بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الجمعة، 1 مارس 2013

ذاكرة النحت العراقي المعاصر.. في تجربة مرتضي حداد -عادل كامل




ذاكرة النحت العراقي المعاصر.. في تجربة مرتضي حداد
ديمومة الخطاب ومشفرات الأثر

عادل كامل
مهدت سنوات الدراسة التي أمضاها مرتضي حداد في بغداد، وعياً سمح له بدراسة ما هو ابعد من حرفيات الفن ـ وهو النحت ـ بتأمل ما لم يدرس بعد في ردم الفجوة بين أقدم جذور للنحت في حضارة العراق، وبين التيارات المعاصرة. لقد استخلص هذا الدرس ليس بالخبرة العملية علي أيد الرواد فحسب، بل في دراسة ما مكث يشكل امتداداً لمفهوم النحت بصفته لغة خاصة لا تنفصل عن الوعي ولا عن تأسيس المدن الكبري؛ فضلاً عن مغزاه كحامل لتشفيرات لا تخص الجسد أو الوعي الذاتي، بل ذات صلة بمجموع القوي والمكونات والمتراكمات والموروثات التي حددت سمات الحضارة وخصائصها علي صعيد المعني، أو الهوية، والخطاب بمعناه المعرفي.
كانت تلك الدروس قد سمحت له بتأمل أخلاقيات أساتذة صاغتها سنوات الريادة؛ وهي سنوات التأسيس والتحديث لمفاهيم لم تعد أحادية أو شكلانية، وإنما عملت علي صياغة جدلية للعلامات بواقعها لبلورة هوية النحت المعاصر في العراق. ولم تكن رهافة حداد بصرية ومنشغلة بتأمل السطوح والألوان والتمايز اللوني فحسب ـ كحال أساتذته أو من عرفهم من الرواد ـ بل ستظهر في مجال آخر هو مهارة الأصابع بصياغة إجابات طالما مكثت لغزا ص كامناً في أقدم المخلفات الأولي لجسد المرأة وصولاً إلي الختم والزخارف الإسلامية ذات البعد الثلاثي ـ إن لم نضف إليها أبعاد التشفيرات المعرفية وعمل اللاشعور والتهذيبات الجمالية ـ بما سيشكل لغة لا تنتمي إلا لعصرها. لقد كانت الدروس المبكرة في بغداد قد منحته مفاتيح لمعرفة الغاز النحت، ليس بمعناه الواقعي أو الرمزي أو الجمالي فحسب، بل بما يتضمنه من انشغالات انطولوجية لا يمكن عزلها عن عمل الوعي ـ تجاه مكوناته: ما هو مؤسس للذكري وما هو قيد الزوال. فالواقعية كانت منحته وعياً بذهابها ابعد من المحاكاة وتمثل الأساطير وإقامة النصب والتماثيل.. حيث (الحداثة) كمفهوم زمني أو بصفتها وعياً للفن ـ وبفعل ممارسته العملية كحرفي ينتمي إلي البنائيين العراقيين، إلي جانب المجال النظري في دراسته العليا للماجستير والدكتوراه ـ ترجع إلي أزمنة سحيقة منحت فن النحت مكانة خاصة إلي جانب فنون المعمار والملاحم والمعتقدات واللغة والتقاليد الاجتماعية .. الخ هذا الوعي الذي شكل الرواد تدشيناته البكر ( عند جواد سليم والرحال ومحمد غني حكمت وإسماعيل فتاح والحسني وصالح القره غولي والكيلاني ..) غدا محفزاً لمرتضي حداد لاستيعاب ما سيشكل محركاً دينامياً لمسيرته ولطموحاته باستكمال دراسة النحت في بلد لامناص له مكانته في هذه المعالجات المميزة. فروما لم تكن مشغلاً ـ أو منحتا أو متحفاً ـ لخمسمائة عام من النحت ـ بل رمزاً ابعد لعلاقات منحته إمكانية دراسة عالمية النحت، ودراسة جذوره وروافده المكونة لخطابه الخلاق.

ألغاز عمل الوعي
كانت أسئلة النحت لا تجد إجاباتها في التقنيات أو في المحاكاة أو في دحضها نحو مهارات التلاعب بالصياغات الشكلية، بل في مجال كان حداد قد تلمسه وهو يستعيد منجزات أسلافه في جنوب العراق وشماله؛ فالنحت سبق ظهور الكتابة بزمن طويل، كما سبق ظهور السلع ـ والنقد ـ بقرون.. لأنه نشا كأثر ـ أو كحد ـ فاصل بين عصر البرية ـ وعصر نشوء المدن. فإذا كان الكهف أول رمز تضمن عمل (الدماغ) في تشفيراته، فان الكهف سيدفع بالسحر نحو معتقدات اكثر تعقيداً ، لان النحت لم يشتغل كتعويض لزوالات, ومنها موت الجسد، بل غدا يخفي قوة لا واعية لديمومة تحافظ علي الغاز عمل الوعي. لقد راح مرتضي حداد يتفحص تماثيل الأم ـ تماثيل عشتار/ فينوس ـ بصفتها علامات مشفرة لانتصارات غير مؤكدة: فالطبيعة لا ترحم، كما الضواري، وكما هو عمل الموت.. فتكومت تلك التماثيل وكأنها النذور والأضاحي لإقامة صلح مع قوي لا تعرف الشفقة. تأمل مجسمات تحاكي ما كان يريد ان يراه، وما كان يشغل آليات وعيه في العثور علي إجابات ستبقي تدعوه للمزيد من الإضافات. بيد أن ما هو كامن في تلك النماذج سيمكث قائماً خارج الأسباب التي كونته. هنا، يستعيد النحات حداد اكثر الدوافع خفاءً ، كالتي شغلت صانع اللبوة الجريحة، أو كالشطحة التي دفعت مايكل انجيلو ليصرخ في التمثال: أنطق! فلا المثّال الأشوري أوقف نظام الصيد، ولا صخرة انجيلو نطقت! لكن ما هو اكثر خيبة للأمل سيجد نفيه: الانتصار المشّفر لديمومة فن النحت: انه ليس انتصار الجسد، أو المدينة، أو إرادة القوة.. وإنما، سيمكث مجاوراً لمسيرة عنيدة شكلت التاريخ المدوّن ـ وغير المدوّن ـ للإنسان في مواجهة كل الذي مكث يعمل عمل البذرة: الإنبات.
لقد واصل مرتضي حداد تأمل النحت بصفته جاور، منذ غدا النحت علامة قبر، وعلامة بين الفضاء والأرض، ومنذ غدا تعويذة، أو لعبة سحرية، أو تكراراً لأجساد تضمنت ديناميتها، ووهنها، ببناء مكونات الخطاب المعرفي ـ في التعرف علي عالم كونته فضاءاته ومخفياته النائية ـ في عناصره الحضارية. فالنحت تضمن هذا الانشغال حتي غدا النحات منشغلاً ببناء الخطاب كسلطة تضمنت لغزها في مواجهة عوامل دمارها. بيد أن النحات مكث حذراً من المضي في اتجاه واحد أو أخير، فسمح لوعيه، في عصر تصادم الاتجاهات، والنزعات، والفلسفات، أن يمنح (التجريبية ) أصولها في البحث، فالذي شغله مكث فلسفياً بما سيشكل، في التنفيذ، تنوعاً يؤكد أن المخيال التركيبي، لم يتوقف عند البديهيات، ولا يستند إلي التحليل في دوافعه الواقعية. فالمخيال التركيبي في فنه، منحه وعياً لدراسة اثر (المشفرات التراثية) في أعمال جيل الرواد؛ أي سمح لها أن لا تبقي كامنة في الماضي. كان هذا الانشغال الفلسفي في دراسته النظرية، قد ساعده، لإعادة تفكيك الأثر، وإعادة تشكيله، بصفته سيشكل (طفرة) وليس محض إضافة كالتي تظهر لدي الحرفيين، أو علي صعيد رموز الموروثات الشعبية، بل وعياً لصياغة إشكالية لم يمض ْ زمنها، ولم تصر سلعة كي تتخلي عن نبض صانعها، أو ما تخفيه من غائيات غير معلنة.

راديكالية قائمة
فالنحت، في تجاربه، علي مدي أربعة عقود، مكث إشكالية متجانسة بين ظاهره أو مكوناته الخارجية، وبين كل الذي يمتلك محركاته الداخلية. هنا، يغدو النحت قد تجاوز زمنه، ليتضمن ـ كما في كل نص لا يوظف للاستهلاك ـ زمنا آخر، ربما، ما هو ضده. فمرتضي حداد، وهو يعيد صياغة أساطير بلاد ما بين النهرين، وهو يعيد نحت تلك العلاقة بين الإنسان والطبيعة، وبين المرئي وامتداداته نحو اللامحدود، سيشكل حداثة خارج وهم موجات وموضات ما بعدها. فلم ينشغل براديكالية قائمة علي الوهم، أو بما هو نتاج عولمة ساحقة للذات، ولنبضها، بل تمسك، كما في تجارب حافظت علي لغز التشبث بنصر قد لا يتحقق أبداً ، بالعناصر والدوافع ذاتها لدي أسلافه، ولدي أساطين النحت الكبار. لغز أن يقترن النحت بأبعاد، احدها الزمن، وليس آخرها أن الإشكالية غير قابلة أن تختتم بنهاية، كنهاية لعصر أو لحضارة أو لتاريخ، وإنما، علي نحو خلاق ومحير، أن الامتداد ليس محض آلية تعاقب، بل ـ هو ـ كل ما سيشكله الوعي ـ بمخفياته ـ استجابة ـ لتقاليد منحت النحت هذه الديمومة. والفنان مرتضي حداد لم ينحز إلا إلي تجريبية متوازنة مع عصر له مزاياه المختلفة ـ بين موروثات اخفت ماضيها كامناً فيها ـ وبين حاضر يحدق في المجهول. فثمة،منذ تماثيل الأم، مروراً بتماثيل الأسس، واقتران فن النحت بالعمارة، وصولاً إلي حرية اكبر في التنويعات الأسلوبية، مكث فن النحت لا يعلن عن موته، كما حدث أن لفت (هيغل) إلي موت الفن، بتحوله إلي سلعة، أو لم يعد الإنسان إلا بنية تحكمها قوانينها الخاصة. هذا الضرب من التمسك بـ [ سر] فن النحت دفع بالنحات للعثور علي جسور لا مرئية لـ: موضوعات، كالجسد، وتحويراته، وأساطير تم اختزالها إلي موضوعات الإنسان في مواجهة اغتراباته. ففي هذا [ الحاضر ] سكن لغز الانحياز الي المكان، كي يذكرنا، مرة بعد مرة، بالشاخص، وبتماثيل الأسس، وبالنصب وما تحمله من ديمومة لماضيها، وامتداداً ـ إن لم يقهر الزمن فانه ـ يجدده ـ تبعاً للعمل اللا ـ شعوري لأسطورة موت البذرة، أو نزول تموز إلي العالم السفلي، وبعثه ـ فان الاستجابة للنحت، بواقعيته، كمحاكاة، أو للنحت كجزء لا ينفصل عن المدينة، وجد النحات ـ عبر ممارسته العملية والطويلة وعبر دراسته النظرية ـ ان السحري فيه لا ينفصل عن هذه الواقعية. فالميتافيزيقا، هنا، لا تصنعها الميتافيزيقا، وإنما ستبقي الموضوعات ذاتها غير قابلة للدحض، بما تمتلكه الواقعية من ثوابت وعادات مازالت تمتلك ديمومتها. بهذا الدافع وجد النحات ان (الحداثة) لا تمتلك زمناً أحادياً ـ أو تقليداً لا يتصدع بعلاقاته مع الموروثات والتحديثات المختلفة ـ بل صياغة تتداخل فيها الأزمنة، ومن ثم: التمسك بما يخفيه النحت، وهو يجاور إشكاليات عالم تتنوع فيه أشكال الصراع، والأزمات. لكن النحات ـ بصفته ينتمي إلي نصف قرن من الجهود الطليعية في التجربة العراقية ـ

الاستهلاك لحد البذخ
تمسك بمفهوم الاختلاف، كأحد مظاهر الهوية. فالأسلوب لا يمكن عزله عن الموضوعات ذاتها: مأزق المدينة المعاصرة، والإنسان في مواجهة عدمه. فنصوصه النحتية ستحافظ علي توازنات بين الواقعي والمتخيل؛ بين المتوارث والمعاصر، بين الذاتي والجمعي، بين الواقعي والمحور، بين الرمزي والمشفر باتجاه معالجات الوحدة الكلية للذات في بلورة (الهوية)؛ فالنحات لم يعد يلبي إلا ما سيشكل لغزاً كامناً في النحت ذاته. انه ـ كما في اللغة ـ لا يتوقف عند النحت، او النحات، بل عند العملية الانباتية ـ بما فيها من أصول وقواعد واليات ـ للنحت في عصر تفكيك الذرة، من جهة، وفي عصر تفكيك الذات/ والإنسان ـ من جهة ثانية. فالنحات غدا يتلمس يومياً تحول موضوعات (الزوال ـ الصدمات) إلي إشكالية وجودية تخص المصائر، الامر الذي سمح للنحت ـ مرة ثانية ـ ان يفرض حضوره الفريد. فعلي الرغم من ازدهار قوي الاستهلاك، حد البذخ، والترف الشفاف للاكتفاء، فان المصائر ذاتها تعلن عن كائنات لا ينقصها إلا الدفن! فـ [الروحي] ـ منذ تماثيل الأم وحتي ما بعد جايكومتي ـ أصبح مظهراً لمأزق لم تعد فيه الفنون ـ في الغالب ـ اكثر من علامات له. بيد ان هذا [الروحي] مازال يتشبث بسكن لا للإقامة، بل للرحيل ـ: لديمومة لا تكرر إلا شعائر أساطير تموزـ ادونيس، وهي ذاتها: نظام دفن البذرة. والنحات مرتضي حداد، برهافة من لم يتخل عن بدائية ـ واكبت لغز انبعاثها ـ لم ينشغل بجماليات أحادية، أو بزخرفات وتجريدات انحازت للتأمل، بل لجعل النحت يتشكل عبر مصهر: هذا الذي تدعمه فلسفات لم تعد مغايرة لعمليات التفكيك ـ أو الاندثار ـ بل لتمجيده! فأية إشكالية اتسعت، وما الذي يمكن للنحت ان يخفيه، وقد تضمن أبعاد مازالت في ذروة تصادماتها، أكثر من جعل النحت، متضمناً هذا الاعتراف: إن مفهوم التذكار ـ كالرماد ـ لا يتحدث إلا عن تدشينات لتوقدات أو نيران مؤجلة. فالأشكال (النحتية) لم تفقد توازنها، بل راحت تعيد صياغتها بما لا تخفيه من امتدادات، ومحركات، لمجموع علاقات البشر ـ بحضارتهم، إن كانت ذات هوية، أو قيد التفكيك. فالعالم يعيد سرد (ميتافيزيقاه) كواقعية مدعمة بما لا يحصي من الوثائق، والمخلفات، علي خلاف الواقع القديم الذي أنتج أساطيره، في الماضي ـ في الماضي المجاور لحاضرنا ـ وراح ينتج لاعقلانية (العقل) في عالمنا المعاصر، بما لا يحصي من هذه (العلامات). إن مرتضي حداد، وكمسروق للنحت، ترك أصابعه تعمل بوعي لم يعد يحفل بالنصر، لكن لم يعد يحفل بالخسران، في النهاية أيضاً .


ليست هناك تعليقات: