بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 15 أغسطس 2015

في التشكيل العراقي- غالب المسعودي التجربة الفنية وجمالياتها- عادل كامل











 في التشكيل العراقي

غالب المسعودي
  التجربة الفنية وجمالياتها
 

عادل كامل



إشارة:



     بين انشغالات الفنان (الرسام) بصياغة علامات شخصية، غير منفصلة عن ايكولوجيتها، ولا عن تاريخها، وبين الكتابة النقدية، والسردية (القصصية) بتصديها لعصر تتداعى فيه المعايير التي لم تكن، في الأصل، أكثر من هياكل افتراضية، صنمية، ووهمية، يشق الطبيب دربه بنفسه من غير عون أو طلب مساندة. انه أشبه بمن ترك للمصادفات أن تنتظم داخل مسارات حتمية، أو لا متوقعة، كي يخبر نفسه، في الأقل، انه لم يستسغ أن يكون ضحية لهما، ولا للثوابت الوهمية، مهما بدت محصنة. فالطبيب الكاتب، الفنان، تخلى عن الانحياز المسبق، كي يتقدم محملا ً بروح المغامرة، وليس بالأقنعة، بالتصادم وليس بالمصالحة، بالعراك وليس بالتسوية...، فثمة وحدة راح يشذبها من التمويهات، سمحت لذاته أن تتشكل، في كل تجربة، بما تتضمنه من تقدم في اتجاه المجهول. انه لم يخطط لكسب النهايات، ولكنه حسب حساب كل خطوة، وموقعها في الدرب، فالرسم المعني بالسطوح، وملامسها، بالرموز ومشفراتها، تحفر في طبقات الدماغ العميقة، المتعددة، إلى جانب ترك الأصوات تؤدي دور تحولها إلى إشارات، وكتابة، في الرصد، وفي المواجهة. فتجربته القصصية تأتي مغايرة لنزعته بالتطهر ـ والعرفان ـ لتمنح أدوات البحث قوة تذهب ابعد من الكلمة. فالغاية لا تصبح وسيلة، ولا الوسيلة تبرر غايتها، إنما تتضافر وسائل الروح (الخاسرة) كي تدحض الخسران برمته، لكسب الحياة بوصفها فنا ً، وربح الفن بوصفه حياة مغايرة لتاريخ معقد من الأوهام، والأيديولوجيات، والقمع، والرداءة.
   فثمة فكاهة ساخرة، مرة، ولكنها تتمسك بشفرات مستترة، تجعل فرادة الحل منحازة للذات إزاء المجهول، أكثر بسالة في تحمل المرارات، وأكثر رغبة بإعلان التمرد، من ثم العصيان.
    هذا المزيج من التنوع، المغذى برغبة الحفر، غدا نادرا ً، بل استثنائيا ً، وسط فضاء مشغول بالفوضى، والمظاهر، والادعاءات. ولهذا بات عليه أن يذهب ابعد من البطولة، ومن امتطاء صهوة المجد، كي يحافظ على ذلك السومري، الذي ترك لنا مراثيه منقوشة على الألواح، ليس ضد التاريخ، بل ضد القدر، ويعيد له حضوره في عصر تحكمه الشركات، واشتغال تراكمات رأس المال، لدى النخب، المحركة للتحولات، والزاخرة بالتعسف، وصياغة الخرائط الجديدة...، ما سكا ً بلغز البذرة، إن لم تدفن، وتحصن، فلن تغادر البراعم ظلماتها، إلا إن الدفن، رمزيا ً، لا يعني سوى مواجهة التماثل ـ والخنوع، والقبول بهدنة زائفة. فالفن ـ مرة بعد أخرى ـ ومنذ ظهور الدمى الأولى ورسومات الكهوف وفخاريات عصور ما قبل الكتابة، يتشبث بعناد كي يقاوم تحول الضحايا إلى أسلاب، وخرق، ونفايات، ممسكا ً بشرعية تدحض الغش، والعنف، والخداع من ناحية، وتؤسس مصيرا ً لا تصنعه الفضلات، والعثرات، ولا تمجده الأصوات الواهية، من ناحية ثانية. فالفن يحفر في المحو، كي يقلب الوهن إلى عزيمة، والمخفيات إلى علامات تحضر، ومشروعا ً إنسانيا ً لا يناور، بل ينبني بالصدق، وما يسنده من الوفاء، كي تحافظ الحرية على دهشتها، واتساعها، ومقاومتها للترويض، أو الاستسلام لحياة باذخة، بدل التحديق في لغز القدر، وفي مشفراته المتجددة.

[1] الأشكال بلغزها
    لم يقع غالب المسعودي أسير الأطلال، ولا ظلماتها، ولكنه ـ في بحثه عن جماليات الحرف السومري ـ سمح للمخيال ألا ينفصل عن نشأته، ومكوناتها. فالطبيب ـ بمنهجه العلمي التجريبي ووفق تأملاته للتحولات والمتغيرات ـ انشغل ببناء أشكال مستمدة من الحفر في مخفيات ذاكرته: أبجدية علاماتها تحفز المخيال، ليس على الاسترجاع، بل على صياغة ذاكرة تكونها المشفرات الصوتية/ اللونية، مع عمل باقي الحواس. فهو لا (يعالج) نصوصه التشكيلية بعقار محدد، بل بالتخلي عنه لصالح الفن. فثمة فردوس كامن في الأشكال، إلا انه يحافظ على لغزه، وليس على حضوره حسب. فبعد ان كادت انساق (السلعة) ان تدمر (السلع) ـ أي تدمير بنية الإنسان لتحيله إلى مستهلك والى صانع نفايات ـ ثمة انشغال بمشروع مضاد لـ (السلعة ـ الاستهلاك)، وإعادتها إلى شرعية ما، غير ملتبسة، ولا قائمة على الأقنعة والتمويهات، تبدو انها لم تقوض حتى تحت ضربات حروب عابرة للمعاير، والقيم، بما صنعته من خراب واضطرابات عصية على الفهم. إن تجربة الطبيب الفنان، تتحدث عن عزاء للروح، داخل ما غدا جحيما ً يوميا ً، يقف على الطرف الآخر من الذاكرة، ومن المخيال. فهل يمكن تدمير الجمال...، إذا ً يمكن تحويل الأمل  إلى سلعة، والانعتاق إلى بضائع، والمُثل إلى مكاسب وثروات ...، آنذاك يكون عصر الفن ـ وعصر اللغة ـ ، شبيها ً بومضات ضوء مجرات يأتينا بعد زوالها قبل مليارات من السنين الضوئية...، لكن حتى هذا الزوال، لم يبح بسر نشأته، وديمومته، وقد مكث يفند عدمه، في هذا الحضور!
[2] لا مرئيات الأثر وديناميته




     ليست دراسته للطب، وتخصصه في طب الأسنان، قادت غالب المسعودي لسبر مخفيات حكماء سومر في صياغة ديالكتيك التاريخ المفتوح، فحسب،(1)، بل لرهافته ـ شاعرا ًورساما ً وباحثا ً ـ إزاء التنقيب عن الخامات التي لن تتعرض للتلف، أو للزوال. إنه انشغال فلسفي ـ شعري، قاده للعثور على الحلول ذاتها التي (أكتشفها ـ أستحدثها) أسلافه منذ فجر السلالات في سومر: الطين المجفف، والمحروق، وطبقات القصب، والقير في البناء، وصهر المعادن بحثا ً عن الخامة التي تحقق أهداف الفنان التعبيرية ـ الجمالية، وفي الوقت نفسه التي تمتلك ديمومة مجربة.
    هذا الانشغال الرمزي، والواقعي، قد يلخص علاقة الإنسان بممتلكاته، أشياءه، بصفتها الجسر بين الجهد، وعلاماته، إلى جانب هذا الذي يعبر، من زمن إلى زمن،لاستكمال كل ما لا يمكن البوح به، هو، العمل الفني، بدينامية الخامات وأشكالها.
    فليس لا وعيا ً عميقا ً، أو بدوافع نائية، وقد تكون لا شعورية، نفسيا ً، قد أختار الأبجدية السومرية، في نصوصه الفنية فحسب، بل اختيارا ً سمح له أن يبحث عن خامات هي من صنعه، بالدرجة الأولى.
وهنا يأتي اختيار الفنان لخاماته، ليس بسبب عدم توفرها، أو حتى إمكانية استيرادها، بل لتحقيق ذات الآليات التي جعلت الفنان الرافديني ينجزها قبل ستة آلاف سنة. فإذا كان الطين قد لخص مأوى وحي الآلهة، وهيئة الإنسان بعد أن وحدّ (ووازن) ما بين التاريخ المفتوح وبين رسالة الإنسان في الوجود، فإن خامة الطين، ستوّحد، وتدمج المرئيات بمحركاتها: عبر تنوع الأشكال، والمعالجات، والأبعاد الجمالية.
كما أن اختيار الفنان غالب المسعودي، وهو يستعير من السومريين دوافعه في التجربة الفنية، للمسمار، كعلامة، ليس محض محاكاة أو استعارة لم يجر عليها تحويرات فحسب، بل جعل المسمار علامة اكتسبت حداثتها بالتكوين، في ديناميته، وأبعاده التأملية. ففي نصوصه الفنية ـ المكملة للاتجاه الذي ظهر منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عند مديحة عمر، وفي الأربعينيات من القرن نفسه عند جميل حمودي، وفيما بعد اخذ بعدا ً نظريا ً في تجارب شاكر حسن على صعيد الفنان وهو يستلهم الحرف (البعد الواحد)، لا كسطح مفّرغ من الأبعاد، بل كبعد رمزي للذي شغل الحكيم السومري في الحفاظ على ديالكتيك المعنى بأبعاده البنائية ـ الجمالية.
     فإذا كان حكماء العراق القديم يأملون بديمومة معابدهم، (2) كجسر ما بين خلود الآلهة، وفناء الإنسان الساعي للعثور على مفاتيح يعالج فيها ظلمات عالم ما بعد الموت، فان حكماء ذلك الزمن، قاموا بتثبيت المعابد في الأرض عن طريق تماثيل (الأسس) التي تجمع في شكلها بين رمزية الآلهة، وبين هيئة الإنسان. ففي (المسمار/الشكل)  قوة سحرية، إضافة إلى عمله الوظيفي في التثبيت. وثمة اعتقاد أن دق المسمار في الجدار يقضي على الأرواح الشريرة، أو يقوم بتسميرها في مكانها حتى ان (الخنجر) مازال يستعمل لهذا الغرض في بعض الحضارات.
     والحكيم ـ هنا ـ ليس الملك/ المشّرع/ إلا كوديا المنشغل بتطبيقات الفلسفة البنائية ـ التكاملية، منذ ذلك العهد. والفنان د. غالب المسعودي، لم يغفل أن أحد أقدم ملوك العراق، في سومر، ما أن شيّد إمبراطوريته، حتى طلب من وريثه، الابن، استلام الحكم، فيما أمضى باقي حياته متأملا ً وحيدا ً في البرية،(3) وبهذا يكون قد حقق جوهر الفلسفة التي لن تبلغ ذروتها، كي تهرم، وتزول. (4) هذا اللغز، في خامات الفنان غالب المسعودي، تتوحد وتتداخل بالكتابة، حتى أن الشكل (الرمزي للحروف ـ كانسان وكتجريد ـ يعيد رمزية المسمار المستخدم في حضارة سومر كوحدة بين الآلهة (إشارة للمطلق أو اللا متناهي) ـ من الأعلى ـ والإنسان في الأرض.
   فهل كان لسنوات الحصار، بعد عام 1990 ـ إن كان قد فرض من الخارج أو داخليا ً ـ أثره في تحفيز الفنان في اختيار خامات متنوعة، محلية، ومعالجتها بالنار، والمواد الكيميائية المناسبة، أم أن ثمة لذّة (فلسفية/ خيميائية) سمحت له أن يتأمل في لغز إستحالة الطين ـ بعد مزجه بالدم ـ إلى إنسان، كما في الأسطورة البابلية، مثلما ظهر ذلك في الألوان المختارة في نصوصه، أم أن الفنان ترك للمتلقي إغفال هذا الإيحاء، والعودة إلى الأصل: بعيدا ً عن لغز مزج دم (تيامة) بالتراب، وجاء (الماء) ليمتزج  بالتراب في خلق الجسد/ الإنسان؟ أيا ًكان التأويل، فإن موضوعات الفنان لم تنتظر الشرح، ولم تتوخ الإيضاح، لأنها غير مؤسسة على التتابع، أو السرد القصصي، الحكائي، بل على ما لا يمكن تأويله إلا بالخامات وهي تؤسس أشكالها المستحدثة. فالفنان لم يجد مبررا ً لمحاكاة الأشكال القديمة ـ كما سيحصل ليس باستعارة خامات، ونقش أساليب، ومحاكاة أنظمة الفن الأوروبي الحديث فحسب، بل الانسياق آليا ً في التعبير عن فلسفات بلغت ذروتها، إنما مازال أفولها يستمد ديمومته من مجدها الاقتصادي، والتاريخي تماما ً ـ وإنما لأنها ليست غائبة عنه أصلا ً، فقد منحها ديناميتها بعد إجراء معالجات لها مهارات تحويرها، ومنحها خطابها غير المستعاد، أو المستنسخ، بل الممتد، في استكمال الدورة. فالأشكال، والألوان، ومعالجة أدق العناصر في ملمسها، ورمزيتها التعبيرية المختزلة المسامير، وحروف ترجعنا إلى أبجديات اللغات القديمة: حيث الأصوات تجد معادلها في الإيحاء، وفي الثيمات الجمالية.
وهنا لا يخفي الرسام أنه يحفر، ولا يضيف شيئا ً إلى السطح، بل يبني، بمواده المصّنعة، والمعالجة في مختبره الخاص، بالمنحى ذاته على صعيد اكتشاف حكماء وادي الرافدين في الرليف، المتداخلة بجذور اللغة العربية (الجزرية)، في الاربسك، الأمر الذي منح الفنان دافعا ً للقراءة المستحدثة لتاريخ الخطوط، بدءا ً بالمسمارية، واللغات البابلية، والآشورية، وانتهاء ًبفك أسرار أنظمة الخطوط العربية، بصفتها ليست وسيلة نفعية مباشرة ومحددة، وإنما بما تحققه من نظام مقابل لنظام: الدفن ـ البعث. فالتضاريس، والدوائر، والخطوط المتداخلة، لن تنفصل عن الطبقات غير المرئية: ظلمات العالم ما تحت الوعي ـ الموت الذي يؤدي دور الميلاد المؤجل/ المنتظر ـ كي يشتغل المعادل الموضوعي، داخليا ً، ومشفرا ً، بين العلامات ومخفياتها، لتحقيق الجسر بين الأزمنة، وبين الدلالات، وأخيرا ً، بعدم منح الفن صياغة الإعلان، أو نفعه المباشر، وإنما بما تعمل عليه الخامات، وقد وجدت بين أشكالها ومعانيها المستترة، بنائية غايتها ان تحافظ على ديناميتها، وامتدادها

[3] الختم: الحافة بين مجهولين




   إن تحول الجهد إلى عملة، والعملة، ذاتها، إلى سلعة، فإنها ستعيد للقوة سحرها الملغز: محو الرأفة لصالح ضرب من التجريد يصعب تحديد دوافعه النهائية. فالفنون ـ وليست البصرية منفصلة عنها ـ منذ كفت أن تؤدي دورها التضامني، والروحي بحسب (هيغل)، فإنها ستشترك في رسم مسار غدا فيه الفن شيئا ً بين أشياء، كي يتحول الخطاب، من جسر/ علاقة، مرسل ومستقبل، إلى أداة خالصة. فلم تعد آليات إنتاج الفنون تشترط إشباع غائيات نائية للفنان، وللمجتمع، وإنما لحصد المزيد من المنافع، على حساب التعبير ـ والصدق. والفنان غالب المسعودي، لم يهمل ان احد سمات الفن (الحديث) وصولا ً إلى (الحداثة) و (ما بعدها)، والدخول في مساحات جغرافية ـ سياسية خالية من الضوابط ، في نظام(العولمة) ان الفنان يعمل بأكبر قدر من الاستقلالية، بصفته هاو ٍ، أو محترف، وإنما لأنه يشتغل في أكثر البدائيات امتدادا ً، ودينامية. وهنا كان ارثه ـ والإرث البشري للحضارات كافة ـ علامة في الدورة، وليس علامة للتداول ـ الاستهلاك. فلم يجهد أصابعه ـ ولا وعيه بالدخول في سوق الفن، ومضارباته، مع حفنة من تجار صغار، ومزورين، ومروجي أقنعة، بل اعتكف، أسوة بأساتذة كبار، كرسول علوان، وصالح القره غولي، وعيدان الشيخلي، ود.نوري مصطفى بهجت، ود. سامي حقي، ومحمد على شاكر..الخ لينجز الرسالة ذاتها الكامنة في الختم ـ في الإرسال ـ وفي ديالكتيك ـ علاقة ـ اللامحدود بالأشكال. فعندما كان عمل (الختم)، شبيه بعمل تماثيل الأسس، كوحدة الأجزاء، والحفاظ على رمزية المطلق في الدال البشري، كاشتغال لا واع ٍ أو مجّفر، إلى جانب البعد التقني ـ الوظيفي، للفن، فإن الختم ـ والتمثال، وكل معالجة للسطوح، ستحافظ على هذا الترابط، في إطار يحقق الإشباع والتأمل.
إن الختم هنا ليس (التوقيع) أو: الهوية الخاصة، بل أبعد من ذلك. لأن الفنان سيدفع بالذات لاستقصاء دينامية (الطاقة) وقد تحولت إلى لغة لن تتوخى التداول من أجل الربح ـ الاستهلاك، بل للحفاظ على ذات المساحة التي ازدهرت فيها الفنون؛ من المعبد إلى البيت، ومن القصر إلى المدفن.
إن استعادة الفنان لحرية حواسه، ورهافتها، من عمل الأصابع، إلى الومضات البصرية، وانشغاله بمراقة أطياف المخفيات، الشبيهة بعادات أفراد أحرار بلغ العمل أقاصي نقائه، وتجرده من التبعية، لأجل مساراتها في التسامي، سيجعل من الفن غاية شبيهة بحضور الإنسان نفسه، لا من أجل أن يغدو شيئا ً، بل على العكس، في استعادته لهويته (من البعد الجمعي إلى الذات، ومن التاريخ إلى الفعل، ومن المطلق إلى المرئيات)، بصفتها علامة بين علامات، وليس (ماركة) للتضارب، أو غواية في سوق المنافسات، والاشتباك.
فلأسطورة هنا تتنزه، ببراءة (شبيه بمن تحرر تماما، باستثناء إستحالة تحرره من قيود حريته، أو براءته) تامة الشروط، ولن تتحول إلى أداة غايتها القطيعة مع: الأرض ـ الواقع ـ ومآزق الذات في مواجهة المحو ـ والاندماج.
والمسعودي ـ الذي طالما رأى انه آخر السومريين ـ لن يغرد منفردا ً خارج الاشتباك ـ التصادم، وخارج زمن الصدمات، والعشوائيات، الحاصلة في الوسط الثقافي والفني، أو على الصعيد الاجتماعي، بل يرى انه ينتمي إلى إرثه (النحتي) منذ عصر ظهور النقش في فخاريات الوركاء، إلى الأشكال الهندسية في جداريات بابل، مرورا ً بالعبقرية العربية الإسلامية التي حققت في الارباسك (4)، ذات الديالكتيك بين العلة التي لا علة لها، وبين تحولها إلى كيانات جمالية ـ ومعرفية ـ لا يمكن عزلها عن المعمار الاجتماعي، وصولا ً إلى التجريد، وهو يشتغل في حقل الاشتباكات التأملية، بعيدا ً عن تحوله إلى علامة في سوق، أو إلى كنز في متحف.
فالفنان ـ هنا ـ يحدّث (يجدد) في مسار تداخل التيارات والأساليب،إرثه، كالبنّاء السومري وهو يجدد معالم معابدها الروحية، وكالحكيم الذي يواصل عمله لا في تقصي تماثيل الأسس التي شيدها قبله حكماء الأزمنة السابقة فحسب(5)، بل في (تجديد/ تحديث) الفلسفة ذاتها، وهي تأبى أن تكون تاريخا ً بلغ خاتمته.
فالامتداد: امتداد استدراج الخامات المحلية، من الحجر إلى الطين، إلى اللدائن، والى الأخشاب والاصماغ ..الخ واستحالة تحول المتراكمات إلى أشياء ـ سلع ـ لأجل المضاربة، والتنافس، وامتدادا ً: للعناصر وقد عاصرت حضارة بلا جدران، أو قرى معزولة، وهي تنبني بما يجعل مسارات (الغاية) قائمة على دحض تحولها إلى (سلعة/ أشياء)، وإمدادا لهذه العوامل ـ من الخامة إلى الرؤية ـ ستجعل النص الفني يشتغل للحفاظ على أعقد إشكالية انبثقت مع ـ اللغة ـ ألا وهي المعادل بين كل ما لا يمكن تحديد جوهره، وبين التطبيقات التي ستشكل امتدادا ً له.(6) فالفنان د. غالب المسعودي، كي لا يستجدي (بسبب ان مهنة الفن قد أدركته، كما أدركت بعض زملائه من الأدباء وحولتهم إلى كتبة وليس إلى كتّاب، وليس إلى فقراء بل إلى شحاذين)، ستساعده مهنته كطبيب مميز، وجراح ممتاز، لأداء خدمات توفر له حماية كرامته الشخصية، فيما ستكون مهمات الفن، عنده، انشغالا ً بحماية ذات الرهافة التي صاغ خطابها فنان المغارات، وفنان المعابد في سومر، وحكماء الأزمنة السحيقة. لأن (الحكيم) هنا، ليس الملك أو العاهل، أو الخبير في شؤون الأقدار والمصائر، أو سلامة الجسد، أو المكلف ببناء مجتمع تتوفر فيه أسبقيات، وفي مقدمتها العدالة فحسب، بل الصانع، والصائغ لـ (سلع) مضادة لها، ليس في التكنيك بمعزل عن الغاية فحسب، بل في إستحالة تحولها إلى (وثن). فالحكيم إذا ً سيختار الدرب الذي لن يختتم بخاتمة، أو يكون وحده نهاية الطريق، وإنما ليشكل واحدا ً من مسارات أغناء الجسد ـ وحمايته ـ بالفكر والرؤية، والمرونة في تتبع المحركات النائية، إلى جانب كل ما يمكن ملامسته بالأنامل، ومشاهدتها بالبصر، وتذوقه برهافة المجسات التي لم تخمد فيها جذوة الومضات، وانشغالات المخيال/ الحلم/ والشعر.
[4] الجسد: من المشخص إلى الومضات
بحسب خبرة مؤرخي الفنون، فان المليون سنة التي صاغت علاماتها،(7) من الخرز إلى الأختام، ومن القلائد إلى زخارف جدران المدافن، ومن الأقراط إلى رسوما جدران المعابد ..الخ لم تكن منفصلة عن: محنة الجسد. فالجسد الذي غدا مأوى لمكونات العالم باتساعه، والطبيعة بمخاطرها، والمجموعات السكانية ذاتها في تجاورها، وفي تصادمها ..الخ هذا الجسد، المحمي بدفاعات ذاتية ومشفرات بالغة التعقيد ـ والدقة، هو ذاته الذي صاغ ما تضمنته المتاحف من كنوز، والمدن من ممتلكات، والعقول من معارف، والحضارة من حكمة، هو ذاته لخص ديالكتيك: الخطر ـ والديمومة. فالمقاومة ليست كلمة ملتبسة الدلالة، إنما تكاد، لواقعيتها، أن تمتلك أدق تعريف للذي: لا يعّرف: الميتافيزيقا. فالوجود نفسه غدا ـ بصفته لا معقولا ً، ولا يمتلك مفاتيحا ً لفك مغاليقه ـ معقولا ً كضربة نرد لا تحكمها خطة عشوائية. ود.غالب المسعودي، بنزعة شرقية غير مثقلة بالزوائد، يتوهج بما تمتلكه خاماته من لا مرئيات داخلة في تكوين ذرات عناصره الفنية، يعادل، ويوازن، بين جسد (دينامي/ متيقظ) وغير خامل، في استقصاء المسافات وقد كفت أن تكون لها حافات، وبين نصوص فنية عليها أن لا تفقد ذروتها.
إن الفنان غير معني بالجسد، إلا بصفته المأوى تارة، وبصفته قد أكتسب مهارات تؤدي إلى اكتناز مهارات نائية، وبصفته ممرا ً بين القاع والأعالي، ثالثة، ورمزا ًمبنيا ً بالمشفرات وعملها كي لا يرتد، وكي يحافظ على دينامية أنه ليس أبديا ً.
وإذا كان الفنان قد مارس ـ كما رسم شاكر حسن الجسد المجرد في خمسينيات القرن الماضي، ومن ثم تم التخلي عنه ـ معالجة الجسد بما يمتلك من مرونة، وتعقيدات، وملغزات، فانه ـ بدافع تقصيه للمحركات ـ سيدمجه بأشكال اختزلت حد القطيعة مع مصادرها، في رؤيته التجريدية، للنصوص، وقد دمج الرسم بالنحت، والطباعة بما تمثله من واجهات المباني، أو شواهد المدافن، والأثر بتحديثاته ..الخ كي تغدو النصوص، كالأختام، وتماثيل الأسس، والارابسك، دون إهمال ثراء التجريد التعبيري، والهندسي، ودوافعه: التطهرية/ السحرية/ الميتافيزيقية/ والرياضية ..الخ ذات مسار يكون الجسد عليه ـ في ذاته ـ ولكن ليس على حساب التجريب، والمرئيات، ورهافات التداول بين الذات وعالمها المحيطي. فالجسد سيتوارى، ليدفن، حتى يكاد الفنان أن يصنع لنا مواكبا ً احتفالية خالصة، والجسد يكف أن يكون إشكالية وجود، كي يستحيل إلى إشكالية تعبير، لا عن غيابه، بل عن امتداد حضوره هذا في الغياب. فثمة تزامن لوقائع تحدث داخل مكونات النص الفني، ولن يدعها تغادر، لكن الجسد يرفرف، كومضات ضوء في العتمة، وقدام ليل الإنسان، متمما ً لغز (الفن) في علاقته مع الصانع، وفي علاقته مع المتلقي. مما سيسمح للفنان أن يستعيد عمليات البناء ـ من الداخل ـ باستعارة الخامات القادرة على تحقيق مقاربة مع غياب الجسد ـ وحضوره. فنصوصه تفصح عن مشاهد أفقية، اختزلت المساحات، وأعادت توحيد منبهاتها، داخل السطح، بمتعرجاته، وملامسه المتباينة. فالتجريد الذي غدا كتابة، يحافظ على مشفرات (الحروف) ذات الأصل: الإلهي ـ البشري، معا ً. فهو لم يعلن عن انحياز لمنهج لا يمكن فصله عنه، بل سيستحدثه في نهاية المطاف، دامجا ً التصّورات، بمسار المشاهدات الواقعية، عبر المعادل ذاته الذي أنجزه رسام المغارات، أو صانع الأختام السومري. فالإنسان لم يصر شيئا ً منفصلا ً عن تعبيرية المعالجة ومغزاها، بل غاب فيها ـ كما ينزل الراحل إلى أعماق الأرض التي لن يعود منها ـ كي يؤدي طقسا ً بانتظار الانبثاق. إننا إزاء تأولات ربما لن توسع مهمات المتلقي كثيرا ً، لكنها لن تدعه يتمهل بلذائذ طالما انها قائمة على أن الفن: ليس تسلية، أو إمتاعا ً بمعزل عن مراراته الأبدية. ففي هذا المعادل قد لا يقول النص الفني إلا ما توارى فيه، كمقبرة سوتها الريح، وكالزمن آتى على ممالك، وإمبراطوريات، إنما ـ في الآن ـ هناك المراقب، المتلقي، بكامل وعيه، وحضوره، وبجسده حتى لو كان قد استحال إلى ظل، أو رمز، أو ومضة، فانه ليس إلا صانعا ً لوجود يجدد فيه، ذات الطاقة التي تمنحنا إياها الأجساد التي توارت، ليس في التراب، أو في باقي العناصر فحسب، لكن التي أصبحت تسكننا، وكأنها لن تعمل إلا على تحدي الغياب، وبالدرجة الأولى على مجد الثبات، أو المقاومة، كمعادل بين المحو، وانبثاق ومضات الوجود.

إحالات :

1 ـ يكتب فراس السواح، في حقل المعتقدات في تاريخ بلاد سومر: " تقدم لنا ديانة بلاد الرافدين النموذج الأمثل عن مفهوم التاريخ المفتوح،حيث نستطيع تمييز مراحل للتاريخ المقدس تكشف عنها الأسطورة. المرحلة الأولى هي السرمدية الساكنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها مكتفية بذاتها. المرحلة الثانية هي الزمن الكوزموغوني، أو زمن الخلق والتكوين، عندما خرجت الألوهة من كمونها فأطلقت الزمان ومدت المكان وحركت دارة الوجود. المرحلة الثالثة هي زمن الأصول والتنظيم، عندما عمد الآلهة إلى تنظيم شؤون العالم والمجتمع الإنساني، من خلال عدد من الفعاليات المبدعة التي نشطت عند جذور التاريخ الإنساني. المرحلة الرابعة هي زمن البر الفتوح على اللانهاية" أنظر: فراس السواح [الرحمن والشيطان ـ الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات الشرقية] دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة ـ دمشق/2000 ص23
[2]ـ كان من امنيات ملوك العراق القديم ان تبقى المعابد التي يشيدونها خالدة الى الأبد. لذلك قام الملوك بتثبيت المعابد في الارض عن طريق تماثيل الاسس التي تجمع في شكلها بين المسمار والاله أو الملك. أنظر: د. صبحي أنور رشيد [تماثيل الأسس السومرية] وزارة الثقافة والاعلام ـ الجمهورية العراقية 1980 ص6
[3] في تاريخ دولة لارسا تصادفنا ظاهرة نادرة الحدوث في التاريخ العراقي، ذلك أن أحد ملوك هذه الدولة والمدعو (كودورمبوك) الذي كان يقيم في منطقة تقع شرق بابل بعد استيلائه على السلطة في لارسا بتنصيب ابنه (وارادسين) حاكما ً على البلاد " وبقي هو في خيام قبيلته واكتفى بلقب شيخ أو أب لكنه احتفظ من بعيد بالقيادة في يده من خلال تحديد سياسة وارادسين" إذ ليس من المألوف في تاريخ العراق أن يزهد حاكم بالسلطة ويبتعد طواعية ولو على هذا اشكل. انظر: باقر ياسين [تاريخ العنف الدموي في العراق/ الوقاءع ـ الدوافع ـ الحلول] توزيع دار الكنوز الادبية. بيروت ـ لبنان. 1999 ص44
[4] الأرابسك: فنون زخرفية إبداعية تلقائية موحية، إنبثقت من حضارة الشرق القديمة، وتبلورت في الفنون الاسلامية، تناولت الحقائق والجوهر والروح بتعبير رمزي، فأحالت الشكل الخارجي والمظاهر العرضية الى رموز وأسرار، مضامينها صوفية تأملية، واشكالها تعتمد التوازن والتقابل والتناسب والتكرار، استعاضت عن التجسيم بالعمق الوجداني. انتقلت إلى الفنون الغربية المعاصرة كعنصر تزويقي، تستلهم الحروف أحيانا ً. وقد أطلق الجماليون عليها (الفزع من الفراغ). انظر: عباس الصراف [آفاق النقد التشكيلي] وزارة الثقافة والاعلام ـ بغداد ـ 1979ـ ص163
[5] كذلك استمر التقليد راسخا ً في العصر السومري الحديث بنوع يعرف بـ (الحيوان ـ المسمار) الذي استعمل في عصر فجر السلالات الثالث ولكن بكل ثور جالس فوق مسمار. كما واستمر استعمال النوع المعروف بـ (الانسان ـ المسمار) الذي ظهر لأول مرة في عصر فجر السلالات الثاني، حوالي 2600ق.م. أنظر: د. صبحي رشيد [تماثيل الأسس السومرية] مصدر ساب. ص14
[6] ـ بمعنى ان للبشر غاية لا تمحى بالفناء، كما يرد في احكام اقدار الالهة لهم، وإلا لماذا منحوا، في حدود مصائرهم، تعالميها، حتى لو كانت قد كتبت من قبل البشر أنفسهم. فالديالكتك ـ ضمن الزمن المفتوح ـ يسمح باستحالة محو المعنى، أو جعله عدما ً ممتداً.
[7] يذكر هنري هودجز: "هذا، وعلى الرغم من ظهور الإنسان الصانع للأداة قبل عدة ملايين من السنين، إلا أننا نستطيع أن نتتبع تاريخ صناعة الأدوات إلى مليوني سنة مضت" أنظر: هنري هودجز [التقنية في العالم القديم] ترجمة: رندة قاقيش. الدار العربية للتوزيع والنشر. عمان ـ الأردن. 1988، ص25
 وكتب الفنان د. غالب المسعودي، حول تجربته، الإشارة التالية:
      [ " أن يتحدث الفنان عن تجربته فيه شيء من الصعوبة لأن التجربة هي التي تتحدث عنه و ما من شك أن الفن من أولى الوسائل التي أفصح بها الإنسان عن نفسه ،و يأخذ العمل الفني من المبدع بعد أن يمتليء خياله و وجدانه و تفيض نفسه بمشاعر و أحاسيس لا يملك إلا أن يكشفها و يكون أسيرها و بهذا ينتزع من وجوده كنه ما يحس ، و منذ عصر الأسطورة ظل الفن يستلهم بيئته الموضوعية و المعرفية و تتحدث تجربتي عن استلهامي التراث الأسطوري لحضارة وادي الرافدين حيث أن الأسطورة تأريخ يصلح لكل زمان ومكان من حيث إنها عالمية الأبعاد محلية التكوين وكون الأسطورة شكل فهي قابلة لأن تكون شكلا آخر ،أنا أرحل مع السومريين في عمق التأريخ البعيد و لا أنسى إني في القرن الواحد و العشرين منحازا لهاجس الحاضر و المستقبل متنقلا من خلال الغوص في الذات راكبا صهوة الروح أمارس أحلامي و أوهامي على المساحة المتاحة لي _فضاء اللوحة _و يشكل التهميش الذي فرضته قوى الظلام عائقا أمام الإبداع العراقي ناسية أن العراقيين في كل تأريخهم هم كالنخيل شامخين في وجه البائسين لذا لجأت إلى استخدام خامات و ألوان أصنعها لنفسي معتمدا على ما متاح في السوق المحلية و ملبيا متطلبات الديمومة و المقاومة العالية للظروف المناخية و عوامل الزمن ،لم أستعمل الريشة في أعمالي كي أكون أكثر قربا في عملي ..وكي لا ننسى أن التسطيح وصل إلى كافة مرافق الحياة الثقافية حتى إلى ريشة الفنان ،و المطلع على تأريخ الحضارات الكبيرة يرى إنها استثمرت ما متاح في بيئتها لتصنع أسطورتها و ليس أدل من ذلك استخدام الطين لتدوين روائع الأعمال لحضارة وادي الرافدين و التي ظلت منارا ينير الدرب لحضارات العالم كافة و أننا وريثي هذه الحضارة الرائعة العريقة .. إذ أن الجمال يشرق في النفس كشعاع ضوء بين الآكام."]


* سيرة
عضو نقابة الفنانين
عضو جمعية التشكيليين العراقيين
عضو اتحاد أدباء وكتاب العراق
مشارك في جميع المعارض الوطنية منذ عام 1999
أقام ثلاثة معارض شخصية خلال الفترة المنصرمة
أصدر مجموعتين شعريتين
ترجمت مختارات من أعماله الشعرية إلى اللغة الانكليزية قام بترجمتها الشاعر حامد ألشمري
له كتابات تنظيرية في مجال الفن التشكيلي منشورة في الصحافة العراقية
معرض مشترك في قاعة أفـق - آبار 2003بغداد .
معرض مشترك في جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين - تموز2004سوريا.
معرض الحرية الأول نقابة الفنانين - بابل 2003
معرض في ذكرى شهداء الحركة الوطنية العراقية 2004- نقابة فناني بابل .
معرض الربيع الأول 2004 نقابة الفنانين - بابل .
معرض مهرجان متحف الشارقة الاول2005.
 الحوار المتمدن


ليست هناك تعليقات: