بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الجمعة، 4 أكتوبر 2013

قصص قصيرة جدا ً-عادل كامل

قصص قصيرة جدا ً


عادل كامل
[1] نباتات
    عندما فتح الباب، ودخل إلى البيت، وجد شجرة صغيرة تنحني له. إنها زوجته. فأسرع يبحث عن أفراد أسرته، فرأى الجميع قد تحولوا إلى نباتات، ملأت الدار، متشابكة الأغصان، والجذور. وعندما حاول التراجع، تجّمد، وأحس بألم في نهايات أصابعه، وبأزيز يحدث في داخل رأسه، فتريث، لبرهة، وهو يرى أن ثمة براعما ً كانت  تتحول إلى وريقات، والى أوراق ذات أشكال متنوعة، تمتد من أعلى جسده، وان أصابع قدميه سرعان ما أصبحت جذورا ً، هي الأخرى، كانت تمتد، وتتداخل، مع الأغصان والأوراق والجذور، آنذاك لم يجد ضرورة للبحث عن الكلمات، أو التفكير ما اذا كان أغلق باب البيت، أم لا.
[2] طيور
   وهو يبحث عن مكان يتوارى فيه، صدم عندما رأى المشهد ذاته: الطيور تهبط بأقصى سرعتها من الأعلى مصطدمة بالأرض. كان يراها تتلوى، وتتوجع، لبرهة من الزمن، ثم تكف عن الحركة. لم يمتلك قدرة رفع رأسه والنظر إلى السماء، فقد كان يصغي إلى أصوات ارتطام أجساد الطيور، يأتيه، من جهات متفرقة، منكمشا ً، حتى وجد نفسه قد تحول إلى كرة صغيرة، رخوة، لينة، وعندما حاول ان يوقف تدحرجها، نحو مكان ما يجهله، عجز عن ذلك، فقط كان لا يتذكر إلا كلمة دارت بخلده، راح يكررها: حتى انك لم ترتفع قليلا ًعن ... الوحل.
[3] ولادة
    ماذا كنا فعلنا لو لم نعالج الأمر بكتمان، وحكمة، قال الأب لنفسه وهو يراقب شرود نظرات القابلة وهي تقلب مكعبا ً صغيرا ً له ثقوب عديدة، رآها، فابتعد بلا إرادة منه نحو زاوية مظلمة توارى فيها داخل الغرفة. لم تصدم القابلة بالوليد المكعب، فقد سبق لها ان رأت أجنة شبيهة بالسحالي، والضفادع، والخنازير، ولكنها لم تر مكعبا ًلم يفقد حرارته، بل ومازالت تتحسس دقات منتظمة تلامس أصابعها، فيما ترى الثقوب تتوسطها عيون شاردة النظرات.
   ولم تكن خبرتها محدودة أو مبتسرة للتأويل، أو إبداء أراء مجافية للأسباب التي أدت إلى التباسات، وخلط، وتشويهات للمواليد الجديدة، بعد الحرب، ولكنها ان ترى مكعبا ً بعيون زرق تحدق فيها، فقد صدمها حتى إنها لم تجد قدرة للإجابة على تساؤلات الأم، التي بدورها مدت أصابع يدها اليمنى وسحبت ولديها المكعب نحوها: آ ....! ولم تستطع النطق. مدت القابلة يدها وحملت الوليد الذي مازال شارد النظرات، وسمعته يتفوه بصوت خفيض واهن: أين أبي..؟
    عندما بحثت عن الوالد، لم تجده، آنذاك لم تجد ضرورة لإخبار الوليد بالأمر، ـ لا لأن والده اختفى، بل لأنها رأته يتحول إلى أثير، وهو يتناثر إلى ذرات ملأت فضاء الغرفة.
[4] اندماج
   عندما غادر بيته متجها ً إلى دائرته، لم يصدم برؤية أجساد تمشي، من اليسار إلى اليمين، وأخرى تهرول، من الشمال إلى الجنوب، وثالثة توقفت حتى بدت له كأعمدة تلغراف، إلا أنها جميعا ً كانت خالية من الرؤوس، لم يصدم، بل شرد ذهنه لبرهة من الوقت، وحرك أصابعه باحثا ً عن رأسه. وجده، فشعر انه يتلمس مربعا ً استطال فتحول إلى اسطوانة، والأخيرة استحالت إلى كرة صغيرة. غاب عن الوعي، وآفاق ليجد احدهم يشير له بأصابعه ألا يتوقف، فمشى، فلاحظ آخر يدله على مسار عليه ان يتجه إليه، فاتجه، من غير اعتراض، مصغيا ً إلى آخر يأمره بالإسراع في الحركة، فأسرع، وعندما بلغ نهاية الشارع، رأى حشدا ً كبيرا ً منتشرا ً يملأ الساحة حتى نهايتها. وسمع من يقول له: التحق. إلا ان احدهم اعترض عليه بسؤال: عجبا ً ان رأسك مازال في موقعه! فقال من غير تفكير: أهذا هو رأس، أم فراغات ممتدة...؟ ضحك الآخر، هامسا ً: حسنا ً، آن لك ان تندمج.
[5] سعادة
  لم يرغب بالكلام، لو لم يسأله الطبيب، وهو يلفظ آخر ما تبقى له من الأنفاس:
ـ أراك سعيدا ً ..؟
   فقال المريض ـ 80 عاما ًـ بسلاسة:
ـ كيف لا ...، فبعد ان أمضيت حياتي ابحث عن إجابة تفسر لي: ما الوعي، ولماذا أصبحت لا أفكر إلا في ماهية التفكير...، ولم أجد إجابة شافية، تمنحني الرضا، أو الآمان، فانا سعيد الآن بعودتي إلى المكان الوحيد الذي لا يُسمح لي فيه بارتكاب الآثام!
[6] لا توجد مشكلة
    بعد ان شخص الطبيب حالة مريضه، أخبره باستحالة الإنجاب. فطلب المريض ـ رغم ذلك ـ ان يجري فحصا ً للسيدة زوجته. أجرى الطبيب اللازم، واخبره بأنها تعاني من العقم أصلا ً.
    نظر الزوج في عيني زوجته، وقال لها:
ـ لا أنا هو السبب، ولا أنت هي السبب أيضا ً، مع إننا أنجبنا هذا العدد الكبير من الأولاد ومن البنات!
فقال الطبيب بصوت مرتبك:
ـ أرجو ألا أكون أنا هو السبب، وأرجو ان لا تتهماني بالتقصير!
  فقال الزوج لنفسه، بصوت مسموع: حقا ً، المشكلة التي لا حل لها، ليست مشكلة!
[7] عطر
    رائحة الكاردينيا سمحت له بتحسس وريقات نباتات حمراء لا مست محياه، وأخرى لنباتات طالما اعتنى بها، لم يصدم انه وجد جسده غدا محاصرا ً بالسيقان، بل بجذورها أيضا ً. فترك بصره يغادر متأملا ً جسده النحيل في الغرفة ذاتها التي طالما اشتغل بمكافحة الآفات الزراعية، وتحسين أنواع الأجناس المركبة، دامجا ً الجينات، من صنوف متنوعة، لمقاومة الحر والغبار والدخان والضوضاء. كانت قدرته مرهفة بعزل نسمات الفجر وإرجاع كل عطر إلى مصدره، تلك الشجيرات الناعسة الظلية وهي تحتمي بنبات الدفلى، والياسمين، والجوري، وذات الفم المتذبذبة الحركة، وذات الاستدارة، والشتلات المربعة بألوانها الداكنة تجاور الزهور البرية، راحت تنث حبيبات ناعمات سمحت لبصره ان يعود، محتفظا بألوان الأوراق البيض، والذهبية، مع ما جاورها من الأوراق الابرية، والمدببة، والمقعرة، حتى استطاع ان يميز عطر شتلات استجابت لنواياه، وهي تقاوم غيابها.
    مرة أخرى، والى الأبد ـ دار بخلده ـ انه لم يعد وحيدا ً، كما حلم، تاركا ً جسده يقاوم أية محاولة للحركة. إنها المرة الأخيرة  التي استنشق بلذّة ما العطر وقد رآه يتلاشى في الفضاء.
[8] ولادة
  وأخيرا ً أعلنت القابلة أنها أفلحت، بعد ساعات شاقة من معالجة العسر الذي تعرضت له السيدة، والذي كاد يودي بحياتها، عن الولادة. لم يستفسر الأب، ولا الأم، ولا باقي أفراد العائلة، والجيران، والأصدقاء، عنها، بل ساد شعور بالرضا، والطمأنينة مهد لهم، جميعا ً، إغفال نوع المولود، والامتنان لسلامة الأم.  فقد أعلنت القابلة ـ همسا ً ـ إنها لا تريد لأحد ان يرى  الكائن ـ وقد ولد حيا ً، كسمكة، لكن حياته لم تدم طويلا ً. فهمست الأم في أذن زوجها، كاتمة لوعة دفينة، إنها أخبرته ـ منذ زمان ـ ان السيد دارون ترك الحلقة المفقودة جديرة بالبحث، فليس من الصعب تصور إننا ننحدر، نحن التعساء، عن نوع ما من الأسماك، وليس ـ بالضرورة ـ عن القردة. فلم يعترض الزوج، السعيد بسلامة زوجته، بعد فشل الأخيرة في إنجاب كائنا ً شبيها ً بالآباء، أو الأجداد، عليها، بل اخبرها ـ وبصوت لا يخلو من الدعابة ـ ان الأمر قد يخص سلطة الأسلاف، فهي ـ قال بصوت مسموع ـ: تنحدر من المياه الضحلة، وقد مزجت بالوحل. إلا ان السمكة التي نفقت، قبل قليل، سرعان ما راحت تحدق في الوجوه، ففزعت، مذعورة، مرتجفة، لبرهة، ثم توارت، تاركة خلفها رذاذ ماء بلوري، راح الجميع ـ ولسنوات ـ يتحدثون عن تجانس ألوانها، وشفافيتها.
[9] قبلات!
  بماذا يخبرها، وهو يراها تقترب منه، هل يبوح لها بأنه لا يمتلك إلا أسئلة؛ أسئلة تتكّوم، لا ترتد، ولا تتراجع، بل تتناسل مثل ديدان ما ان ترى النور حتى تفقد رشدها وتتلهف للبحث عن زيادة، أم يخبرها إنه، مثلها، لا يمتلك إلا إجابات غامضة..؟
   مدت أصابعها النحيلة، نحوه، وما ان لامست محياه، حتى لم يعد يجد كلمات للتفكير، وليس لديه قدرة حتى على النطق. وجد إنها تأخذه معها، داخ، فكف عن النظر إليها. لم يستسلم تماما ً لشفتيها، بل وجد انه لا يمتلك موضوعا ً يفكر فيه. كان، دار بخلده، لا يود ان يبحث عن رغبة في الحوار، معها، مكتفيا ً، متابعا ً مع نفسه، ان الصمت ما هو إلا خاتمة مناسبة للاستغاثات، والعويل. لم يخبرها انه شاهد عشرات القتلى، وعشرات الجرحى، وانه نجا من الإصابة، بسبب المسافة، المسافة ذاتها التي أصبحت صفرا ً بينها، وبينه.
[10] زيارة
ـ أراك لا تريد ان تقول كلمه، عند ضريح الإمبراطور..؟
ـ ماذا أقول عند فخامته..؟
ـ وتقول فخامته ..؟
ـ لأنني لا اعرف سواها، فعندما أمر بسجني، لم اصدق أنني سأرى النور مرة أخرى..
ـ هذا صحيح، لأن فخامته أمر بإطلاق سراحك ما أن يذهب إلى العالم الآخر.
  هزّ رأسه، متمتما ً:
ـ اعرف، اعرف، اعرف ...، كي التحق به!
[11] براءة
   عندما طلبوا منه ان يدخل إلى مملكة الموتى، بعد ان فارق الحياة، وجد الموتى بانتظاره، سأل الدفان:
ـ غريب، لماذا لم يعقدوا صلحا ً في حياتهم الأولى..؟
فقال الدفان:
ـ ليس هذا هو الغريب، بل لأن جرثومة الموت ستعمل مع أحفاد أحفادهم، حتى يوم تقوم الساعة.
ـ لماذا ..؟
ارتبك الدفان، لبرهة، وسأله:
ـ أراك مازلت ترغب بالعودة إلى ..
فصرخ:
ـ لا ...، فانا كنت ضحيتهم.
ـ لكنك قط لم تكن بريئا ً..!
[12] دليل
  شاهد الجنود الغرباء يقتربون من بيته، فدار بخلده، إنهم لم يتركوا شيئا ً على حاله، لا حجرا ً فوق حجر، ولا بابا ً مغلقة، ويقولون لنا: جئنا نحرركم، ونعلمكم الديمقراطية!
نظر إلى جاره الذي كان يعمل مع الغرباء، وهمس في أذنه:
ـ لماذا أصبحت دليلا ً لهم..؟
اقترب الضابط الأمريكي منه وسأله:
ـ هل لديك سلاح..؟
ابتسم العجوز، ولم يجب. فقال جاره لهم:
ـ ألا تراه شيخا ً هرما بانتظار الموت!
فقال الضابط يخاطبه:
ـ غريب، الميت يوشى بالموتى!
[13] عطر
   كان، في فجر كل يوم، يذهب يزور قبر حبيبته، في المقبرة، يضع وردة ـ لدقائق ـ فوق ضريحها، ويعود إلى بيته حاملا ً الوردة ذاتها معه. فسأله جاره:
ـ غريب، لماذا لم تدع الوردة لها، وتصطحبها معك ..؟
فقال العجوز:
ـ بالوردة استنشق ما تبعثه لي من عطر، من ثم، لا ادعه معها تحت الأرض، فانا مازلت حيا ً لهذا السبب..!
ابتسم الآخر، وسأله:
ـ أراك تبتسم، هل حكيت طرفة!
ـ لا، إنما تذكرت هؤلاء الذين يحرقون موتاهم ..
فقال بصوت خفيض:
ـ كي تبقى ذكراهم أبدية في الريح!
[14] خيانة
سأل زميله في العمل:
ـ لماذا خنت شعبك..؟
ـ أنا، بالعكس، شعبي هو من علمني الخيانة..!
  فقيل، انه منذ ذلك اليوم، لم يذهب إلى العمل، ويقال، انه لم ينطق بكلمة.

6 أيلول 2013


ليست هناك تعليقات: