بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الثلاثاء، 19 فبراير 2013

لاستكمال الحوار-من هو الفنان ..؟-عادل كامل



لاستكمال الحوار

من هو الفنان ..؟



عادل كامل
  

[1]  يدوّن علي النجار، في مقاله: (من هو الفنان..؟)*، برهافة فنان عمل كي يمنح الحياة ديمومتها، جماليا ً، وعبر سؤاله: من هو الفنان، تطبيقات وتساؤلات لسياق يقول ان الذاكرة، في احد أهدافها، تعني الانتصار على الغياب. لأن الكتابة ـ في مجال الاستعادة ـ ليست عملا ً فرديا ً إلا لأنها جزءا من آلية مجتمعية تتضمن مفهوم: البراءة، وبمعنى ما: تعني التحضّر، أو مغادرة التباسات الفوضى، حتى لو كانت خلاقة. فعلي النجار، الرسام، ومنذ نصف قرن ـ كما عرفته ـ تمرد على الذاكرة، بفعل مواجهته للخارج، وبالحفر في لا شعوره ـ ولا وعيه، ببناء نصوص غير دعائية، أو معدة سلفا ً، وإنما كي تلخص معادلها بين القهر، والتحرر، بين الثابت والمتخيل، وبين الأبدي والصيرورة، كوجود لا يعزل البشر عن فنونهم، ولا يستبعد الفن عن أحلامهم. فثمة لغز مشترك بينهما، لا يبوح إلا بما يكتم، عبر التهذيب، والمغامرة، والصفاء.
   انه ترك حواسه تعمل بمخيال (مجتمعي) مفترض، وقيد التدشين، بدافع بناء نظام تتكامل فيه روافده، مهما كانت لا مرئية، أو بكر، أو شائبة، لا ان تدمر بعضها البعض الآخر. فأحلام الأفراد، ليست معزولة عن التصوّرات، مثلما إنها قائمة على  قهر عوامل القهر.
   والأمثلة التي يستشهد بها كي يقلل من حتمية (المحو)، لا لدى الفنان، بل لدى الإنسان،  تولد ما لا يحصى من الانشغالات، ولا تتوقف عند مثال، أو أمثلة أخيرة. لأن الدرب ذاته شبيه بالجسر لم يصنع للعبور من ضفة إلى ضفة أخرى بالمعنى الشامل على الإقامة فيه، كحركة منتظمة في وحدتها بين المعطيات وبين ما هو قيد الانجاز. لهذا تبدو المغامرة شبيهة بالمصادفة، لكنها غير معزولة عن موقعها في لغز الحياة، وفي لغز الفن تماما ً.
   فتاريخ الفن، الذي يرجع إلى النصوص الشبيهة بالفن، وهي، عامة، مقترنة بتطور الأعضاء: الحواس، ومع بدء تكّون الدماغ ـ وأنا لست بصدد لماذا حدث ذلك، وإنما أنا بصدد الأثر ومغزى حضوره كفعل إرادي يتمتع بمخفياته ـ وصولا ً إلى عصر السلعة، وما بعدها، عندما لا يكون الفنان، هو الآخر، وكأنه يؤدي دور الرقيب، أو السجان، الأمر، يكون على النجار إزاء الانشغال الكامن في كل فعل يتضمن دافعا ً تهذيبيا ً ـ وضمنا ً تعليميا ً ـ للحفاظ على دور الخيال، إزاء التذكر، الاستعادة، وفعلا ً آخر يخص نبش هذا الخزين الكامن في الخلايا، كافة، من ملامس الأصابع، والبصر ...، إلى موقعها في الدماغ، وفي الكون.
    فالفنان، إن عرّف، فانه يكون قد جرد من حاضره، ولكن التعريف، ليس إلا مجازا ً، يختلف، من مجتمع إلى آخر، ومن زمن إلى زمن، إنما، كي يرجعنا إلى الأصل: الإنسان ذاته في انتقاله من المجهول إلى العلن، ومن المرئي إلى لا حافاته.
    فإذا كان من المستحيل فصل الفن ـ بأي شكل من أشكاله ـ عن الفنان؛ أي الأنا عن البعد المجتمعي ـ وليس الاجتماعي ـ لتراكم الخبرات، فان الفن لا يتوقف عند تعريف أخير، ومنغلق.  لكن لا تقدم من غير درب، وأدوات، عندما لا يمكن فصل (المخيال) عن ذاكرة الجنس البشري. فالإنسان يكون ـ كافتراض أو مسعى ـ قد كف عن ممارسة الدور ذاته الذي مارسه في الغابة: اما ان يكون مفترسا ً، أو مفترسا ً ـ وفي عالمنا المعاصر تزدهر الأنظمة تلك على نحو يؤكد النظام ذاته: الصياد إزاء الطريدة، والحضر في مواجهة غيابه. انه السؤال المشروع: ما الوجود، وما هي مبرراته، إزاء حتميات المحو..، كي يتحول البشر، فوق كوكبنا الأزرق، الصغير، إلى فنانين، وليس إلى  (ساديين)، والى أمراء حربـ، وقد ذكر تروتسكي إبان تحولات روسيا، بعد عام 1917، ان يوما ما، في المستقبل، سيكون المواطن العادي، ليس اقل مهارة من ماركس، أو اينشتاين، أو مندل، أو داروين، في تخطي مرحلة طفولة الإنسان ـ وهي لا طفولة تتمثل فيها البراءة، بل الأخطاء. على ان فرويد لم ير في الإنسان بصفته رمزا ً، أو روحا ً، وإنما بصفته كائنا ً فسيولوجيا ً، لم يخلق أصلا ً للحضارة! لكن هذا الرأي، عند فرويد، لم يلغ الرجاء بالعبور من ظلمات الغابة (الإنسانية) نحو حياة تزدهر فيها مظاهر الإبادة، والموت ألقسري، كجهد تكرس له أعظم الدول جهدا ً خياليا ً، بدل ان تستعين بما سعى إليه الفن في مجالاته التهذيبية ، والروحية، والجمالية.
    إن على النجار، يتضامن مع ثورات النساء، لا ضد الجنسانية الذكورية ـ جنسانية العولمة على سبيل المثال او جنسانية انتهاك حقوق الكائنات كافة، ومنها حياة الحيوان ـ بل ضد جنسانية (الأنوثة) الراديكالية، ليتضامن مع الثورات الخضراء، ومع تفكيك منظومات ازدهار الأسلحة، وازدهار الحروب، واستخدام المحرمات، ومنها النووية، والإعلامية، التي نبه اينشتاين إليها وذكر أنها تضع الحضارة إزاء نهايتها، وهو ما ذكره برنارد رسل، في كتابة: هل للإنسان مستقبل، أيضا ً.
   وهنا ينتقل علي النجار من العام إلى النص الفني، ومن النص الفني إلى هدم ما شيّد من حدود بين القارات، والأزمنة، والأنظمة، والطبقات. فعندما يستشهد بكلمة لبيكاسو " كل طفل هو فنان، لكن المشكلة هي كيف يظل فنانا ً لمرة واحدة دون ام يكبر" لم يغب عنه المثل السومري ـ المدوّن قبل خمسة آلاف عام ـ القائل: " ما من امرأة ولدت ابنا ً قط بريئا ً!" إنما يعلن انه ليس فرديا ً، ويعمل من اجل فرديته، إلا بحدود ان الكون يتكون من لا مرئيات، مترابطة، وعملها ينتقل من اللامحدود إلى عمل أدق الأجزاء، حيث لا غاية إلا وقد تخطت ـ وشطحت (وبالتجريب نفسه) حدود إمكانياتها بما هي عليه، نحو المخيال، والتصوّرات، وهو ينسج الدرب الذي يتسع لشرعية اللازمن ـ واللا دورات، الكامنة في الفعل: الخلق، وليس غيابه، أو تجزئته، أو تدميره.
[2]
   إنما الأزمنة السحيقة تركت بصماتها شاخصة، فوق الجدران، والطين، والمعادن: ارتقاء النوع من كائن ليس لديه ما يأسف عليه، إلى صانع أدوات، كي يمتلك مخيالا ً للعبور من (درجة إلى درجة أخرى) في سلم الارتقاء، كي يستحدث المشروع ذاته الذي مازال، في الغالب، في عصر طفولته. فالإنسان غدا يشذب أدواته في مواجهة كل ما يراه يغيب. وارى ان قسم ابوقراط، قد اختزل ـ حتى يومنا هذا ـ المنهج: ديمومة كل هذا الذي لا يدوم أكثر من زمن زواله.
   ما الفنان إن لم يكن هذا المتحرر من غياب المنطق،  ولا يعمل إلا على صياغة ممرات عنيدة تستدرج لعمل ما ...، ناسف أننا لم ننجزه، ونأسف، أننا لم نتخل عنه، لكن، في الحالتين، ليس لدينا الوقت للآسف في نهاية المطاف.
    هذا كله رسخ مبدأ: الميت من الحي، والحي من الميت، مع ان كل من عليها في: تحول، من الصفر إلى العدد، ومن اللاحافات إلى الحافة، فهل الفنان القابع في كل ذات، ليس هو الطفل، وليس هو البراءة، وليس هو الجمال، وإنما، هو: كل هذا الذي يتقدم ـ عبر المجهولين، للامساك بشيء ما من الوهم، وبشيء ما من السراب، بألم أو أسى أو صدمات لكنها لم يوقف عمل، القلب، ولم تشل إرادة التحديق في ما بعد  المجهول.
  لكن شراكة الإنسان مع باقي الكائنات، في التمسك باليات الديمومة يؤكد، ان الإنسان ليس لديه الكثير، وفي الوقت نفسه مكث عنيدا ً في استحداث أساطيره، وفي مقدمتها سيزيف التي لم تفقد منطقها الأسطوري: ديمومة الصعود بالصخرة إلى القمة، مرة بعد أخرى، من غير أسف. أليس سيزيف، هنا، هو كل فرد، وهو كل بذرة، وهو كل ذرة، وهو اللامرئي ما ان يتجمع حتى يغدو شكلا ً، وما ان تصبح للأشكال علامات، حتى تدخل في الاشتباك ـ مثل مختبر تتفاعل فيه العناصر ـ كي تستحدث عنصرا ً آخر، ليس له وجود إلا في المخيال الكوني ـ الذي لم يخترعه، في الغالب، إلا الفنان.
    لكن الجنس البشري ـ والعدد تجاوز السبعة مليارات ـ  شبيه بمملكة نمل، تجاورها مخلوقات مختلفة، تارة تشاركها اللعبة، وتارة تهدمها. فالنمل البشري غدا يتمثل عمل أي جزء من أجزاءه، بما يجاوره، ويؤثر فيه، وهو لا يمتلك إلا ان يتمم مسيرة سابقة على أي ماض ٍ، حتى لو كان مفترضا ً، ونحو مصير، مماثل، بلا حافات.
   أليس فن الرقص، كما ذكر بوذا العظيم، وليس فن القتل، والتصادم، يمتلك شفافية ما، تجاه لا إرادتنا في الوجود...، وتجاه استحالة ان لا يلتهمها العدم..؟
[3]
   نموذج الفنان علي النجار، في الأصل، لم يحول الفن إلى (سلعة)، إلا بصفتها علامة كونتها أزمنتها السحيقة، وصولا ً إلى عصر: نجهل تماما ما المطلوب فيه من الأبرياء ان يفعلوه، وهم، في البلدان الأكثر استخداما ً للقوة المفرطة،  أو في البلدان التي تتدثر بظلماتها، وأساطيرها، ولا تستهلك إلا مستقبلها، ولا تعمل إلا على دفن مصيرها، يمضي النسق ذاته العنيد، في التصادم ـ والمحو. والفنان الذي تبنى شرعية صناعة حياته بعيدا ً عن الانخلاع ـ والمحو، لا يمتلك حقا ً إلا ان يتشبث بالوهم بصفته أملا ً، وبالأمل وقد بدا أكثر هشاشة. فالفنان لم يعد هو من فقد براءته حسب، بل غدا مطورا ً للجينات ذاتها التي منحت هابيل ان يكون ضحية، وللآخر ان يكون قاتلا ً.  انه فن التدمير، وفن تدريب مليارات البشر، على: الصيد، والتنكيل، والتعذيب، والتسلي ـ حد الإمتاع والشفافية، بإعادة الثيمات ذاتها: تموز أو المسيح أو الحسين أو السهروردي أو ...، أي رمز آخر لم يستخدم فن (القتل) بل فن إنقاذ الآخر، بالدرجة الأولى.
    فهل هذه طوباوية، أو مثالية، أو هيبية، أو وجودية، بحسب تنوع التسميات، أم القبول بالهزيمة المشرفة، بدل ان يتجاهل الآخر، المنتصر، ان عليه المشي في جنازته..؟
    إن احد تعريفات الفن، لا التي ستعيد انتماء الفنان إلى فئة، أو طبقة، او فلسفة، او إلى بيئة، أو إلى مؤسسة ..الخ، بل التوغل في رمزية الاستغاثة، لكن من غير دعاية، أو تهريج.
  وهنا أتذكر، وفي أكثر الشخصيات تأثيرات في الملايين، كل من أسهم بتجديد نزعة التصادم، وليس بتعزيز النهاية التي لم تسمح للمزارع أن يجتث الراعي، في الحكاية السومرية، المدوّنة قبل خمسة آلاف سنة، بينما، وفي نسق الحكاية ذاتها، نجد القتل، قد تحول إلى مهارات، تجعل الوصايا، ذائعة الصيت، تغذي الخلاف، والعداوات، والكراهية، وتقود إلى عبادة: الموتى.
    فهل اخترع  الإنسان  الفن الذي سيصنع مهارات القتل، أي من القتل إلى الفن، ومن الفن إلى المزيد منه، كي يتمتع الفنان بإيذاء نفسه(مازوخية)، بسبب جيناته، المتضامنة مع وعيه، أو مع لاوعيه، كانسان شارد، متوحد، حالم، وظريف ..، وليس مثالا ً لسوبرمان نيتشه، أو أي نظام هرمي يتربع في قمته من يمسك بالمصائر ...؟
     لأن الطفل وحده لا يذكرنا بما غاب، بل بما لم يدشن بعد. فهو لم يذق مرارة الهزيمة، وليس لديه إلا حاضره. فهو يعمل على قهر هذا الحاضر، واختزال التجربة وكأنها محض مصادفات.
    هل كل فنان هو طفل ...؟ وهل كل طفل هو احد مشاريع الدهشة، في وجود مصادفاته ليست إلا سلاسل مترابطة لأنظمة، مهما خضعت للتجريب، والانتظام، فإنها لا تفصح إلا عن (حاضرها)، في تكوينه، من البسيط إلى المركب، ومن الخام إلى المستحدث، ومن الظاهر إلى المخفي، كي تمتلك (السلع) ـ بنظامها: من الإنتاج إلى الاندثار ـ غواية مقاومة زوالها، وذلك لأنها تتضمن ـ كما تتضمنه العملة ـ طاقات كامنة، خاضعة لبرمجة استكمال حضورها في هذه السلسة.
[4] 
     فهل ينتهي عمل الفنان إلى التجريد، أم يبدأ منه ..؟ وبمعنى ما هل خطر ببال الفئة المنتجة للفن ان تصنع كل ما لا علاقة له بالتصوّرات، والرهافة، والآليات المجتمعية، أي إنتاج ما هو ضد: الإنتاج، كي تكون ثمة مسافة بين الفن والتطبيقات، كتمييز لفئة أو طبقة ذات تفكير راق، وليس منجزا ً يهدم تقسيمات العمل، والامتيازات ..؟
    لا يعيش الفنان في كوكب مغاير لكوكبنا، حتى عندما يكون مفرطا ً في حساسيته، وإنما يعيش في عالم (افتراضي)، متخّيل، في مواجهة المستحيلات، وهدم عاداته، ومنح (الحرية) ما هو ابعد من استخدامها للإغراء، والغوايات، أو استخدامها كأقنعة للدعاية، بدل ان يعمل الفنان ـ الذي حول اكتشافه إلى مخترعات، ومنح عمله قدرة الاستحداث، وليس المحاكاة ...الخ ـ وهذا يتطلب الوعي ذاته لدى رسام المغارات: تكامل نصوصه الشبيهة بالفن، إن كانت سحرية، أو مقدمات قائمة على التجريب، والمنطق، مع استخدام الوسائل، والتكنيك، وتوازنات بنية النص بين المحدد منها والبناء القائم على خبرة حرفية، فيها الكثير من التخصص في صناعة الخامات، ومقاومتها للمؤثرات البيئية، فقد كان (مخياله) حدسيا ً استنادا ً إلى الموضوع المعالج، كالصيد، مثلا ً، فهو لم يرسم الثيران أو الغزلان كمهارة حسب، بل رسمها كإمكانية للحفر في طاقاته الكامنة، كتعلمه بالمصادفة، ان النار تكمن في الحجر، وان اشد الضواري فتكا ً لديها نقاط ضعف توقعها في كمائنه، وإنها قابلة للتدجين، والترويض، لاستحداث أنظمة تنقله من عصر البرية إلى نواة التجمعات البكر للعائلة.
   فهل هذا كله من صنع أفراد، بمعزل عن الجماعة ـ وصلات الرحم ـ مهما كانت قائمة على الغريزة، أو تشذيبها، أم ان المجموعة ذاتها ستحث أفرادها للعثور على حلول عملية لها، من خلال أفراد يمتلكون قدرات خاصة..؟
    هذه الإشارة ترجعنا إلى قراءة أخرى للتاريخ، لأنه سيرتبط بظهور (حواء)، والنسق الأنثوي في التصورات، وبدء الزمن الفني/ الجمالي،. فقبل حضور حواء ليس لدينا ما يسمى بالتتابع، أي ليس لدينا من ينجز مهمة الديمومة، فلا وجود للتاريخ، قبل وجود حواء!
        ومادمت لست واعظا ً، أو اشتغل في الكهنوت، ولم اشتغل في مهمات مماثلة، فان تتبع الأثر، وحده يسمح لي بإعادة رسم هذه الاحتمالات. بمعنى أنني لا امتلك أدوات إلا بحدود هذا الذي صاغ المشهد الكلي للماضي ، وكل ما سيصبح بحكمه، فحواء لم تهبط من العدم، بل هي، ببساطة، نقيض حيوي امتد من العناصر اللا تاريخية ـ إلى التاريخ, فالسيد ادم ليس لديه ما يقوله.  ونحن نجهل كل ما هو سابق على هذا التاريخ، لأنه، ببساطة، ليس من صنع (المؤرخ) كأقدم فنان مهد للتنويعات المجتمعية ـ وما سيدخل في انساق التحضر، أو ما يسمى بالحضارة.
    فالأنثوي، وقد اتخذ سياقا ً جنسانيا ً، صريحا ً، بهيمنة الآلهة الأم، ولأزمنة امتدت حتى خرج منها الآخر، ليشكل نفيا ً، و (معارضة) لها، لاستكمال الدورة: ديمومة هذا الذي حمل معه بذرة برمجت وفق المثنوية، ليشكل الأنثوي وحده علة كل علة لاحقة، وتعديلاتها.  
   لم يكن للتاريخ من وجود/ بمعنى: لا وظيفة تمتلك حتى ما يخص (الشيء في ذاته)، لأن الأخير، كالثقوب السود، أو البيض، وسواهما، تقع خارج الأدوات، والوظائف المباشرة. وهو درس حاذق يعزل الكليات اللا زمنية عن الزمن، بصفته: تحولات، وتنويعات ستبلغ عصر (قسم) ابوقراط: تأجيل الغياب.
  فهل يكمن السر في أقدم وظيفة صاغتها سلاسل من الأنظمة، من غير صانع، لديه: غاية، أم القضية تنغلق عند محافظتها على امتدادها، نحو أي غائية، ما، لا يمكن مغادرة حدودها، وطاقاتها، حتى العصر الذي نشهد استبعاد حتميات نهايته..؟
   ان إعادة قراءة أولى تلك الكلمات في حضور حواء، لا يلغي مفهوم الأحادية حسب، بل يلغي وجود الآخر أصلا ً، إلا بصفته شبيها ً ببذور الخلق اللا مرئية، والكامنة في أي عنصر من عناصر الكون. فالحياة بلا تاريخ، لأنها سابقة على من قام بفعل (الغواية)، أيا ً كان، إنما لا يمكن استبعاد حضور لغز نشوء الحياة، من تلك العناصر، كي تأتي اللغة، لتنسج، بحسب مخيال المدوّن، الرواية بتصوّرات تلخص ان الصراع سابق على متمثلاته، لدى الإلهة، ومن ثم لدى الإنسان، لكن كي يكون ثمة معنى ما للسرد، فان الغلبة ستكون للنور.
    أليس هذا هو أقدم فعل أنجزه (المخيال) المستمد من الصراع، بمعنى (التاريخ)، وانه لم يبدأ إلا مع وجود موضوعات ستعرف الذاكرة بصفتها انتصارا ً على الغياب، وان حواء التي أغوت ادم ـ بحسب الأساطير، والافتراضات المماثلة ـ ستنجب له موتا ً لا يموت! تلك الديمومة الكامنة، مرة بعد مرة، في الأصل. وكأن حواء قالت له: لن أعاقبك يا ادم، إلا بالغياب ذاته الذي خرج منك. لكن ادم سيسأل إبليس: لماذا أغويتني؟ فيقول له: وأنا من أغواني ـ بحسب الغزالي ـ؟ وهو يلتقط اعقد إشكاليات لغز الحضور ـ والغياب..؟ 
   فهل الفن إلا (صفة) لجوهر الديمومة: ديمومة اجتياز المستحيلات، بما لا يحصى من الاحتمالات، والنظريات، والفرضيات، التي تتوحد عند نهاية كلما بلغت ذروتها، بزغت، ووجدت تدشيناتها، مع حزين سيتراكم ليس في (الدماغ)، ومشفراته، أو في كل خلية من خلايا الجسد حسب، بل باستحالة عزل هذا كله عن المكونات، وقوانينها، التي لا حدود لنهاياتها. فهل الرب، الله، أو أي اسم آخر، وحده الذي كتم هذا الحضور...، كي تكون أفعاله، منذ البدء، مثيرة للجدل..؟  فإبليس (النار) لم يسجد لأدم (الطين)، مع انه لم يتخل عن وحدانيته. والملائكة، بدورها تعترض حول أفعال البشر، لكن الرب يقول انه يعرف ما لا تعرفه الملائكة. إن الفنان، هنا، ليس أول من صاغ نظرية المؤامرة، بل على العكس، حاول هدمها، كما فعلت حواء كأول كائن امتلك قدرة على الإنتاج، في مواجهة الاستهلاك ـ الاندثار. وذلك لأن المؤامرة ليست من صنع ادم، أو حواء، أو إبليس، مادامت أفعال الرب عصية الفهم إزاء مخلوقات صنعت من العناصر الفانية.  وهنا ليس للأساطير إلا ان تنتج ترميمات، وحيل، وأقنعة، تعدل لا معنى انجازها، بدءا ً بالخروج ـ بعد الغواية ـ وبعد القتل الأول، وصولا ً إلى عصر لا يمتلك قدرة إلا ان يتدحرج، أو تتحول فيه اصلب المعادن، إلى أثير.
     فهل ثمة جماليات استثنائية، خالصة، بإمكان الفنان ان يؤديها، غير أداء الوظيفة ذاتها للامتداد، وتداخلاته، مادامت الإجابات، لدى المؤرخ، الفنان، لا تمتلك إلا ان تطور مهاراته في صناعة: غوايات، مع الآخر، وضده، ومع نفسه، وضدها، غوايات هي، في الأصل، لا تمتلك قدرة مغادرة هذه الدورات: دورة اللا مرئيات، وصولا ً إلى الذرات، والمجرات، حيث ظهر الإنسان، ليدوّن أفعاله، وكأنها ليست من صنعه ـ وهذا صحيح ـ من ثم، التي هي من صنعه، لعله، كما في لغز الغواية، يجد من يهديه إلى السلام!
[5]
   لم يعزل علي النجار فنه عن انسانيته (بمعنى وجوده الشفاف) ولم يعزل حواسه عن وعيه (بمعنى ديالكتيك العلاقة بينهما)، ولم يعزل كيانه عن رهافته وهو لم ينسحب، أو يلوذ بعزلته، او يحتمي بركن او زاوية بعيدا ً عن مشهد اختلطت فيه حدود الصراع، وتداخلت، ولم يعزل، وهذا هو الأهم، مصيره عن المقدمات، إن كان كونية، أو بحدود تجاربه في وطنه، أو في منفاه.
    فالفنان ـ هنا ـ يتجاوز أي تعريف، من المهارة إلى الدعاية، ومن التحريض إلى الصمت، من التحرش إلى الاعتزال، نحو الممارسة، بصفتها موقفا ً للتوحد، فهو لا يذكرنا بالنظام التراتبي، كي يتربع في أعلى الهرم، أو كي يغدو واعظا ً، أو مرشدا ً للسادات البشرية، ولا يغوينا بنصوص دعائية هي جزء من نسق: الاستهلاك ـ الاندثار، بل يتحرر من أوهام (الحرية) ذاتها بصفتها وجهة نظر دعائية، أو ممارسة في الإغواء، والتحريض، كي يسكن في عمق الجرح. انه فنان يذكرنا بتلك اللحظات التي عاشها احد الشعراء، عندما وجد نفسه إزاء الموت، بفعل سم الأفعى القاتل، بعد ان أصبح جنديا ً غازيا ً في حرب لم يخترها. وشبيه بما أنجزه إنسان المغارات، عندما ظن ان فنه يمده بسلوى أو مؤانسة ما تتستر على نظام الوجود، إن لم يعشه، فلا مناص، قد عاشه في هذا الحضور، في الخاتمة، كي يمتلك الفنان، في هذا النسق، البراءة التي تقع وكأنها دمجت نهاية الوجود، بتدشيناته البكر، لأن الحضور ـ حضوره وحضور الوجود كلاهما ـ وحده، لم يدع للزوال إلا هذا الامتداد: هذا الذي يجعلنا نتساءل: أيهما اشد عماء ً، الفن أم العدم، الفنان أم الصفر...؟ لأن فعل الغواية، مازال يعمل كعمل المفتاح وهو يدور في أبدية القفل!
[6]  أنا لا امتلك قدرة تحديد (الألم) ـ إن كانت فسيولوجية أو روحية ـ التي عانى منها كرفاجو، قبل ان يُقتل، ولا (فان كوخ) قبل ان ينتحر، ولا علي النجار، وهو ينقذ مصيره، لكن، في الوقت نفسه، ينتصر على الذات، لصالح ما عنوانه: الفن، فانا أكاد أتلمس التعريف الذي نشأ معي، وغذى كياني، ألا وهو الإسهام بعدم إنتاج الرداءة، حتى لو كانت، شبيهة بالقدر، لدى على النجار، وهو لا يدخل في التيار الجارف للبراغماتية المعاصرة، التي تصوّر (الربح) خلاصا ً شبيها ً بنقيضه: الفردوس.
   انه، ببساطة، يجعل المسافة طريقا ً، والجسر إقامة، والمنجز الفني علامة، وكلها، في النسق، توحد الفن بالفنان، عبر تصوّر إننا جميعا ً شركاء ببناء مصائر لا تتحول فيها الحياة إلى جحيم، كالذي عاشه علي النجار في وطنه، وبين ذويه، أو كالذي نراه يتكرر في ما لا يحصى من بلدان كوكبنا الصغير، فالفنان وحد خلاياه ـ آلامه وأحلامه ـ كي لا يفقد مصيره، حتى وهو يراه يتحول إلى غياب.
   ولأنني انشغلت بمراقبة، ومجاورة، ودراسة تجارب أساتذتي، وزملائي، ومن تابع خطاهما، منذ ستينيات القرن الماضي، فان تعريف علي النجار للفنان، يعيد استحضار تجارب مماثلة ـ ومختلفة في أشكالها ـ في التشكيل العراقي، بدءا ً بنيازي مولوي البغدادي، مرورا ً بمنعم فرات، محمود صبري، جواد سليم، وليس انتهاء ً بمن تعقب تجارب محمد مهر الدين، إسماعيل الخياط، وصالح القرة غولي، على سبيل المثال، فان إشارة علي النجار ـ بصفتها نسقا ً لجهد تطبيقي ونظري ـ  تشكل أسا ً كاد الفن (السياحي) والجماليات (الأحادية)، والفن المنتج كسلع للتداول/ الاندثار، أو التي تنشغل كثيرا ً بنظام الدعاية/ الإعلان، التزيين، والرفاهية ..الخ، ان توهمنا بما كان قد أنجز مع نشأة تلك المخفيات، الملغزات، لدى إنسان الكهوف، والطوطميين، والفنون التي مازالت شاهدة على ما أنجزه الإنسان ذاته، كعّراف توغل في المناطق النائية، داخل كيانه، أو في المحيط، أو في الكون، ليدوّن كل ما تداخل بين وما وراء البصر، وما في الضمير، علامات شبيهة بتلك التي ارتقى إليها المتصوفة، والشهداء، والشعراء، بحفر إشارات مولدّة، للمحنة، ولديمومتها، وليس لوضع خاتمة لها.
    هذا الدرب الوعر، الذي كسب فيه علي النجار، خسائره، يسمح لي ان امسك بهذا الذي لا وجود له: الأبدية، أو كل ما يقع خارج أدواتي، وكأنها لم تجد مأواها إلا عبر نسيج الفن، وبنائيته، وكأنها ومضة (فرح) ما، كالتي أرسلها الإله الشرقي بإناء من خزف لإنقاذ مخلوقه (الإنسان) من كائن بلا شكل، إلى مخلوق سيواظب على رؤية ما هو ابعد من أدواته، وربما، محاولة منه، لرؤية هذا الذي كتم الأسئلة، ولكنه سمح للإجابات ان تحافظ على امتلاكها لغز ديمومة الفناء، وليس فناء الديمومة.
____________________________________
* موقع (أدب وفن) و (القصة العراقية) فاتحة

ليست هناك تعليقات: