمل الظلام الكثيف في نهاية المقهى، وبعض الوجوه التي تتحرك بآلية، ورتابة..والنادل يتحرك، والأصوات ترتفع، والدخان يتصاعد، فيما كانت رائحة الخريف تمتزج بأسرار حياة لا تريد أن تنتهي..كذلك دار بخاطره، وهو يضغط على الكاميرا، أنه لا فائدة من أضاعة الوقت..ذلك لأنهما، كما في كل يوم، يغادران المقهى في تمام الساعة السابعة مساء ً، ويتمشيان نحو ركن صغير يقع في فندق قديم يطل على النهر، حيث يجلسان هناك..وعند الساعة الحادية عشرة أو قبيل أنتصاف الليل، يعودان إلى منزليهما.
-         آه ..يا له..من..شريط..لم..يصوّر.
لكن الحياة ليست فلماً سينمائياً..وليست مجموعة من اللقطات..تلك كلمات صديقه التي رنّت داخل رأسه، فجأة، وصار لها صدى آخر، فالأيام تمضي تاركة رمادها الذي نراه في براعم أجمل الأزهار..
وضغط على الكاميرا..ليشعر أنه حطم شيئاً فيها..وأن دماً ينز من أصبعه..سحب نفساً من دخان سيكارته، ورفع صوته ينادي صديقه:
-         لقد تمزق الفلم..
    ماذا قلت؟ ردد مع نفسه..آه أنني أدور. لقد شعر بتعب في رقبته، وأنه غير قادر على حمل رأسه. كلا، قال لنفسه، أنه ليس هناك ما يجعل الرأس ثقيلاً. تلك كلمات صديقه التي أعلنها، منذ زمان، بعد ان تدرب بعدم زج نفسه في معمعات كتّاب الأعمدة أو الحكايات الغامضة. قالها عندما تسلم عملاً هو الوحيد الذي أدرك جدواه: فقد كان يشعر بلذة صياغة التحقيقات، بل وحتى الموضوعات العلمية، والمواد الأخرى ليجعل منها مادة سلسة، واضحة وطريفة.
    وبدأ المصور يقطع الفلم..وبعصبية رماه في سلة النفايات، إلى جانب نفايات أعقاب السكائر، وأوساخ مختلفة، وعلب السكائر، وأوراق ممزقة..ثم، بالعصبية نفسها، أخفى الكاميرا في حقيبته الجلدية السوداء التي لا يعرف كيف حصل عليها، وإنما يعرف تماماً لماذا يصر على الأحتفاظ بها، ذلك لأنها، على حد قول صديقه، تمتلك الأسرار كلها. ثم رفع رأسه ونظر في الساعة المدورة، الخشبية التي أعتقد دائماً أنها لم تكن تعمل في الماضي وأنها لن تشتغل أبداً في المستقبل. ما هذا؟ أرتج جسده لآنه وجدها متوقفة تماماً. وعقربها الصغير توقف عند الرقم السابع، فيما لم ير قط أي أثر للعقرب الآخر. الساعة السابعة..كررها عدة مرات، وهو يلاحظ أن العقرب الصغير هو الأخر يذوب..يذوب..ببطء شديد..وأحس بهواء يداعب محياه. وشم رائحة عفن غريبة، وسمع عطاساً متتالياً، وسعالاً متقطعاً، وشاهد عدة ألوان رمادية مخضرة تميل إلى السواد ممتزجة بزرقة ذات نكهة مشبعة بتبغ قديم منقع مدة طويلة، ولما تأكد من أنه يعاني من دوار تنفس بعمق الأمر الذي جعله يرى أن الساعة تختفي كلها دفعة واحدة.
-         يا صديقي .. يا ..
    لكنه صمت تماماً..وبهدوء، وبهدوء تام، مد يده ولامس يد صديقه ..حدق فيه..كأنه يراه أول مرة في مثل هذا الهدوء العميق، كأنه غفا في ظهيرة صيف. وجس نبضه..
-         ماذا ؟
    لم يفكر قط أن صديقه قد غفا..أو نام..بل كان يبحث عن فلم..فلم يعثر على شيء..لا..متذكراً كلمة قالها له صديقه: " إذا كنت تريد أن تفعل شيئاً فعليك أن تسرق..عليك أن تسرق من يسرقك.." بيد أنه – وهو ينهض- راح يضحك بصوت عالٍ.
   متمتماً بغموض:
-         والآن .. ما جدوى..؟
    تلعثم، لم يتكلم، تمتم في غموض..تجمد..لم يعد يرى إلا ضجة عدد من رواد المقهى، يقتربون منه، يبتعدون..أصوات مختلفة لسعال وعطاس وأصوات أعلى آتية من لاعب دومينو فقد رشده، دخان كثيف يحيط به، رائحة زبل، عفن، غناء مشوش آت من قاع المقهى..نداءات..سعال..صخب، ووسط ذلك كله لاحظ، بهدوء، أنهم يرفعون صديقه، ويخرجون به من المقهى..
-         أهذا ..كل ..ما تبقى ..لي ..؟
    لم يجب. كان يرى الأشياء كأنه لم يرها من قبل..أو كأنه رآها آلاف المرات..كان يصور بعينيه، ويتخيل ما يحدث، ويعيد تركيب الأشرطة، يجمعها، يملؤها ظلاماً كثيفاً، يلونها بعنف الالوان، ثم تتلاشى الصور في خلفية بلا حدود..كان يصور برأسه، وهو لا يحدق..لا ينظر..لا يبصر..لكنه كان مازال يشم ألوان رائحة العفن الأتية من الزقاق المجاور للمقهى، يرى رائحة عقارب الساعة التي ذابت والساعة الخشبية التي صارت تحوم في فضاء المقهى مع عدة أشكال لها ألوان لم يرها قط من قبل ولم تسجلها عدسته طوال السنوات الماضية، في البحث عن لقطة تؤرخ له مجده..
-         أهذا ..كل..ما تبقى ..لي؟
    ولم يأسف قط أنه أكتشف في تلك الإفاقة التي لا زمن فيها أنه أضاع عمره كله، كي يبدأ، مرة أخرى، في اللحظة المشبعة برائحة رماد رطب، وأصوات تلاشت في قاع رأسه، وثمة رنين غامض شّع بذرات رمادية، في تلك اللحظة التي لم يستطع الأمساك بها أبداً، وفي مسارات حياته اليومية ذاتها، التي ألفها، غادر المقهى، ولكن إلى مكان مجهول.
مجلة أسفار \ 1977

ليست هناك تعليقات: