بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 14 فبراير 2015

نصب الحرية لجواد سليم . ملحمة شعب وذاكرة حضارية - القسم الثالث-عادل كامل



عادل كامل

نصب الحرية لجواد سليم . ملحمة شعب وذاكرة حضارية - القسم الثالث[5] تمرين في الرؤية ـ في الحرية
نصب من غير قاعدة، مقارنة بتقاليد إقامة النصب والتماثيل، القديمة منها أو المعاصرة، مما سيشكل مفارقة مع نظام عمل دفن البذرة ـ وانبعاثها، أولا ً، ومع ما هو راسخ، ومتعارف عليه، ثانيا ً، فهل كان لا شعور جواد سليم موازيا ً لدينامية النصب: الحرية، كي يقيّد جداريته ويكبلها بثقلها ـ وهي مكونة من بوابة مستطيلة بخمسين مترا ً طولا ً، وبعرض ثمانية أمتار، وبسمك متر واحد، ومرتفعة عن الأرض بخمسة أمتار ـ أم تاركا ً لا شعور العلامة، النصب برمته، لا يسمح للمشاهد إلا ان يرفع رأسه ـ بعد قرون من الرداءة تمتد إلى ما قبل احتلال بغداد 1258 ـ غالبا ً، إلى ما فوق الأفق ـ الأرض، للقراءة، والمشاهدة..؟ وسيسمح لنا الاستقصاء للإجابة، بمعرفة أراء (الملايين) التي اضطرت ـ وهي تدّرب على الحرية عبر لا شعورها ـ النظر إلى الأعلى، عن قرب، أو عن بعد، كي يعيد النصب، معالجة اعقد إشكالية درسها حكماء بابل، بالاستناد إلى فلاسفة سومر، حول جوهر (العدالة)،(1) ولماذا لم تجد، في الغالب، تطبيقات تناسبها، وهل خطر ببال جواد سليم، وقد أكد ذات مرة انه تعلم كيف ينسى الذي تعلمه،(2)، انه صاغ طريقة في الرؤية تقول ان الحرية ـ كالعدالة ـ تشترط ان لا تجعل من الإنسان (معاقبا ً) أو ان يكون محض ضحية، جاعلا ً من النظر إلى ما فوق (التراب) دافعا ًعفويا ً، من غير قيود، للتسامي ـ ولكن ليس على حساب الإنسان، بل بتحرره من القيود التي وجد نفسه مكبلا ً بها ـ كي لا يمتد زمن كمون (البذرة) طويلا ً، والى ما لانهاية، حيث النظر إلى أعلى، يماثل عمل البذور التي تمد جذورها عميقا ً في الأرض، كي تعانق براعمها الشمس. 

ليس هذا محض تأويل يسمح بالعثور على تسويغ لدحض موت: الفن ـ وموت الفنان ـ بحسب هيجل وصولا ً إلى رولان بارت ـ وإنما ممارسة عملية طالما وجدها جواد سليم لديه، منهجا ً ينقله من العشوائية ـ بالتجريب ـ إلى أسس الفن، في أقدم أزمنته، وفي أكثرها حداثة، حيث تشتغل المشفرات بإنتاج تدشينات تكاد تتقاطع مع مقولة سقراط: لا جديد تحت الشمس، إذ ْ، مع كل قراءة، يولد المتلقي ـ كي تأخذ الدورة قانونها ـ ليتكّون الجديد، بدحض قديمه، مثلما من الصعب ان يتم سلب (أحلام) العقول التي ولدت (حرة)، بحسب أممية قوانين العدالة، وكليتها.
فأسلوب النظر، كتمرين في الرؤية، منح النصب قدرة إقامة علاقة مع الآخر، حيث الأجيال، تمر، وفي الواقع، يمر النصب، معها، كي يتجاوز معنى انه محض (لافتة) نحو العلامة اللاشعورية، التي أقامت جذورها عميقا ً في الذاكرة، كي يكون انبثاقها، مماثلا ً، لعمل البذرة: من الأرض نحو الشمس. وهو جوهر مفهوم الخصب، في حضارة وادي الرافدين، بحسب أساطير تموز وعشتار.

وما دام اللاشعور ـ بل والتحرر من قيود الوعي نحو تحرير مناطقه السحيقة أو النائية ـ سيغدو درسا ً في التذوق، وبحسابات بسيطة، سيغدو النصب ـ بكتلته الضخمة المرتفعة فوق الأرض، المكونة من الاسمنت والحديد والبرونز ـ خارج عمل الجاذبية! فالأطنان المعلقة في الهواء، وجدت رابطا ً خفيا ً شبيها ً بعلاقة الساق ما بين أعالي الشجرة وجذورها، إلا ان هذه (الساق) هي الأخرى، تعمل عمل النسغ، وشبيهة بعمل القوى غير المباشرة للديمومة.
فهل ثمة لغز ما، استبدل قوانين الجاذبة، بمنطقها، بقانون آخر لم يشعرنا بما دونه النصب (الملحمة)، من أزمنة ثقيلة، توازي، رمزيا ً، ثقل شخوص البرونز، وحجارة قاعدتيه أيضا ً. وهي تخاطب خيال المتلقي، وذاكرته، وقد ارتفعت من الأسفل، نحو الأمل ..؟

ومع ان وعي جواد سليم حافظ على ديناميته الواقعية، كاعترافه بان الفن العراقي، كالشعب، ارتبط بالأرض ..، لم يبلغ الكمال ولم يعرف الانحطاط..." متابعا ً " مبتغاه الدائم الحرية في التعبير إذ ْ حتى في فن آشور الرسمي فان الفنان الحقيقي ينطق خلال مأساة الحيوان الجريح" (3) ، إلا ان لا وعيه، ورهافته، وتجريبيته، شكلت دافعا ً للعثور على إجابة صاغها ما يكل أنجلو ـ وأكدها بيكاسو ـ بأنه يجد، أو يكتشف، ولا يصنع، أو يستحدث، أو يخترع، حيث بذل جواد جهدا ً، حد الموت ـ وكقدر طالما عرفّه يونغ وكأنه مدوّن عبر تتابعه المستقبلي وليس ارتدادا ً نحو مقدماته حسب ـ كي يصنع، ويستحدث، وينتج (اكتشافه)، وكي يمنح استحداثه مفهوم الاثاري وهو يعثر على الأثر ـ الكنز.
معادلة لا تنغلق بحدود التوازن بين المقدمات والنهايات، وبين الذاكرة والمخيال، وبين اللا جديد والجديد، أو بين التراث والمعاصرة، أو ان الحي من الميت، والميت من الحي ..الخ، فحسب، بل تضعنا في المفهوم الأكثر تعقيدا ً للعلامة ـ كماركة خاصة بنوع يحدد هوية السلعة ـ بصفتها، كما قال ماركس، كم مشبعة بالميتافيزيقا. على ان (الميتافيزيقا)، بهذا المعنى، ليس محض تصوّرات أو أقنعة تم عزلها عن عللها، ودوافعها، ومكوناتها، وإنما للذهاب ـ عند ماركس وعند جواد سليم ـ نحو حركة حلزونية، لا ترتد، بل تتقدم، حاملة معها مشفراتها، بالكتابة أو بالفن نحو ما هو ابعد منهما، ألا وهو ديمومة ان الانشغال بالحرية، حتى عندما لا يقود إلى ذروتها، لا يقارن بمن لم يجعل منها نبراسا ً للانعتاق، والتحرر.
وفي أحاديثي الطويلة مع الفنان إسماعيل فتاح، عبر نصف القرن الماضي، لم أجد مقولة دقيقة ـ وإن بدت شعرية ـ كالتي منحت فتاح، هو الآخر، نظاما ً مستمدا ً من القانون الذي سمح لجلجامش ـ علامة لديموزي ـ، ان لا يُدفن، ويجتاز طبقات الظلمة، إلا بالعمل، حيث ان النحت العراقي الحديث، لم ـ ولن ـ يمر إلا من تحت نصب الحرية، مثلما خرجت الرواية الروسية، من معطف غوغول.
1 ـ حول الفقر في وادي الرافدين، يستشهد بلند الحيدري بالنص السومري التالي" اذا ما مات رجل فقير لا تحاول إعادته إلى الحياة فهو اذا امتلك الخبز عدم الملح وإذا امتلك الملح عدم الخبز، فإذا كان لديه اللحم لم يكن لديه البهار وإذا كان لديه البهار عدم اللحم... الثراء صعب المنال، ولكن الفقر معنا ليس للفقير سلطة" بلند الحيدري [لمحة عن العامل في الفن العراقي] مجلة الرواق، وزارة الثقافة والفنون ـ بغداد 1978 ص4 وما بعدها. وفي الأصل هناك محاورة حملت عنوان (العادل المعاقب) تفصح عن تعقيدات للمشكلة الطبقية.
2 ـ جواد سليم ونصب الحرية ـ مصدر سابق ص 72
3 ـ جواد سليم. دليل المعرض السنوي السابع للرسم، المعهد الثقافي البريطاني ـ 1958

[6] الرؤية ـ والتحولات
لو لم يتم تفكيك الإمبراطورية العثمانية، بعد الحرب العالمية الأولى، كنهاية دورة، والبدء بدورة أخرى، وبعد حروب أدت إلى تراجعها، وتخليها عن الأجزاء التي استولت عليها، لكان العراق، ومعه باقي الأقاليم، غير مهيأ لتحولات وتصادمات، ستجري بين تقاليد بدت راسخة، وثابتة، وأخرى عملت على بناء تصورات، وعادات، وأخلاقيات مغايرة. انه ليس صراعا ً بين (القديم) وبين (المعاصر) إلا بصفته يحيلنا إلى صراع: أدوات ـ وما تنتجه هذه الأدوات من أفكار، ومُثل، وتحولات. فالأشكال المستحدثة (كالأنظمة الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية) ما هي إلا علاقة هذه الأشكال بمحركاتها ـ ومكوناتها العميقة.
فلم تجر ثورات علمية، أو معرفية، ولم تحدث تراكمات ثقافية خلال قرون طويلة تعاقبت الحكومات فيها، عدا الانتفاضات، وأحداث التمرد المتفرقة، التي حصلت، في الغالب، بتراكم الظلم، حد الجور، وقد قمعت، في الغالب، بقسوة.
على ان بعض اعقد نزعات الإنسان نحو (الانعتاق)، لم تدمر، حتى بالقضاء على محركاتها، ورموزها. لا لأن بنية الوجود قائمة على ملغزات ـ إن كانت مادية تاريخية أو محض تصورات مثالية وخيالية ـ بمعزل عن تلبية أساسيات الحياة: الغذاء، والصحة، والتعليم، مع قليل من الرفاهية!

ويبدو ان استقرار العراق، النسبي، بعد تشكل أول حكومة (1921)، وصولا ً إلى الحدث الأبرز، في العام (1958) مهد لظهور هذا الشعور بان الإنسان لا يولد في الظلام، ويدّب في ممراته الحالكة، كي يدفن فيه، كما كان ألجواهري يكرر الحكمة الصينية القديمة: يولد الإنسان في الحزن، ويعيش فيه، ثم لا قبر له غير ان يدفن في الحزن! وإنما كانت ثمة (ومضات) و (هواجس) و (إرادات) ـ بفعل لقاء الحضارات وتصادماتها أيضا ً ـ أدت إلى أساليب تدشن للمرة الأولى، بالرغم من امتداد جذورها عميقا ً في التاريخ ـ وفي الذاكرة، ومنها العناية بالثقافة، والمعرفة، والفنون ..
ولهذه الأسباب، ومنذ نهاية عشرينيات القرن الماضي، ظهرت مؤشرات بناء جيل ـ في الحقول كافة ـ سيشكل نواة جيل حمل اسم: الرواد؛ في الطب، الحقوق، التاريخ، إلى جانب الثقافة، في المسرح، والرسم، والموسيقا، والنحت، والسينما، والرواية، وفي حقول العلوم الاجتماعية، والفكرية..الخ
ومع ظهور موارد جاءت مثل هبة، من غير جهد يذكر، وهو (البترول) فان ثمة تحولات ستفرض أنساقها باستحداث عادات كان من الصعب ان تحدث، في العصور الماضية، ومنذ ألف عام.
فظهر هذا الجيل، وظهرت كوكبة من الأسماء، لم تتكون، من غير مفهوم (التحديث) والعمل المضني من اجل (الحرية) والسلم المجتمعي، والدخول في العصر.
لكن هذا لم يجر فوق خشبة المسرح، للترفيه، بل بكفاح مرير، وعنيد، فوق ارض وادي الرافدين، والعراق الحديث. كفاح لم يتشكل إلا بتضافر الأدوات الحديثة في إعادة بناء حاضر البلاد، ومستقبلها.
الأسماء التي مازالت جهودها جديرة بالاستذكار، ستمنح هؤلاء (الرواد) قدرات في استعادة أزمنتها الرائدة، في: الكتابة، والتعليم، والزراعة، والصناعة، وفي المخترعات، والمعرفة، والملاحم، وفي الفنون والثقافة، مثلما في العدالة والشرائع، كي تتكامل معادلة الحياة بين العمل والرفاهية، وبين الكد والسعادة، وبين الحاضر وما بعده.
ومسيرة جواد سليم، منذ نشأته، أولى هذه الموضوعات، ترابطها، بما كان قد شكل حكمة في حضارات وادي الرافدين: العمل ـ العدالة. على انهما ـ في فترات تقصر أو تطول ـ يغيبان، أو يتعثران، أو يتراجعان، فتسود الفوضى، وترتد الحياة إلى الحقب المظلمة. 

كان جواد سليم، في الأصل، يمتلك موهبة خاصة، حد الاستثناء، بالعثور على حلول لهذه المعضلات ـ على صعيد الفن ـ متقدما ً على أقرانه، (1) ولكن المهمة لم تكن بحاجة إلى حياة واحدة، فكيف اذا به يتعرض للإجهاد، بين فترة وأخرى، حتى كانت ثمة همسات تتحدث عن رحيله، قبل انجاز نصب الحرية..؟
ولكن جواد سليم مكث يعمل ضمن حدود أكثر الموضوعات حساسية: الموت ـ الحياة، بموازاة: الظلم ـ العدالة، كي يستعيد أسئلة جلجامش، أو عبقرية كاتب الملحمة، حيث لم يترك موضوع الموت ـ الغياب، إلا ديمومة للحياة ذاتها.
فجواد سليم، منذ جداريته (البنّاء) حلم ان يروي قصة الشعب، بتنوعه، وبأزمنته، وما عاناه من فترات قاحلة، امتدت إلى قرون، كي يبني، خارج نطاق المحترف، وبعيدا ً عن مفاهيم النحت المتعارف عليها، وبعيدا ً عن تلبية ذائقة النخبة الاجتماعية، صرحا ً استمد أسسه من الذات الجمعية للشعب، وبخطاب امتلك أدواته الحديثة.
فالغياب، وإن هو لا يقهر، إلا ان معالجته بالحضور، سيغدو معادلا ً للحقيقة ذاتها التي قامت عليها الثورات، في مجالات الحياة المختلفة، مما دفع بالخطاب الفني إلى ذروته: دينامية العبور من عصر إلى آخر، حيث (الحرية) تعيد إنتاج من يمنحها تطبيقاتها العملية.
ففي النصب الملحمي، إذا ً، يتصاعد (الحدث) عبر رموزه المختارة، بعناية، وعبر حركته الدرامية، كي لا يتوقف عند علامة أخيرة، بل بحركة دائرية، استمدها جواد سليم، بوعي أو بالحفر في ذاكرته السحيقة، من مفهوم الدورة، كأقصى حكمة استنبطها حكماء سومر: ان الحرية لا تأتي من العدم، بل لا يصنعها إلا الإنسان، بالعمل. وهو درس آخر استقاه جواد من محاورة الراعي والفلاح ـ وهي قصة ستشكل منحى مغايرا لها في التنصيصات القادمة ـ حيث سيكمل ما أنتجه الراعي ـ الجوال ـ وما أنتجه المزارع ـ المستقر في الأرض ـ لفك اعقد تناقض حاصل بما تنتجه وسائل الإنتاج، وتؤدي إليه من صراع جوهره الملكية ـ بمعنى التراكم ـ، ومصيرها عبر صراع الطبقات. ففي النصب، ثمة نزعة إنسانية، تتخذ من العلاقات حوارا ً، بتوتراته، لن يقود إلى الدمار، بل ليشكل بنراما جمالية، تحافظ على قانون ان الحرية، لا تنبني إلا برؤية كائنات حرة، ولا تتقاطع، بالتصادم، أو بالتدمير. فجواد سليم كتب، في العام 1944، إشارة تؤكد هذا المنحى: " إنني كثيرا ً ما امثل دور النحات بالمؤلف الموسيقي. فالمؤلف الموسيقي تتعلق درجة إنتاجه بكثرة سامعيه: فكلما كثروا كثر إنتاجه واخذ شكلا ً أرقى وأنفس، وكلما قلوا صغرت انتاجاته وقلت قيمتها..." لأن هذه المقارنة ستقود إلى " سعة رسالتها مع النصب الموضوع في احد الميادين والذي يعطي فكرة نبيلة عالية لكل سائر"
فالنصب، في ذهن جواد، تمثل خلاصة تفكير دائم بالحرية، في مواجهة القهر ـ والموت، إن كان شخصيا ً أو قد يمتد ليشمل مساحة اكبر من المكونات. فالفن ليس تحديا ً للغياب، أو ترويضا ً له، بل هو الطريق ذاته مهما كان وعرا ً، وشاقا ً، وهو الذي يسمح للبذرة ان تحفر جذورها في أعتى الصخور صلابة، كي تورق، مادامت الشمس لا تكمن خرجها فحسب، وإنما لأنها تكمن في أعماقها أيضا ً.

* صدر الكتاب عن دار الأديب ـ عمان ـ 2014
1 ـ لعل إعجاب الأستاذ جبرا إبراهيم جبرا ً له مبرراته، وليس محض هوى، أو لأسباب أخرى. وهذا ما كان يغيض الفنان خالد الرحال، فيقول: لماذا لن يولد فنان كجواد إلا بعد قرون..، بالرغم من الاحترام العميق الذي طالما أعرب عنه تجاه عبقرية جواد سليم.
2 ـ نصب الحرية ، مصدر سابق ص 63

ليست هناك تعليقات: