بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الجمعة، 26 يونيو 2015

قصة قصيرة- غبار وكلمات: عادل كامل

قصة قصيرة



غبار وكلمات



عادل كامل


ـ هل تتذكر الديناصور الذي كان يختار أجمل طيورنا، وأجمل غزلاننا، وأغلى ما نمتلك من فتياتنا، وفتياننا،، ويلقي بهم إلى فم التنين، سيد السماء، والصحراء، والبحر، سيد الظلمات والأغوار السحيقة، للحفاظ على عرشه في هذه الحديقة، من الزوال...؟
سكت الجد برهة، ثم أضاف يخاطب حفيده الذي طلب منه أن يوصيه بوصيه يتخذها نبراسا ً له: 
ـ ثم اجتمع سكان حديقتنا، بعد أن بلغ الجور ذروته، في ظلام ليلة عاصفة، شديدة البرودة، وامسكوا بالديناصور، والقوا به إلى فم التنين...؟
  رد الحفيد:
ـ سمعت بالحكاية، وقرأتها، منقولة عن أسلافنا، وأجدادنا، وحكمائنا، ولكنني، يا جدي، كنت آمل أن توصيني، وترشدني...، كي اتخذ من وصاياك، هدى للمشي من غير عثرات...، فأنت تعلم كم الدرب موحش، ومقفر، حتى إنني أكاد لا أراه... إلا حفرة مسورة من يدخلها لا يخرج منها! وأنت ترى كم أصبحت حديقتنا لا تحتمل، زاخرة بالضوضاء، والصخب، والبغضاء...، حتى كأن مهمة مديرنا أصبحت معنية ببناء نظام يرسخ الكراهية بيننا، ويعزز أمجاد سلفه الديناصور سيء الصيت...!
تنهد الجد، مستكملا ً باقي القصة:
ـ ثم اجتمع سكان حديقتنا، ووضعوا خطة للقضاء على التنين....
صاح الحفيد:
ـ يا لها من شجاعة...، لكن هل حقا ً أوقعوا التنين في الكمين، وتم القضاء عليه...؟
ـ لا تتعجل....، كأنك بلا رقبة، وبلا بصيرة! فلم يكن التنين حقيقة...، بل كان وهما ً من الأوهام! كان ذريعة، لخداعنا، وتعزيز مجد من لا مجد له!
ـ ماذا تريد أن تقول....؟
ـ أردت أن أقول إن التنين، والديناصور، ونحن الأبرياء الضحايا، على مر القرون، والزمن...، لسنا إلا لعبة لا أول لها ولا خاتمة! فهي مثل الليل الذي يتعقب النهار، فلا هو امسك به، ولا النهار نجا من ليله! بل قل هو مثل الموت الذي قرر أن لا يدع أحدا ً ينجوا منه ليكتشف انه ـ مهما عمل ـ لا يكف عن رؤية من فلت منه...، بل وهو شبيه بمن صرخ: وجدتها، وجدتها...، ليكتشف انه فقدها، ليعاود البحث عنها، من غير كلل، أو إعياء!
قال الحفيد بصوت حزين:
ـ وهذه ـ هي ـ وصيتك لي، وهي خلاصة عملك، وفكرك، وحكمتك؟
ضحك البوم، وتكلم من غير حذر:
ـ لا تتحدث وكأنك أمسكت بالحلم! بل تحدث وكأننا مازالتا نعيش في عصر الديناصور والتنين!
فسأله حفيده بشرود:
ـ لكن زمن الديناصورات ولى، واندثر... ولم يترك حتى أثرا ً لخطاه؟
ـ اجل، ولى...، زمن الديناصورات ...، كي يأتي الزمن الآخر، البديل... ، ليستكمل ما يفعله الزمن القديم..!
صاح ببهجة وتعجب:
ـ انه زمن الأكثر ذكاء ً...؟
ـ تقصد....، الأكثر مكرا ً...، وجورا ً...، وتمويها ً...، منا جميعا ً...؟
ضحك الحفيد:
ـ تقصد انه الزمن الذي يقودنا إلى الحضيض!
ـ انه زمنهم، وهو زمننا ما دما أسراه، لأنهم هم سادته، فهم من يشرف على أقفاصنا، وحظائرنا، وحفرنا، وزرائبنا، ويتحكمون بمصائرنا.
ـ ولكن ماذا افهم بهذه الكلمات....، هل هذه هي وصيتك لي...، وكأنك تقول: إن فتحت فمك قطعوا رأسك، وإن أغلقته فسأموت كمدا ً، أو اهلك مكظوما ً ..؟
ـ لهذا تراني، يا حفيدي، اقبع في عشي...، لا اخرج منه، ولا ادع أحدا ً يدخله!
ـ وما ـ هو ـ مصيري أنا...؟
ـ أنت ـ هو ـ الاستثناء الغريب! بل أنت القوة الوحيدة التي لا تدعني ارحل، التي سمحت لي بالبقاء على قيد الحياة، فأنت لا تدع أحدا ً يدخل علي ّ، ولا تسمح لي بمغادرة هذا العش، من داخل هذا القفص!
ـ أنا ...؟ أنا الخائف، المذعور، المطارد، المشبوه، المنبوذ،  هو ... أصبح سر قوتك؟
ـ قبل أن تأتي إلى هذه الدنيا، في هذه الحديقة، بزمن بعيد...، أوصاني جدي وصية حفظتها بحذافيرها، فقد أوصاني  بحماية حياتي من الأعداء...، قال إن الجميع هم أعداء الجميع...، فان لم تجد الدفاع عن وجودك، غلبوك، وما أن تغلب، حتى تصير عبدا ً مثل باقي العبيد، تأكل وتنام وتموت، لتموت وتولد وتأكل وتنام وتموت، تأتي وتذهب كأنك لم تأت ولم ترحل، ترحل كأنك ستأتي لكنك ترحل وكأنك أتيت وأنت لم ترحل ولم تأت!
ـ وقال لك: لا تدع أحدا ً يغلبك، وأنت فعلت ذلك؟
ـ  كان الأعداء بعدد سكان الدنيا، بل وبعدد كواكبها ونجومها ومجراتها، فالكل اعداء قبل ولادتهم، والكل أعداء بعد فنائهم، فأنت قد ترى بعضهم فتتجنبهم، تتحايل عليهم، تستدرجهم للرضا عنك...،
ـ كان الأعداء بعدد الكواكب والنجوم والمجرات، وبعدد سكان الدنيا، من اسود وتماسيح وخنازير، إلى بعوض وذباب وبرغوث، فالكل عدو للكل، قبل ولادته، وبعد فنائه، فهو يحمل العداء لك، بالبديهة، حتى لو وضعته في موضع الصديق، لأن الأخير ما هو إلا العدو المضمون، بما يمتلكه من عداء بالفطرة، والغايات، فأنت قد ترى البعض منهم، فتتجنبهم، أو تساومهم، أو تتصالح معهم، أو ترضخ لهم، وقد لا ترى البعض الذي يتخذ منك مأوى، وذريعة، وأداة،  فهم يحاصروك من الجهات كلها، من الخارج ومن الداخل، حتى تدرك انك أصبحت عدو نفسك اللدود!  بعد أن تدرك انك عدو الجميع، من المجرات إلى الفيروسات والجراثيم، فعلى من تنتصر، والهزيمة هي تاج النصر! 
ـ آ ...، يا لها من لعبة، غير مرحة، وغير سارة! لأنك لا تقدر أن تفلت منها، حتى لو تجنبتها...؟
ـ أصغ: قال جدي لي، في وصيته: انظر إلى السماء فانك ستجد هناك من يحلق أعلى من الغيوم، وهناك من اتخذ منها سكننا، وهناك من يعيش أسفلها...، وقال لي: انظر إلى الأشجار فانك ستجد من يعيش في الأعالي، وفي الوسط،  وستجد هناك من يمضي حياته في الأسفل...، وقال لي: انظر إلى الأرض، فانك ستجد من يهرول، ويقفز، ويزحف، ويدب، وهناك من تصالح معها، والباقي يمضي عمره في الأنفاق، والحفر، وما تحتهما!
ـ آ ...، يا جدي، أوجز...، فالإيجاز ضرورة!
ـ أنت أيضا ً لا تريد الإصغاء، ولا تريد أن تعرف هذا الذي أنا بصدد معرفته.
ـ ما هو ..؟
ـ قلت الذي أريد معرفته، وليس الذي لا يمكن معرفته. لأن الأخير بحكم الوجود نفسه!
ـ أوجز، أرجوك، فانا أراك لا تريد أن تقول كلمة نافعة...؟
ـ آ ....، سألخص لك الخاتمة وكأنها فقدت بدايتها، بل وكلأنها من غير مقدمات: فلقد قال لي جدي لي: احم وجودك من ... نفسك، فالعدو الذي لا يمكن اجتثاثه يقبع في ظلمات النفس، وليس الخارج إلا حقيقة تؤكد استحالة القضاء على هذا العدو!
هز الحفيد رأسه بذهن شارد:
ـ إذا ً ففي كل منا ديناصورات، وتنانين، وضحايا أيضا ً؟
ـ اجل، اجل، اجل، لكن السؤال هو: مع من أنت، بل السؤال: ضد من أنت...؟
ـ حسنا، آن لي أن أسألك: مع من كنت...؟
ـ اخترت أن لا أكون مع احد! فمادامت نفسي تحمل جرثومة أسلافها، فقد تخليت عنها قبل أن أتخلى عن الأعداء.
ـ وعرفت حقيقة نفسك، أي: سعادتك، ورضاك، ومسرتك...؟
ـ الذي عرفته إنني كنت لا أريد أن اعرف شيئا ً...، لا القليل عن كل شيء، ولا كل شيء عن القليل...، فقد وضعوني في القفص، وقالوا لي: تمتع! فأنت طليق، وحر، وعش شفافا ً!
ـ آ ....، يا له من قفص  لا يتسع إلا لواحد منا...! فهل سأمضي حياتي فيه، بعد أن تتركني، يا جدي، للأعداء؟
ـ  إذا ً...، هل عرفت لماذا كنت لا أغادر عشي الصغير، في داخل هذا القفص، داخل أسوار هذه الحديقة؟
ـ لا...، لا لم اعرف!
ـ لأنك ورثت عنا جرثومة ديمومة هذا الذي لا يدوم، لأن الخلود هو انك مهما غبت فأنت لن تغادره! بالأحرى هو من لا  يدعك تغادره!
صاح الحفيد بصوت مضطرب:
ـ لماذا  اقتل نفسي إذا كنت ولدت كي أعيش...؟
ـ أخبرتك بما كنت أود كتمانه، وها أنت نبشت، فعثرت على الذي كنت أتستر عليهّ.
ـ جدي..، لم يعد هناك ديناصورا ً يلقي بالطيور، والغزلان، والفتيان، والفتيات، إلى التنين، فهو أصبح من الماضي، ونحن اليوم نتمتع بحماية هذه الأقفاص، وهذه الأسوار، من الأشرار ومن الأعداء...؟
ـ هذا هو السؤال الذي لم أجد إجابة عليه! فالأعداء هم الأعداء...، فوجودهم يسبقهم في الحضور ووجودهم لا يزول بزوالهم، فحتى لو لم يكن هناك أعداء فهذا يؤكد استحالة عدم وجودهم! فالكل أعداء للكل برضاهم أو بعدمه، بعلمهم أو رغما ً عنهم، لأن عدم وجودهم يتقاطع مع وجودنا! إن كانوا خارجك أو إن كانوا سكنوا أقاصي روحك! فأنت ولدت لتتذوق صنوف المرارات، بمختلف مصادرها، وأنواعها، وغرائبها...، ثم عليك أن تغلق فمك وتقول لنفسك: لا معنى للشكوى...، ولا معنى للغفران، ولا معنى لأي معنى من معاني الغوايات، والتمويه، والخداع....
ـ كأنك، يا جدي، توصيني بالتصالح مع الأشرار الأعداء الأنذال ...؟
لم يجب. فقال الحفيد بشعور المنتصر:
ـ أو تطلب مني إعلان التمرد، والعصيان، والحرب...؟
ـ آ    ....!
تأوه الجد بألم، وسأل حفيده بصوت مرتبك:
ـ ماذا تريد مني...، بعد أن تخليت عن الجميع، وبعد أن تخلى الجميع عني...؟
ـ لا أريد إلا أن أتعلم منك....
ـ أووووه....
صمت وامتد الصمت فترة غير قصيرة:
ـ يا حفيدي...، تعلم كيف لا تتعلم! وفكر كيف لا تفكر! وأخيرا ً: أحلم أن لا تدع أحدا ً يراك تحلم!
ـ كأنك بلغت درجة الكفر..، فانا أشم رائحة المعاصي في كلماتك...، بل واستنشق ما هو أقسى منها..
ـ ماذا تقول...؟
ـ انك تعلمني الرحمة؟
ضحك الجد:
ـ اجل...، الأقسى من الموت هو انتظاره، وهو انك لا تعرف متى يأتي..، والأقسى من ذلك هو الرحمة! فالأخيرة تسمح لك أن ترى ما يجري بوضوح أدق، بل وترى الذي لا يراه احد سواك!
تساءل الحفيد بخوف:
ـ الرحمة..؟
ـ هو أن تمحو ما تعلمته، ولا تعمل كي تتقدم في العمل، ففي كل ثانية يحدث ما لا تراه العين، وما لا يدركه العقل...، وما لا تدركه البصيرة، بعد ذهاب البصر!
ـ آ ...، فهمت.
ـ لم تفهم...، أنا ظننت إنني فهمت أن الديناصور كان يرتكب جرائمه من اجل الحفاظ على سلطته...، ولكنني سألت نفسي: ما الذي يحدث لو لم يرم الأبرياء إلى فم التنين...، هل ستزول سلطته، ولا تدوم، بعد أن ورثها عن أسلافه ...؟
ـ وماذا استنتجت...؟
ـ إن أحدا ً لم يفهم هذا الذي كانوا يعتقدون انه هو الحقيقة....
ـ كان عليهم التقدم...، وتخطي عثراتها..
ـ وهنا تحديدا ً يكمن لغز التصدع الأعظم...، فالقوة التي عملت على صناعة ثوابتها، كانت تعمل، في الوقت نفسه، على إفنائها.
ـ لهذا اخترت أن تتجنب الاختيار...؟
ـ بل اخترت الذي سمح لي بعدم رؤية ما كان يحدث، لا رؤية الديناصور، ولا رؤية التنين، ولا رؤية الضحايا!
ـ كأنك لم تعش، بالأحرى كأنك كنت تقول: هذا هو العدم تماما ً!
ـ هذا ما شغلني ...، وجعلني أدرك لا جدوى هذا الانشغال، هو إنني أعيش في حديقة نائية، معزولة يظن سكانها إنهم سادة السماء، والبحار، بعد الأرض...؟
ـ آ ...، أظن انك لم تكن مع التنين...، ولا مع الديناصور، ولا مع الأبرياء من الضحايا ...؟
ـ مع إنني انشغلت بمراقبة ما كان يحدث...، فانا لم أر الذي كنت أريد أن أراه...
ـ ها أنت توصيني برؤية هذا الذي لم تره...؟
   كف الجد عن النطق، فقال الحفيد:
ـ أنا لن أكون مع التنين، ولا مع المدير، ولا مع الغزلان، ولا مع الضفادع، ولا مع الطيور....، بل سأكون مع نفسي...
صاح الجد:
ـ لا احد يسمح لك أن تكون مع ..... نفسك..، فهل تستطيع أن تتصور وجودك بمعزل عن هذا الوجود في هذه الحديقة...؟
ـ كوجودك بعد أن اخترت عزلتك...؟
ـ أنا لم اختر عزلتي...، بل وجدت إنها اقل الأضرار ضررا ً...، واقل الإضرار، في الغالب، لا تلغي ما فيها من نفع!
ـ وأنا لن أحيد عن هذا الدرب...؟
ـ لن يدعوك....، فلن تقدر أن تقف سالما ً بين الطريدة والصياد، ولا بين الظلمات والنور، ولا بين التقدم والارتداد....، فأما أن تكون مفترسا ً وأما أن تتجنب الافتراس....؟
ضحك الحفيد، وقال للجد بمرح:
ـ سأدعك تهلك وحيدا ً منسيا ً....، في هذا العش، داخل هذا القفص، محاصرا ً بالأسوار، في هذه الحديقة...، أما أنا فسأصدر امرأ ً كل من لم ينفذه سيرسل إلى المحرقة!
ـ ماذا ستفعل..؟
ـ كل من يعترض علينا فهو ضدنا!
ـ ها أنت تعود إلى وصايا أسلافك: ما الحياة سوى حرب لا يكسبها احد!
ـ انك ـ يا جدي ـ تفقدني عقلي؟
ـ يا ولد...، وهل لديك عقل كي تفقده...، فانا أمضيت حياتي أتأمل المشهد: فلا القرد تحول إلى زرافة، ولا البلبل صار نسرا ً، ولا الضبع تخلى عن الجيف...
ـ ها أنت تناقض نفسك...؟
ـ اعرف...، لأنني لو لم افعل ذلك، فستظن إنني أمسكت باللغز...، وأنا ـ في الواقع ـ لم أجد لغزا ً أوهى من هذا الذي أراه: نولد في الليل بانتظار الفجر، ثم يأتي الفجر، كي نرى الظلمات ذهبت ابعد من حافاتها!
ـ هل نكف عن الانتظار...؟
ـ أنا لم اقل ذلك...، ولكن ليس لدي ّ ما أخبرك به، فالكل على صواب، مثلما الكل على باطل، الأقوى إن لم يفترس الأضعف، فسيهلك، والأضعف إن لم يهرب ويتستر ويتوارى فسيهلك أيضا ً. فهل لديك سوى أن تموه...، وتمكر، وتلعب...؟
ـ اسمع...، سأروي لك الحكاية التي ظننت إنني دفنتها، كي تعرف استحالة حسمها، أو تسويتها. فقبل سنوات بعيدة، وأنا بعمرك،  كدت اشترك في قتل الديناصور، ولم يدر بذهني إن من كان يدعوا إلى التمرد والقتل غايته إرساء مجد الديناصور، ونظامه...، لكن متى أفقت، صحوت، ودار المفتاح في القفل...؟ آ ...، بعد أن كان علي ّ أن امجد التنين!
ـ تمجد من كان يلتهم ضحايانا ...؟
هز الجد رأسه:
ـ لا تتعجب! فأكثر الأسرار سرية، هي التي تخلو من السر! ففي عهدنا كان الجميع يموت من اجل التنين...، أنا قلت: آن لنا أن نقلب الشعار....! ليهلك التنين كي نعيش من اجل الديناصور ولنصبح جميعا ً فداء ً للمجد الحديقة!
ـ بهذا الوضوح...؟
ـ لا...، قطعا ً، بل قلت لفخامة الديناصور: ما دام التنين هو القدر الذي لا يمكن للذاكرة أن تتخلى عنه، فليتم استحداث  القدر البديل...، قلب الذاكرة وتركها تدشن قدرها!
ـ جدي...؟
ـ نعم...
ـ فعلت ذلك...؟
ـ في تلك اللحظات التي تحول فيها الديناصور إلى قدر، لم يعد لوجودي ما يبرره...، فالبطولة التي حسبتها ستدوم، اختفت، والتسوية التي حسبتها عادلة، توارت، ومن غير تعويض!
ـ لم افهم...
ـ أنا لم أصبح مرشدا ً، ولا واعظا ً، ولا وضيعا ً...، فأنت تعرف إن سلوكا ً كهذا لا يخفي خاتمته...، لهذا قفزت...، خارج اللعبة، كي ادخل في مسار لا تعنيني نهايته إن جاءت مبكرة، أو امتدت ابعد من زمنها ...
ـ لكنك لم تصبح نجما ً...؟
هز البوم رأسه، وجرجر حفيده إلى العش:
ـ  الجميع ـ هنا ـ حكموا علينا بأننا نحن من صنع الظلمات، على خلاف أسلافك ـ في الحدائق الأخرى ـ جعلوا منا علامة للحكمة، والعقل، والشفاء! 
وأضاف بعد لحظة صمت:
ـ دعك من هذا ...، لأن الأمور كلها جرت على خلاف قدرها، ذلك لأن القدر الجديد أصبح غاية! وهو السماح بتحويل التراب إلى ذهب، والخراب إلى فردوس، والقتل إلى خلاص!
ـ لكنك لم تحصل إلا على الغبار، والكثير من اللامبالاة...؟
ـ كنت أريد رؤية المشهد كاملا ً...
ـ ورأيته ...، أم مازلت تراقبه عن بعد...؟
ـ لأن الأغبياء ـ قل الأقل مكرا ً ـ يصدقون بان المسرة ستأتي، حتى لو كان لها وجود غائب!
ضحك الحفيد:
ـ مع إن اسمك اقترن بأسماء الديناصور...، إلا انم مازلت تواظب على محو وجوده...؟
همس:
ـ اقترب...، فانا لا أريد أن اسمع صوتي أبدا ً، فانا لا امثل إلا دور البوم...، المجاور لكهوف الخفافيش،  فانا لا أعيش في المجاري، ولا أتغذى على الجيف...، ولكنني لا أريد أن  اصدق أن هذا الذي وقع، وقع حقا ً، رغم انه وقع، وصار من الماضي، بانتظار أن يصبح مستقبلا ً!
ـ أكاد اجن!
ـ هذا يعني انك لم تستأصل جرثومة التنين...، التي مازالت تعمل في رأسك...؟
ـ أي تنين...؟
ـ هذا الذي إن لم تقدم له النذور، والعطايا، والهبات...، ولقم فمه بالضحايا ...، فانه لن يدعك  تذهب إلى النوم إلا وأنت تتحسس رأسك هل غاب أم لا...؟
ـ قبل قليل قلت لي: تخّل عنه..؟
ـ والآن أقول لك: كي لا تدع القدر يسحقك، سر معه، كي تتركه يتهاوى عندما يبلغ ذروته. فأنت، يا صغيري، ولدت للحكمة!
ـ ها أنت تتقمص دور الحكماء...؟
ـ لا...، أنا آخر من يفعل ذلك...، ولكني للأسف انشغلت بسرد الأحداث التي وخزت ضمائرنا، بعد أن سحقتها، ذلك لأنك أنت من طلب مني أن ادع صمتي ينطق! فأخبرتك بما اعرف... مع إنني آخر من يصدق أن هناك معرفة كنا حصلنا عليها!
ضحك الحفيد:
ـ  لكنك تحايلت، وموهت، وراوغت، وقلت شيئا ً آخر!
فزع الجد:
ـ هل تنوي فضحي، والوشاية بما قلت...؟
متابعا ً أضاف بغضب:
ـ أم تنوي القضاء علي ّ...؟
ـ لا... لا انوي الوشاية بك، ولا انوي القضاء عليك...، فانا هو مستقبلك...!
ابتسم الجد:
ـ إذا لن تدعني انشغل بتذوق المرارات...؟
ـ أنا لم اقصد إيذاؤك ...، بل كنت اطلب العون منك.
ـ لكنك لن تقدر على إيذائي!
ـ جميل!
ـ لماذا ....، آه...، إذا ً علي ّ أن أعيد سرد الحكاية بإيجاز شديد: بعد أن استولى امكر الماكرين على الحديقة، بكامل مرافقها، وهيمن عليها..، وصار الجميع يعملون بإمرته...،حتى أدرك أن قواه بلغت ذروتها، وانه لا يمتلك إلا أن يدفع ثمن ذلك، حتى راح يرى وجوده يتشذب، يتقلص، فصار يستنجد بماضيه، فلم يجد إلا التنين عونا ً له، فاخترعه، حتى وجد انه أصبح أول ضحاياه!
ـ كأنك تتحدث عن مديرنا...؟
ـ لا، أنا لا أتحدث عن زعيمنا، ولا عن مديرنا، ولا عن قائدنا....، بل أنا أتحدث عن نفسي! فلقد كنت أظن ان الاشتغال بالحكمة يفضي إلى السلام، والمودة، والمسرات...، لكنني اكتشفت، كما ترى...، العكس، فماذا افعل، غير الاحتماء بهذا العش، داخل هذا القفص...؟
اقترب الحفيد من جده، وهمس بصوت ناعم:
ـ قل وصيتك واختف، فلن أربك عزلتك بعد هذا اليوم.
ـ لن أصدّع رأسك، بأي كلام، لأن الماضي لم يترك شيئا ً إلا وأخذه معه، وما سيأتي، فهو لكم، ليستكمل هذا المسار العنيد، بعدي، وبعدك.
ـ ها أنت أكملت وصيتك، كأنك ولدت بعد موتك! حتى كأنني أنا الذي رحل قبل ولادته!
ـ تنينا ً، أم ديناصورا ً، أم ضحية لا اسم لها بعد...؟
ـ ليس لدي ّ قدرة اختيار احدهم، ولكنني أبدو غير قادر إلا على اختيار هذا الذي اجهله.
ـ آ ....، أنا كنت أتصوّر إنني ولدت كي اخلص حديقتنا من الديناصور وان لا ننشغل بتقديم الضحايا، للتنين، فظهر لي إن الأخير هو الذي اخترع الديناصور، وانه هو وحده أدرك إن عرشه لن يدوم بالحكمة! فراح يعبد دربه بالضحايا، ويستنجد بتقديم النذور وبالقرابين، وعندما لم أجد أحدا ً معي، تساءلت: مع من أكون...، بعد أن وضعوني في هذا العش، داخل هذا القفص، محاطا ً بالحديد، ومحصنا ً بالأسوار....،  فلم أجد ما يشغلني لولا انك استنطقت صمتي، حتى أكاد اصدق انك ـ منذ الآن ـ لا تفكر إلا بما ستوصي به، ذات يوم، حفيدك، بما وقع علينا، من غبار، وأنت ترى إن الماضي لم يغادرنا، بعد أن بارك مستقبله بنا، وبك، لاستكمال كل ما لم يره البصر، ولكل ما  سيذهب ابعد من هذه المصائر.
24/6/2015


ليست هناك تعليقات: