بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 16 أبريل 2015

رسائل إلى حبيبة في المنفى -جميل ابراهيم



رسائل إلى حبيبة في المنفى

* مسافر إليك ... مسافر إلى أرضك الخصبة ، محملاً بالشوق والدموع ... أجدك في كل لحظة ... بين أشيائي وحاجياتي ، وفي دقات جرس الهاتف ، وبين نسيم الصبح ، وفي الأغنية التي أحبها ، وفي عطر الوردة التي أشمها ، وبين سطور ما أقرأ وأكتب ... أجدك في وجه أمي ، وأختي ، وابنتي ... أهذي عنك : في هذا الوقت تنام ، وفي تلك الساعة تصحو ، وعلى هذه الأريكة تجلس ، وعلى تلك الأنغام تستمع ... فما أروع وجهك الصبوح ، حين يلوح لي غصن زيتون ، وما أحزنني عندما تغادرين ... بدونك أكون نهر ، تحترق في جوفه المياه ، والعالم يضيق بخطواتي باحثاً عنك في كل مكان .. في الطريق تذكرني بك الوردة والعصفور ، وأغاني الربيع ... ويمر صمتي كالحجر ، وبلهفة الشوق قلبي يعتصر ... ما معنى ؟ أن تقفي في الضفاف البعيدة ، وأنا أنتظر ؟ وفي داخلي تتقد جمرات الشوق ، يعذبني الحنين ... وما السبيل إلى نسيانك ؟ وأحلامي عنك تتجدد ، وهل من إنسان عاقل قادر أن ينسى أو يهجر الحياة ؟ ..قبل أن أعرفك : كنت كالحيوان البري ، لم أأنس الوجود ، متوحش ، أجوب البراري والطرق البعيدة والغابات ، فيا أنت : التي ولدت خارج زمانها ؟ كيف لي أن اصبر ؟ ومنك تعلمت الحضور ، ومغازلة الوردة ، والمحاورة بالكلام .. فأنت التي تذوب في عينيك القصائد والكلمات ... أبحث عنك وراء سبعة بحار ، ومن بين الحرائق الشاسعة في الأرض .. أريدك ... أريدك ، فأنا القادم إليك ، لقد مزقتني الشوارع وطرقاتها المبتلة بالدموع أينما أتجه تصير الأماكن أنت ، ولا شيء يطيب لي إلا حضورك ، فأنت أرضي وسمائي ، فمن أجلك أقصيت الأحبة ، وفي مرساك أحرقت ما مضى ...
هذا أنا : بدونك تذرني والعواصف ، ضباب كل ما في الدنيا إلا أسمك .. ومن بعدك : أيوجد طريقاً معبداً إلى غيرك ؟
حين يضيق بيّ السبل ، تدور في ذهني أسئلة السنين ، وقحط الأيام ، وأنا أسأل عنك ، وعن الحياة ، وعن المصير ، في هذا الزمن التي تجردت نفوسنا من كل بهجة وفرح ، وأكتوى عالمنا الذي كان آمناً بسطوة الموت وإرهاب المفسدون الذين عبثوا ، وأشاعوا في نفوسنا الخراب ... بعد هذا الحصاد المر من سيعيد لهذا العالم توازنه ونظامه ؟
أسألك : كيف تطلبين مني أن أكتب عن الربيع والبهجة ولي وطن يأن من الجراح ؟ ومن أين أأتي بلغة الفرح ؟ وأن التي أحبها تسكن المنفى ؟
أتذكرين : يوم الأثنين من عام 2004 فيه قتل قاسم عبد الأمير عجام ، كان يوماً مأساوياً ... ذهب ذلك المفكر والإنسان والصديق ...
كان يوماً مشؤوماً لا يصدق ، أن يمحي من الوجود إنساناً موسوعياً في العلم والثقافة والمعرفة ، تألم الجميع ، واحترقت المشاعر بين من يصدق ، وبين من لا يصدق ... نسأل : هل تموت النجوم ؟ ويطال الموت أعز الناس وأقربهم إلى النفس ، كانت صدمة ، وذهلنا لما حدث ، وكنا لا نصدق أن يرحل عنا قاسم عبد عجام والأديب والصديق والإنسان ، من يصدق موته ؟ ونظراته الحنونة ، وهو يراقب كل منا في حضوره الدائم في أمسيات إتحاد أدباء بابل تجعلنا نتابع أثره لحظة بلحظة ، لن ننسى صمته الوقور ترافقها ابتسامة عذبة ، وحنونة نابعة من شغاف قلبه الكبير ، وطلعته البهية حين تطل ، ليلتف حوله من يهزه الشوق ، أو يحضر أمامه من يريد أن يسأل : وهو حين يحاور ويجيب يرسم للحضور أجمل صورة عن الوجود والحياة .

*الآن ... رحل عنا جسداً ، ولكنه لم يرحل عنا مبدعاً فإشعاعاته في المعرفة والفكر والأدب باقية بيننا ، وحاضرة في كل الأزمنة ، فهو لم يغادر ندواتنا ، وصحفنا ، وأفكارنا ، وباقي في أرضنا وسماءنا ... فأديبنا وصديقنا قاسم عبد الأمير عجام : لم تشغله هموم الحياة ومتاعبها عن دروب الثقافة والمعرفة والاطلاع ، فكان يتبع الكتاب والمعلومة من مصادرها الرئيسية ، فهو لم تلهيه أية مغريات تحول دون سريان الأدب في شرايينه وأوردته كنا نتسائل ... من اراد ان يوقف هذا الصوت ؟ ومن هؤلاء اللصوص والقتلة الذين أدنوا إليك وأرادوا ما أرادوا بك ؟
وأنت : الذي بت شامخاً مترفعاً بسمو فكرك وأدبك الجم ، رافضاً في السر والعلن كل ما يسيء للناس ، ويقف في طريق طموحاتهم في الحياة ، إن رصاصة الغدر التي اخترقت الجسد الطاهر لقاسم عبد الأمير عجام كانت عمياء لا تفرق بين من وهب نفسه للحياة وبينما يكرس ارادته لخدمة الشر وأعوان الموت ، فلا عجب أن يطوله الغدر في وقت مبكر ويمضي ، ونحن كنا ننتظر منه ونريد أن يطول البقاء ، وأن لا يذهب قبل أن تترك خطاه مزيداً من العطاء الذي نطمح به لأغناء الثقافة بما هو نبيل وأصيل .. أنهم قتله : تنبهوا إلى وقع خطواتك إلى أين تتجه .. وما يدور في رأسك من طموح وأحلام عن الوطن وعن الحياة وعن الثقافة ، لذلك تعجلوا تنفيذ خطواتهم الشنيعة ، والقوا بكل شرورهم وغدرهم وقد فاتهم كلصوص وقتله ، أن موتك أصبح رمزاً ، وقتلهم المتعمد الذي ارتكبوه جهلاً وحقداً وأجراماً لم يرحل بك كما يرحل من يموت ، لأنهم مأجورون ، ولأنك إنسان بار ومبدع وصاحب قضية .
فغياب قاسم عبد الأمير عجام : ليس موتاً ، فهو ذاهب إلى ذمة الخلود ، وهناك سيجد علي وسقراط والمسيح قتلوا غدراً ومضوا قبل الأوان .

*لقد تغير الزمن ، وعالمنا أصبح شائكاً ، فكم تغيرت حولنا مواقف وطباع ... فبين عام 1966 – 1986 وعام 2010 مضت عقود طويلة من الزمن ، كم عانيت في بداياتي ، وكم عذبتي حالات كنت أجهل التصرف حيالها ، لذلك فقد أخفقت في تجاوز كثير من المواقف دون أن أعي ما يتستر ورائها من نوايا .. بقيت مصراً ، ومتحدياً ، رغم ما أصابني من جزع وخيبات أمل .. الآن : مشوارك قد بدأ ، ينبغي التعامل مع الحياة بشيء من التروي فالمشوار طويل ، وينبغي أن تكوني متسلحة بتجارب الآخرين وحكمتهم ... حذار من السير بين الجدران الآيلة للسقوط ، أو الإعتماد على الزيف ، فالمزيفون بيننا كالبكتريا تنهش سمومها بالجسد الحي ، وتتحول الحياة على اياديهم إلى انتكاسات ومحن ينبغي أن نحدد مساحة الخطوة التي تقف عليها ليس المهم أن ننال جميع استحقاقاتنا لنكسب ، المهم أن نؤثر فيما حولنا ، ونمضي للتواصل والتغيير ، علمتني التجارب : ليس بمقدور أحد أن يمنحني طولاً ، أو يزيد من قامتي ، فالعمل هو الذي يمنحنا القدرة على الثبات ، في حياتي أنهارت عروش ومماليك ، وسقطت رؤوس ، لأنهم لعبوا بطريقة الغالب والمغلوب ، فمن أجل أن نضع أقدامنا على أرض راسخة ، علينا أن نتعلم ، ونتعلم ، ونتعلم ، وإذا ما أجاز لنا أن نتعلم ، علينا : أن نعرف : كيف نحب ؟ ولماذا نكره ؟
علينا : أن نحب الفضائل الإنسانية أولاً ، ونبارك تلك الأيادي التي تزرع القمح وتعمل الرغيف وأن نحب مجددي المعرفة والثقافة والفنون ، وأن ننحني لرجالات الفكر والعلم والأدب ، فمن هؤلاء يصاغ النموذج الإنساني ، وتصنع الحضارة ، ومنهم جميعاً تتجدد أوردة الحياة بكل ميادينها الإنسانية ..
بعلمهم يتبدد خوفنا ، وبهم يزال تشاؤمنا ، وعندهم تنتهي أحزاننا ...
حبيبتي : لم يدر في خلدي أن الزمن يمّر ويتقرر الفراق فالميدان الذي جمعنا انتهى ! فماذا أقول عنك ، وأنا في عتبة الوداع ... هل لي أن أواسيك ، أم أواسي نفسي ؟ لا تحزني لما كان فالحياة تجري كنهر ، من يستطيع أن يوقف جريان مائه ، أو يحصي كميات المياه التي تمر .. غداً غداً نذهب إلى البعيد ... ولا شيء بين يدي من حصاد السنين سوى المتاعب ومشيب الرأس وأوجاع لا يمكن تسكينها ... ها أنا : الململم أشيائي الورقية وكتبي الخاصة للرحيل ، وعلى الأوراق التي بين يدي سقطت دمعة لتتلاشى بين غبار الزمن ومرارات الوداع ..
اعذريني أيتها الحبيبة : أن كان جنوني أختياراً ، وحساباتي متخبطة وأن كانت خطواتي إليك متعثرة ، وإن كنت تائهاً ، وممزقاً ، وشريداً ... لا شيء ، إلا لأني أحببت الناس ، ولأني أحببت عملي ، وأحببت مدينتي بابل ، ولأني ... لأني أحببتك أحببتك ملايين المرات .

ليست هناك تعليقات: