بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الاثنين، 28 سبتمبر 2015

في نصوص علي النجار التشكيلية مخفيات اللاوعي بين الاغتراب والمنفي-عادل كامل



 


في نصوص علي النجار التشكيلية
مخفيات اللاوعي  بين الاغتراب والمنفي

عادل كامل


[1] ملامح
    إذا افترضنا ان حياة الرسام تنقسم إلى قسمين، وأحيانا ً إلى مراحل، ففي الأولى يسهم الرسم بصناعة الرسام، وفي الثانية، يصنع الرسام الرسم. وقد توجد مراحل أخرى يهدم فيها الرسام الرسم، أو يهدم الرسم الرسام...، فان تجربة علي النجار، التي بدأت عند تخوم تجارب الرواد في التشكيل العراقي الحديث، في خمسينيات القرن الماضي، ثم اشتغلت بمعالجات تخلت عن (المراحل) كي تمارس عمليات البناء/ الهدم، والهدم/ البناء، انطلاقا ً من مشروع يقف على الضد من: البذخ، التمويه، القناع، المدح، توخيا ً للبقاء شديد الانحياز لتأملاته، وصدقها.


   ربما نقول: إن كبار الرسامين، أي المشتغلين بالرسم، عبروا من الواقع إلى الرسم، وفي الوقت نفسه، مهدوا لنا كيف نُستدرج للعبور من الرسم إلى الواقع، لكن الأخير سيضعنا إزاء تجربة تحولت إلى خبرة على صعيد الألوان، الفضاء، الرهافة، الرموز ...الخ، لأنها ذاتها هي التي ستتميز بعلاماتها، أو بما تتركه من اثر، وأصداء، إزاء المجهول. فالتاريخي يكمن عبر نسيج النص، اللوحة، كي يمارس النص الفني الإقامة في المسافة ذاتها التي شغلت كيان الفنان، لكن هذه الإقامة عندما تدمج المراحل، والعمر، بدءا ً بالطفولة، والعذابات اليومية، والسكن في المنافي، ومواجهة العلل، والتحولات، والمتغيرات، تعدو موقفا ً إزاء العالم، بعد ان يكون الفنان قد صهرها، شذبها، وأعاد صياغتها، عبر ذروة ستشكل مرحلة ممتدة  عبر هذه المفازات، كي تزداد صفاء ً طالما مكث الفن يدوّن  ما هو منوع، ومركب، وحدسي، ومتداخل، لصالح الصوت النائي الذي لم يقدر العالم بأسره على محوه، كي يعيد بناءه، كما تضمنت الآثار ذاتها التي صنعتها الأساطير، بتحولها من الواقعي المحسوس، واليومي، إلى الافتراضي، والمتخيل، كي لا يتقهقر هذا إلى الأصل، بل كي يصير أصلا ً آخر، ينبثق، مثلما يعيد كل موت لغز بذرته العنيدة، عبر مشفراتها، وآليات عملها، بموت غير محكوم إلا بالمعادلة ذاتها للظلام ـ وطاقته، وهو العدم وقد غدا ممتدا ً، إلى وجود مكّون بالوضوح الذي حفر في مستحيلاته.
      فما تلخصه تجربة أكثر من نصف قرن، عند علي النجار، من لوعة ومسرات، حساسية وصدمات، صخب وفراغات، قسوة وهشاشات، بوح وصمت..الخ، يمكن ان يقارن بإعادة قراءة جدار رسّم إنسان الكهوف فوقه كل هذا الذي يمتلك الأصل وضده، الوجود ومخفياته، آلامه ومباهجه، غموضه وما هو اشد غموضا ً، ما قبل العضوي وما بعد الزمن: هذا الانشغال بما حول المحو إلى ضوء، والغياب إلى حضور، وكأنه يؤدي ما كان يؤديه المرتل في صلاته عندما منحت الآلهة نفسا ً من أنفاسها، وأرسلته بإناء، وقد وضعته في قلب الإنسان. فالمندثر يتشبث كي لا يكون إعلانا ً، أو دعاية، أو علامة للعبور...، بل احتفاء ً ـ ربما ـ بما تداخلت فيه الأزمنة، وهي تحافظ على زمنها الفريد، النائي، الخاص، الذي عاشه الفنان، ودوّنه، مثل من لم يفقد الأمل، حتى لو كان افتراضيا ً، ووهما ً، أو طيفا ً من الأطياف، كي يكون الرسم إقامة لم تترك أثرها حسب، بل راحت تدعونا للاحتفاء بإسرارها وبأسرار الرسم،، بملغزاتها وبما كتمه الرسم وما أعلن عنه: انه الرسم الرسام، معا ً، وهما المسافة الفاصلة بين المسافات، لكنها أبدا ً لم تعمل إلا بحضورها، في كلية الغياب.
[2] أزمنة







     لم يتم دحض احتمال أن الفن ظاهرة غرائبية، حد المرض، أو الجنون، كما فعل الرسام الهولندي (روبنس)، بالرغم من أنه سيصبح قديسا ً للرومانسيين، وللمدرسة الرومانتيكية، بعد قرن، فقد استعاد فكرة: ان العقل السليم في الجسم السليم.  لأنه سيرسم موضوعاته وكأنها في احتفال، إنما ليس كما فعل الرسام (بوش)قبل قرنين، عندما عرى مآسي محاكم التفتيش، وصور الإنسان في القاع. لكن روبنس، كما سيصّور الفنان الحديث، احتمى بالجسد، وجعل منه علامة بالغة الترف، والنشوة، والكمال. فروبنس لم ْ يأت بسلطة جديدة للفن، بعد أن ثبت عصر النهضة: مكانة الجسد، استنادا ً إلى موروثهم الإغريقي. ففي عصر روبنس، كانت سلسلة من الخرافات قد استبعدت، فلم تعد الأرض مركزا ً للكون، على سبيل المثال، كما كان التشريح، في الطب، قد أسهم بنبذ الشعوذة، وطرد الساحرات، بسيادة تطبيقات العلم الحديث، وتدشينات العقلانية الحديثة.  ولم يكن لدي روبنس إلا أن يصّور الحياة   الجديدة، منذ القرن 17، بعد الازدهار التجاري ـ وبدء الثورة الصناعية في أوروبا، إلا أن يتبنى موضوعات المسرة، حد البذخ،، ومتع الحياة، بعيدا ً عن رؤية المشهد بكليته، وفي جدله. فلم يكن الجسد مأوى للشيطان، أو وصمة عار، أو علامة تدني. لقد أعاد له، كما فعل الإغريق، كماله، وتناسقه. فنصوصه النشوانة لم تعد تنظر إلى العالم الآخر، النقيض، المختلف، الذي رآه (رامبراندت)، ولا (دورر) قبل ذلك، بل راح يصور سعادته ـ كسفير لهولندا في لندن حتى في فترات الأزمات ـ عبر البذخ النادر للحواس، وجماليات النشوة، ورهافتها، مع تجاهل محرمات الجسد، وحشمته القديمة.  ولم يكن نموذجه لجسد المرأة، إلا ليمثل الوضع قبل الطرد، ممتلئا ً بالحياة قبل أن يصدعها الآخر، ولا المرض، ولا الشيخوخة، ولا الزمن نفسه. كانت لوحاته تمجد ازدهار (السلطة) وخطابها، وليس العكس. ليمثل فنه ريادة منحت الجسد حقوقه، خاصة، أنه لم يترك تفصيلا ً إلا وبلغه؛ لتبدو واقعيته من صنع المخيال، ولا علاقة لها بالمشهد في كليته. فالمقدس العنيد، منذ الآن، لن يحجب ولن يستر خلف أقنعة، أو قشور. لأن (الحقيقة) عارية، وهي حقيقة ما قبل تدخل الزمن/ والشيطان/ في واقعة ارتكاب (الإثم)، أو تذوق ما كان يجب أن يبقى نائيا ً، ومحرما ً. روبنس، بآليات لاوعيه، سمح للحياة أن تمتد خارج التابوات، فصورها كمعطى خارج الدحض، والاستلاب. فالهدف ـ هنا ـ ليس سقوط الجسد، والعقل السليم، بل كمالهما.


 


[2] الزوال بوصفه ديمومة!
     بيد أن تاريخ الفن، منذ انشغلت الأصابع برهافتها، قبل مليون سنة في الأقل، لم تهمل كون الجسد أول تدشين لغاية ستّولد وسائلها، حقبة بعد أخرى، ألا وهي أن هذا الجسد، ليس رمزا ً فحسب، بل معطى للوجود بمخفياته، الأمر الذي جعل المشفرات تبقى تحافظ على آلياتها النائية، وسيكون من الصعب فك عملها بأدوات ـ هي في الأصل ـ خاضعة لمجموعة شائكة من المخفيات. كما ستشكل حماية الجسد ـ من الألم والوهن والموت ـ محركا ً للتطبيقات العملية لديمومته. مما سيولد لغة رمزية ـ من السيف إلى الوردة ـ على نحو يغدو فيه الفن أكثر التصاقا ً بالجسد ذاته. بوصفه المستلم والباث في ذات الوقت. فالميت سيترك جسده رهينة، كي تعود إليه روحه (نفسه)، الأمر الذي جعله يسن نظام حمايته من التلف. فما معنى حياة تتعطل فيها الأعضاء؟  وما معنى لوجود الفن ـ من مثلث الرمح وخرز القلائد وزخارف الأساور إلى حزام العفة...؟ ومن الأواني إلى ماموثات المغارات وغزلانها وصولا ً إلى حداثتنا ـ لو لم يكن وجوده مقيدا ً بأنظمته نفسها: البيئية/ الاجتماعية/ والنفسية..؟
     علي النجار، منذ نصف قرن، ـ وبصفته وريث حضارة عراقية منحت الجسد موقعه في الخطاب الحضاري/ الفني، سبقت الرومان، وعصر النهضة، والحداثة الأوربية، بألفي سنة ـ سيجد في الجسد إشكالية فلسفية لا يمكن فصلها عن الفن ـ ولا عن رؤيته الوجودية. فالجسد استحال كيانا ً معرضا ً للأذى، بعد أن أستمد وجوده بوجود عناصر أرضية (الطين/ والدم/ مع هبة منحتها الآلهة إليه وهي (النفس): وربما هي الروح أو ما يميز هذا الكائن عن أقرانه، من النبات والحيوان. إنه وحده، النموذج المركب من معادلة ثلثيها من الأرض ـ وهي المحكومة بالفناء ـ وبثلث من السماء، يصعب تحديد ماهيته، أو دوره. فأقدم نص عراقي (جلجامش) سيعالج إشكالية انهيار الجسد (موت أنكيدو)،  ومنح (العمل) أقدم مفهوم مجتمعي كي ينتج فيه الإنسان مصيره، هو بمثابة تفكيك للغز الجسد، وإشكاليا ته. وعلي النجار لم يجعل الجسد نموذجا ً لخطاب الاحتفاء بالحياة، ومجدها، بل ملاذا ً، وحماية من: الآخر/ ومن الزمن. فالبعد الفلسفي ـ السيكولوجي، الرمزي، سيسمحان لعلي النجار التوغل في الأقاصي: الاحتماء بما هو قيد الزوال، والتجول في مساحات المتاهة: اللاوعي، لتصبح الأرض مض ممر نحو اللاحافات، حيث المحنة ليست تاريخية أو من صنع المتضادات البشرية فحسب، بل كامنة في اللغز: هل الآلهة ـ بما تمتلكه من لا متناهيات ـ بانتظار وجود كائنات زائلة تؤدي لها ولاء السيادة ـ والامتنان؟  إنه ليس منهجا ً في الشك الفلسفي، بل في الإنسان ذاته فهو ليس مثالا ً ـ لا أشور ً يقود، ولا رومانيا ً إلى التكامل، كما لا ينتمي إلى مسرات (روبنس) ومنهجه المقترن بالمجد الأرضي وعالمه الباذخ بالشهواتـ والنعم، وإنما إشكالا ً لن يمتد إلا بتكرار الامتداد، لحظة أثر لحظة، بزواله. حتى  أن النص الفني، في هذا السياق، لا يهمل رمزية التشبث بالخالد، والأبدي، كقناع لحتمية الاندثار. علي النجار، لا يزخرف محنته، ويزوقها، ولا يتوارى فيها، بل سيدّون (يرسم ويحفر) تاريخ عراك لهزيمة لا يغدو فيها النصر إلا أثرا ً ، ملاذا ً تذهب إليه الأصابع علها تجد لومضات القلب سكننا ً، حتى لو كانت المسافة برمتها، ليست إلا الزوال ذاته.




[3] الأثر: تدوّين المخفيات
    لم يكرس علي النجار فنه، للاحتفال، كما ستتعمق النزعة الباذخة في الرسم العراقي، بالحياة، في الوقت الذي كان من الصعب تلمس مظاهر واقعية للعصر الحديث. كانت تجربته تضعنا في مجال آخر: ليس الارتداد أو النكوص، بل قراءته للحاضر بعد إزالة قشوره. فالأقنعة ـ إذا لم يكن الخطاب الفني برمته بعيدا ً عن البرمجيات البكر ـ ليست إلا ـ كاللغة ـ لا تذهب أبعد من أنظمتها النائية، إلا بالترميز والتشفير الذي يعمل بديالكتيك المحركات ـ الأشكال. إن علي النجار، منذ البدء، لم يحتفل بالطبيعة، ولا بالجسد، ولا بما هو مغاير للوجود بصفته إشكالية. وكمقارنة للمعنى ـ هنا ـ فلإشكالية لن تنغلق عند مسار أخير، إنما تحافظ على صلاتها بما ينبثق عبر العصور، الأمر الذي منحه، في تجاربه الأولى، منهجا ً في الحفر: لا فوق الجدران القديمة، أو في مخفياتها فحسب، بل في الجسد الذي سيحافظ على موقعه بين العناصر ـ والتصورات. فالفنان لا يتكلم، لأن الرسم  ليس وسيلة أو أية في ذاته، بل ـ هو ـ محاولة لتحقيق الوجود ذاته وهو غير قابل للتحقيق. فالجمال لن يصبح عاما ً، كقوانين راسخة، بل جزءا ً من موقف ـ وعصر، مع انشغال بمحنة وجوده، ومحنة تدمير هذا الوجود. فالفنان لم يعلن منهجه إن كان واقعيا ً أو مثاليا ً، بل عمل وكأنه أمسك بالجدل كي لا يتحول (الموضوع) إلى: أشياء، وإنما ليحافظ على ديناميته، بما فيها من بدائيات غائصة، ومحكمة، ومعاصرة. لقد قلت (كأنه) بدل منحه اليقين، لأن رهافة الفنان لم تعمل كعمل الواعظ، أو لتجعل من الحكمة منهجا ً لها، بل على العكس:  يعمل الفنان بحرية حتفه: تلك المواجهة مع عالم وجد نفسه فيه، مراقبا ً لمعادلات لن تترك لهذه الحرية إلا أن تأخذ موقعها من الإشكالية: وجود لا يجد حمايته إلا في سلاسل دفاعات جميعها لن تترك إلا أثرا ً لهذه المواجهة. فالفنان يترك حواسه جميعا ً ـ أصابعه وجسده وبصره ـ وخاماته، تدوّن عمق المأزق: استبصار ما يحدثه البصر من تعرية للسطوح، والأبعاد، في تصوير علامات النص، وعملية نسجه. الأمر الذي جعله لا يشبه إلا نفسه، بعد أن أختزل تاريخ الرسم التعبيري/ والمشفر، وما لا ينتسب إلى مدرسة محددة. فهو يتتبع خطاه في تلمس مساحة المنفى، إن كان في الجسد، أو في الأرض التي ولد فيها، أو في مدن الحداثات وما بعدها. إنه لم يبد إعجابا ً بالطبيعة، أو بكائناتها، ومنها الإنسان، إلا وقد تحولت إلى وجود لازمة (مأزق)، مع وجوده، في نصوص لن تصبح (علامات) إلا بصفتها تحافظ على مشفراتها، بدل التباهي بالعثور على خلاص. إنها تناور مضمونها بأشكال تخص عمل الزمن نفسه، مثلما إنها تحمل علامات شاهدها ـ شاخصها أيضا ً. فالرسام لن يكف عن تتبع اللامرئيات كي تأخذ موقعها في النص: المخفيات وقد كفت أن تحتفل بمجدها!

 


[4] ممرات الفن: المرئيات ليست خاتمة
     لم يبن (سيزان) نصه بحياد، كي يفصل المحركات (المكونة من أشياء) عنها. أي ما يهدف إليه التكوين. فثمة تمهيدات لا تحصى نبه إليها حكماء الأزمنة السحيقة، والفلاسفة، والمشتغلين بـ (الكلمات). فالأشياء بصفتها خالية من الحياة، كأشياء صماء، استبعدت عن ضرورات تدخلها في التأويل. فالفن للفن ليس نزعة باذخة للفن، أو دعوة نخبوية إلا بحدود إعادة معالجة الأسس التي ستبنى عليها الأشياء: الكلمات في الشعر/ الألوان في الرسم/ والخامات المختلفة في النحت مثلا ً. لكن عدم فهم الوجه المخفي لهذا السياق، هو ـ وحده ـ سيمنح النص (والشكلانية برمتها في هذا الاهتمام) بريقا ًكأنه وحده الدال على معدنه النادر. ذلك لأن رسام المغارات، لو استبعدنا أسباب التعبير وأعدنا قراءة النص من الزاوية ذاتها، فانه، هو الآخر، سيكون بناء ً. وبمعنى آخر: كان عمله بمثابة تفكيك/ وهدم، للأشياء إعادة وضعها في موقعها من نصه.
     علي النجار، قبل أن يستند إلى حفريات اللاوعي ـ واللاشعور، لم ينشغل بالزخرفة، والتنميق، والتكوين لصالح جماليات الفن (الباذخ) بعيدا ً عن موقعه في الخطاب الكلي، وليس كأثر في التقسيمات الاجتماعية للعمل. بل انشغل بالنص بصفته شديد الصلة بما يحدث بعيدا ً عن المراقبة ـ والملاحظة. فالأشياء، في نهاية المطاف، لا تبلغ ذروتها في الرأسمالية فحسب، بل في جذورها،  وهي لا تقوي إلا على أن تؤدي دورها في العملية البنائية ـ وفي هدمها. وعلي النجار، بصفته من أندر الرسامين العراقيين، والأقل إثارة للضجات، انشغل بالثقافة ـ أي بالإنسان من منظور ثقافته ووعيه للعالم ـ وليس باشياءه، فهو لم يموه بعزل المحركات عن مخفياتها. فلم يستخدم السطوح بعزل عن تلك العوامل التي لا تتم البرهنة عليها إلا علاماتها. فهو: يركب/ يدمج/ يصنف..الخ مفرداته البصرية كي لا يفصل (النص) عن موضوعه المنتقى. إن عدم اهتمامه بالفصل، لم يجعله (شكلانيا ً) وأحاديا ً في عملية البناء الفني. فالجمال ـ والحقل الجمالي ـ حتى وإن كان المثاليون قد منحوها شيئا ً من المقدس، والمتعالي، لن تسامى بعيدا ً عن الدافع النقدي ـ المختلف والمعارض ـ في إعادة بناء ما يتطلب أن تتمثل فيه عناصر التوازن ـ والجلال ـ والومضات الإبداعية التي هي عملية سابقة على تقسيم العمل ـ ولاحقة عليه أيضا ً. فالرسام لا يرسم لفئة محددة، كالنخب الأكثر ثراء ً، أو للسوق، كما لا يرسم للعدم: إنه يرسم ذاكرة كل كائن لن يكرر ـ حرفيات برمجته إلا بتعديلات ستظهر في مهارات الأداء، وتقدمه أيضا ً. فإذا كان النبات يمتلك ذاكرة ـ نواة دماغ ـ في مكان ما من الجذر، فان امتياز البشر، والفصائل المماثلة، غادر عالم الأرض، ومكث في الرأس. فثمة أفق يمتد، من الحواس إلى لا حافات الكون، ستسمح للفنان ـ وقد راح يكون عالمه بالإشارات والرموز والمشفرات ـ كي لا يبني نصا ً أحاديا ً، لا باذخا ً ـ كنصوص روبنس ـ ولا نصا ً للاستهلاك، بل متوازنا ً بين خصوصية الفن، والمتلقي؛ نصا ً ليس بصفته (سلعة) محض، بل بما يمتلكه من أبعاد تجعل الوعي فيها، فاتحة لتدشينات تجعل (الأشياء) جزءا ً من العملية الإبداعية،وليس نهاية لها.




[5] المندثر ـ ممتدا ً
     قبل أن يمسك رواد السوريالية بما لفت نظر (فرويد) إليه، حول العالم الغاطس، المسمى باللاشعور؛ المخزون والمكبوت والمجمد في الوعي (الدماغ)، كان اللاشعور لا يعمل بمعزل عن اللاوعي منذ حصل ان دشنت الحواس عملها في العلامات الشبيه بالفن. فما هو (تحت) في الذات، بحسب التجربة، وبما في اللاوعي، بحسب آليات عمله الكلي، كانت النصوص الاستثنائية تحقق تقدما ً في عمليات البناء. فالحقائق وحدها ـ كي تكتسب هذا المجد ـ تمتلك قفاها، ونفيها، وكل ما هو متوار ٍ بعيدا ً عن السطح. علي النجار، لم يرث من أسلافه، منذ فنون سومر وحكمتها، وحضارات الشرق، التصدع البشري وحده، بل، أكثر من ذلك، إشكاليات الإقامة في الوجود ذاته. فالحريات محض علامات خارجية للغاطس بما دعاه (عمانوئيل كانت) بـ: الشيء في ذاته. لقد وجد الفنان نفسه إزاء عالم يعمل على دمجه، وترقيمه، أي ـ في نهاية المطاف ـ على محوه، وعزله عن (كيانه الذاتي) وخصائص تفرده، وما يمتلكه من أبعاد جمالية، وإنسانية، غير زائفة، الأمر الذي جعله أكثر عنادا ً في الاشتغال من (الواقعي) إلى: محركات هذا الواقعي ـ الراسخ، ألا وهو اللاوعي الذي تكون عبر أزمنة طويلة للغاية، داخل خلايا تمتلك آلياتها في العمل. لكن علي النجار، على خلاف من سمح للأشياء ذاتها ان تستنطق ذاتها، مكث بصريا ً، وديالكتيكيا ً، في إعادة قراءتها.  ثمة، هنا، أزمنة قد دفنت عميقا ً في أكثر المناطق سرية، في اللاوعي ـ وليس في اللاشعور وحده ـ راح يحفر فيها، كي يستخرج ـ منها ومن ذاته ـ: كائنات وكيانات وعلامات لا وجود لها في الحاضر، إلا كمخفيات. حيوانات ليست أسطورية، بل سابقة عليها، ونباتات، هي الأخرى، بدت شبيه بالبشر، وأجواء لونية لا تحدث إلا عبر من أمسك بملغزات آليات الأحلام العميقة. فعلي النجار لا يني يزيح حجب تلك الأحلام، حد الكوابيس، ويتركها مرئية: إنها كيانات لم يحولها إلى أشياء ـ وهو الفارق بينه وبين من دفع بالفن إلى جمالياته الباذخة/ الأحادية/ النخبوية في الأخير ـ بل منحها لغزها وهي تثب من ظلماتها إلى ظلمات مضاءة بالوعي: العالم القائم على نظامه السائد: الاشتباك. حيث الأخير يعمل على خلخلة الحواس، والوظائف، لرسم المشهد بعيدا ً عن جاذبيته، ومحسناته. فالفنان لم يعمل عمل المزخرف، لأجل التزويق، بل لأجل الصدمة. فالعالم الغاطس يفتقد إلى الشفافية، لكن الفن، سيجعل من الأخيرة، تعمل كالمعادل الموضوعي الذي تحدث عنه (اليوت)   بين الحدود، في معالجة الصدمات. فالفنان يصّور عالم: الغابات/ البراري/ والبحار وقد تداخلت فيها كائناتها النباتية والحيوانية تداخلا ً جعله يستبعد الأشكال الهندسية ـ التي سيرجع إليها بعد أربعين سنة وهو يتفحص الجسد، ويتأمله ـ  جسده ـ في المنفى ـ ليتمسك بعملية رصد ما ستؤول إليه تعقيدات تكوّن النصوص، وأشكالها. فالعشوائية ذات النظام السحيق، التي اعتنى بمعالجتها في نصوصه الفنية، سمحت له برؤية عالم يقع تحت ـ في الخفاء ـ داخل وعيه المستحدث. ثمة زواحف، وثدييات لاحقة على النبات، وقد سبقتها مشاهد البراكين، والطوفانات، لمشهد لن يحدث إلا في المختبرات الكبرى، وقد رصدها بعد أن وجد حاضره لم يبتعد ـ إلا بأنظمة التزوير/ الأقنعة ـ عن تلك العصور التي صاغتها قوانينها، وأنظمتها. فالزمن ـ هنا ـ تكومت فيه المسافات كي تبلغ درجة الكثافة القصوى: الصفر. والأخير، ليس بالتأويل، بل بالمشاهدة، كالعدم. ذلك لأن الرسام لن يتباهى بكائناته، بل يصّورها كأجزاء كوّنت لا وعيه ـ وهو لا وعينا السحيق ـ لا في ماض ٍ فان ٍ، بل في امتداده، وقد غدا بلا مقدمات، لكنه كون حاضره الذي أعاد بناءه الفنان، كنصوص كوّنت المشهد، ولم تغادره.




[6] المفنى ـ ومشفرات المنفي
     (1) نادرة هي النصوص التي تدوم طويلا ً، إن لم كن تكاملت فيها علل وجودها، ومقاومتها لعوامل اندثارها. والنجار، الذي ظهر في خاتمة عهد الريادة الفنية، وذروتها، في خمسينيات القرن الماضي، لم يجد ميلا ،ً أو رغبة، أو وعيا ً كي يحول فنه إلى علامات للاحتفاء، أو الاحتفال، بل ترك (هويته) تؤكد أن المحو غدا ظاهرة تتطلب المعالجة. فكانت رهافته الفنية قد سمحت له أن يستعيد (حريته) في قراءة الحاضر. وإذا كان الرسم الواقعي ـ كالرواية ـ سيجد دحضا ً أو سلسلة من التحويرات، فقد وجد الفنان، أنه أكثر علاقة مع ذاته، في تحديد منهجه في الرسم. كانت ستينيات القرن الماضي ـ عالميا ً ومحليا ً ـ مدوّية. فهي لم تخبأ ما ستؤول إليه انفجاراتها البركانية، من الصين إلى فرنسا، ومن أمريكا اللاتينية إلى الوطن العربي. فالحرب الباردة ستخلي نهايتها لمناف ٍ وحريات تتصارعان بأشد المناورات عملا ً بالمشفرات. وإذا استبعدنا شرط أن يكون الفنان مدركا ً لموقعه، وموقفه منها، فان رهافته، بالضرورة، لن تغر له إن أختار دربا ً للاختباء. علي النجار، بحساسيته وفطرته وعفويته ـ كالتي كانت لدي أستاذه فائق حسن وأثرها في ريادته ـ ترك نصوصه تجاور، وتحاور، وتعالج مفهوم: المنفى ـ والمنفي. والشاعر المعري لم يترك برهة للاستراحة ـ برؤيته الكلية، وفي مقدمتها: ان الإنسان سيناور بالتصّورات، ويجعلها، في الغالب، مغايرة لها. كان إحساس على النجار بالمنفي، داخل (المنفى) منحه قدرة رؤية المتناقضات/ والتصدعات الحاصلة أمامه. فليس ثمة إلا أن تجرفه عاصفتها، أو يقاومها باختيارات مستحيلة. فألف عام من ديمومة الاحتضار، واستبعاد تمهيدات عملية لصياغة المصير، لا علما ً ولا معرفيا ً، جعلت مساحة المنفى، عند المنفي، لا تقبل المناورة. والسؤال: أكانت تجاربه الفنية محض مرآة، للواقع الذي يغلي، ويتعرض إلى التفكيك، أم كانت  بمثابة مناورة للدفاع، بحسب آليات عمل الموجود في الوجود؟ كان الجسد  لا يمتلك إجابات، ولا الحواس، ولا الوعي إلا في حدود عدم الاندماج. فكان فنه، قبل أن يبحث عن ملاذ آمن له في العالم، لغة لا تنتمي إلى الكلام، بل ولا إلى الصمت، إنها ـ شبيه برسومات المغارات والدمى والأختام وتماثيل عصر الآلهة الأم ـ تحكي ما لا يحكى من إعلان يصعب إخفاءه: الاستنجاد بغائب يعيد للأرض سكينتها، والإنسان سلامه. كان هذا الإحساس بالمنفى، في نصوصه، يأخذ الطريق الذي لم يزّور فيه الفنان، عمق الاشتباك. وبعيدا  عن محن اليسار أو اليمين، المبرمجة أو التي  لم تجد شكلا ً آخر لعملها، فان خسائر الجميع، لن تتوازن مع من سيربح قليلا ً من الزهو أو شارات التفوق. نصوص علي النجار الفنية، منذ غدا الجسد جرحا ً في الاستبصار: ليس غاية وليس وسيلة، بل استحالة. فالمنفى في: المجتمع/ العائلة/ النفس..الخ، لن يدع انتظار الفجر إلا تمويها ً لفجر سيولد داخل حدود البنيات نفسها. فعناصر النص الحديث (وهي ذاتها شبيه برسومات ما قبل التاريخ/ الفطريين/ المهووسين جنسيا ً/ وما قبل الكتابيين/ وبأكثر الراديكاليين الأوربيين تضادا ً مع أنظمة الرأسمال/ المخصيين/ واللامنتميين..الخ) تحدق في عالم لن تدع فيه للعثور على نهايات لها مقدمات مغايرة  لها لم يحصل فيها (الصياد) القديم/ أو المعاصر، إلا على ما سينزله من محو بخصمه وإيذاء يبلغ  حد الجور، والمرض، كي تتجسد في رسومات (علامات) تكونها مشفراتها، ومن الصعب تفكيكها إلا بالأسلوب الذي يعيد للرماد مكوناته قبل الحرق.


 


(2)
     علي النجار، مع تجارب متفرقة لزملاء له، جرفهم (وربما سحرهم/ جذبهم) هذا الانحياز إلى حداثة لا تتوخى التلاعب بالفن، في الأقل أن لا يعلن عن موته، أو أن لا يغدو قناعا ً، أو أن يتحول إلى (سلعة) في سياق: الإنتاج ـ الاستهلاك، وليس التأمل أو الحكة. فنصوصه الفنية، بما فيها من أشكال مستدرجة من الأزمنة السحيقة، تعاصر حداثات الحاضر، لكن ليس لدحض (المحنة) أو مقاومتها، أو تمجيدها، بل لتحديد الاحتيار، بين اختيارات أخرى مهمتها كانت اقل تكلفة، بما تؤديه للمجتمع الناشئ، وهو مازال مهوسا ً بـ: رب الجميع ضد الجميع. هذا الاختيار المبني على بناءات غاطسة في اللاوعي ـ وفي اللاشعور ـ تظهر مدى عمق لمفارقات التي لم تتعرض للنقد/ التفكيك/ الدحض، إلا كتمهيد لحقبة لا يصبح فيها الاشتباك أساس الإقامة.  إنه تأويل ينحاز لمنهجية التحليل السيكولوجي، لكنه، لن يجعل من الرسم الحديث، علامة مرض)، كما لفن النظر (خروشوف) ـ أمين سر الحزب الشيوعي السوفيتي ـ وهو يتأمل لوحة لبيكاسو، إنا لأن الغاطس في لوحة بيكاسو ـ في هذا الاتجاه ـ تظهر ما تم دفنه خلف الخطاب المعاصر نفسه. فالمرض (الخاص بالجسد) ليس هو المرض في (الفن)،  إلا إذا كانت التعبيرية قد كفت ان تكون فنا ً. لكن المرض (فيهما) ليس علامة امتنان أو ثناء. انه عواء شبيه بما دفن تحت قاع البحر، وليس هو الذي يتناثر مع الأشلاء، أو يظهر عند رمال السواحل. نصوص النجار، سمحت لآليات اللاوعي ان تمنحه مراقبة: ذاته/ مجتمعه/ وكائناته، كي تمهد لقراءة تبقى تستدرج قراءها لقراءة عالم يكونه المنفى ـ وهيدغر لم يغب عنه هذا التصور في رؤية الإنسان الحديث مقذوفا ً/ مرميا ً ـ  لا يمتلك المنفي فيه قدرة تلمس الدرب الذي لا وجود له لنجاته، إلا وقد غطاه رماد الاشتباك، وغباره، وإشعاعاته القاتلة بصمت. لكن هذا لن يدحض أن (الأمل) ـ في التشبث بالحياة ـ غواية شبيه بـ (الهمسات) التي برمجت حكاية الطرد ـ والعصيان، وإنما مناورة قائمة في جعل ما سيزول، نابضا ً بمبررات وجوده.  ومنهج علي النجار، وهو يصّور منفاه، لا يناور جماليا ً، ولكنه سيتمسك بـ (هويته/ بصماته/ شخصيته؛ أي أن يكون: هو، وليس آخر تم استحداثه بحسب ضرورات العصر) التي ـ شغلت كل من رأى لا حافات المنفى ـ لن تعزل  عن: طيوره/ أشجاره/ نساءه/ حيواناته/ أطفاله، صخوره/ أجنته..الخ وقد استحالت إلى كائنات حشرت في سفينة ما قبل (الطوفان ـ المعاصر) لعالمنا   الحديث ـ المحكوم  بملغزات العولمة ومشفراتها ـ  كي تدل أن الوعي بالفن ـ وأيا ً كانت طرائقه ومعالجاته واستثناءاته ـ لا يمكن عزله عن حساسية الفنان، والتي ستشكل احد مكونات هويته في مواجهة: المحو.


 

(3)
     فالهوية ليست تركيبا ً مضادا ًللاضطراب الحاصل في: الذات، أو في المجتمع، ولا رصدا ً لعشوائية منتظمة تعمل وكأنها مدوّنة مسبقا ً فحسب، بل لأن الهوية لدي الفنان، لن تغادر وعيه بتحديد ماهية الاشتباك، والتباساته.  فقد كان علي النجار يستطيع قراءة لوحات (روبنس) أو بعض لوحات فائق حسن، أو ألدروبي، لو كان قد استبدل رهافته، بدرب آخر، يجعل من الفن قناعا ً للتداول ـ وللأمل معا ً. لكن هذا كله لم يجعل من نصوصه شفافية عمياء! أو مبصرة،  بل لذّة بالغة المرارة للانتماء إلى المنفى الذي مكث غريبا ً فيه، وعاملا ً محركا ً للمتلقي في إعادة قراءة الوقائع، وتشخيصها، كي لا يتحول الفن (هذا) إلى نخبة لا تعرف أن (الجماهير) مازالت تصفق للصياد. فهل يتوغل الفنان في منهجه هذا بالبحث عن (كمين) أو رؤية نصوصه كعلامات مراقبة، لم ينتجها، إلا المنفي داخل منفاه؟ أيا ً كانت الإجابة فان الفنان علي النجار، لم يتخل عن رؤية الأزمنة في زمن متجاور: إن المنفي سيصّور رفيف روح عملت جدران المنفى، ومن حافظ على ديمومته، على محوها. إنما نوصه الشبيه بهذا الرفيف، لا تتوخى صناعة آمال لن يخسر فيها المنفي حياته، إنما لن يكون لنصر الآخر، إلا مسافة الزوال، وقد بلغت خاتمتها. إنها الحشرجات، الاستغاثات، التي دفنها منعم فرات في مجسماته، تجد ممراتها، في نصوص علي النجار، وهي تجعل اللون ـ كما هو لغز امتزاج الدم بالتراب لصناعة إنسان وادي الرافدين ـ عنصرا ًديناميا ً لن ينفصل عن هويته، أو عن رؤيته الفنية.




[7] اللون ـ لا حافات المجهول    
     لم يدوّن رسام المغارات، وهو يلون رسوماته الشبيه بالفن، دلالة استخدامه لها، وإن بدت للخبراء (والعلماء) أنها ذات صلة بالخامات المتوفرة (الفحم/ المواد العضوية/ الرماد/ الصخور الملونة/ المعادن) دون إهمال رؤية الأشياء بألوان مختلفة، وليس بلون واحد، لا يذهب ابعد من ثلاثين ألف سنة. ولأن علي النجار سمح لبصره ان لا يتقيد بالوعي، فان لاوعيه سيعيد لنا مفهوم الخطاب المشفر للألوان، وليس للمعاني التي نفذت سحريا ً، أو التي استدمت السحر فيها. فالفنان لن يستخدم ترف الألوان، أو غزارتها، ولا بهجتها، إلا في حدود مشفراتها بما تريد الذهاب به ابعد منها. هذه المقارنة ستبقى تعمل في حدود التأويل، فالرهافة بذاتها تقانة مستحدثة، مع (الأصابع/ البصر/ وبدء نشوء الدماغ) في إقامة  ممرات (جسور) بين الرائي ومرئيا ته. وهي جسور (ممرات) بالغة التداخل والتعقيد، لأنها ليست ممرا ً أحاديا ً، إنما ستعمل عمل الدماغ في أداء ما يمتلكه من استجابات واختيارات. هنا لا  يرسم الفنان علي النجار ببصره، أو بقلبه، بل يرسم بكيانه. فهو ـ عمليا ً ـ لا يرسم، بل يؤسس حورا ً ترك فيه المجهول يتدخل بألوانه ـ وأشكاله ـ المنتقاة. فالقصد لن يتوقف عند الدلالة المحددة، بل يتخطاها كي تحكي نصوصه استحالة أن تجد طريقا ً آخر، كالكلام، أو الاشتباك. ثمة أداة تنتمي إلى التهذيب ـ مع ان فرويد أغلق هذا الاحتمال وذكر ان الإنسان ـ في الأصل ـ لم يخلق كي يكون مهذبا ً / أو متحضرا ً؛ كي يصنع حضارة جديرة بمعناها ـ إلا ما هو شبيه بالتهذيب سيسلكه إنسان المغارات، وهو ما سيسلك علي النجار، في عالم أشد تعقيدا ً في لامبالاته تجاه مصائر البشر. ألا يحق لقراءة المتلقي ان تتخلى عن برمجتها في الثابت، كي تفكك دلالات الألوان، وباقي عناصر الفنان النائية، للمعنى  الكامن في ماهية الإنسان ذاته؟  فالرسم ليس إشباعا ً، مع انه ـ منذ وجد ـ  لم يفارق مجساته الدفاعية ـ الخاصة بديمومة ما هو عليه ـ بمعنى ان الإشباع ممتدا ً ـ ومتجددا ً ـ إزاء موضوعات تبدو حلولها ممكنة، لكنها عمليا ً، لن تجد غاية لها إلا في طرق لن تبلغ خاتمتها أبدا ً. فعلي النجار يلوّن، بما هو مضاف للبرمجة ذاتها التي لوّنت الأشجار والغيوم والطيور ..الخ بما و خاص بأشعة الشمس، في مجموعتنا، ومجرتنا، إضافة إلى المكونات الأخرى، مع حاسة البصر، كي يضعنا في اختياراته الفنية: ألوان تتطلب ان تجد من هو خبير بفك مشفراتها، مادامت قد اقترنت بموضوعات: محو الذات ـ وجعل الموجودات أكثر إدراكا ً باستحالة مغادرة منفاها. فالألوان لا تناور، ولا تعمل بالرموز المتعارف عليها، بل بالبحث عن ملاذ حول (الاشتباك) إلى حلم، والمنفى إلى فردوس غير قابل للدحض! هذه المهمة لم يعمل عليها (روبنس) إلا في حدود الآني، والذاتي، عبر نشوء واقعية أحادية استغلت الجانب الآخر من الواقعية، فيما عمل علي النجار، بذاتية لم تهمل جماليات الفن، حتى بقلب الواقعية إلى قاعها. فالألوان ليست وحشية، وليست مشغولة بمهارات رسام يتوخى الاستمتاع ـ والإمتاع ـ كما في أساليب مغايرة شاعت في الرسم العراقي ومنحته انحيازا ً لأحادية  استخدام اللون ـ بل كي يحفر خلف المشهد المصاغ بالأقنعة، والعادات الاحتفالية للألوان، وبهرجتها، المقترنة بعادات راسخة في تذوق الألوان، والانحياز إلى لذائذها، وما تبعثه من بهجة، ومسرات، فيما يختار علي النجار، قفا المشهد: ما الذي يحدث للرائي ـ المنفي ـ في منفاه؟  لأن (لغة)الألوان مازالت مشفرة وتتطلب معرفة متخصصة في اكتشاف نظامها، وعمله. فهي تتكلم ـ ترسل/ تبث/ تنبه ..الخ ـ على اننا لن نجد إلا استجابات لا واعية لندائها النائي: ليس للمنفى حدود بعد أن وجد المنفي، كلما اتسعت رؤيته، إلا أن يتشبث باستحالة الكف عن العمل بالمستحيلات، ومنها التدوين بمشفرات ليست خاصة بالمنفى، أو بالمنفي، وإنما بالمعنى ذاته الذي كلما بدا قيد الاستبصار، والمشاهدة، ازداد اقترانا ً بالمستحيلات، والمجهول.


[8] المنفى ـ حدود المخيال والرسم
     لم يغادر علي النجار جسده، مع إن ما لا يحصى من الخلايا تندثر، وأخرى تولد، وهو يغادر البلاد التي ضاقت عليه على الرغم من تفردها بالثروات الطبيعية، وبالكنوز الحضارية. لم يغادر جسده الذي سيحمله معه وهو يتعقب الإشكال ذاته القائم بين الذات ـ والموجودات/ وبين الذات ـ والوجود. ولا أعتقد انه كان يبحث، وهو يوشك أن يخسر حياته بخسارة جسده ـ حيث المنفى الداخلي تضافرت عليه ما لا يحصى من العوامل كي تجعله خارج مسؤوليات الحكومات والمؤسسات الإنسانية ـ عن فردوس خاص به، ليتناول فيه لذائذ اللحوم، وليحصل على تعويضات خسرها في حياته الأرضية، أو كي ينجو بجسده وهو يرى كيف يتم (تدمير/ وتعقيم) الأرض ـ الرحم وكل ما هو خاص بالانتماء إليها وبهويتها ـ لجعل المستقبل بدرجة الصفر.  لقد غادر علي النجار منفاه، بهدوء، بحثا ً عن بلاد لا يجد فيها من يحد من حرية خياله في الأقل، كي تتوازن لديه متطلبات الكائن البشري، في أبسط شروطها: حرية الحلم.   على أن المنفى لن يخلع من ذاكرته، بمحض العثور على بلد لا تجري فيه محاكمات من غير أدلة، ولا توجد فيه اغتيالات بالجملة. فالمنفى سيتحول إلى مكان (وربما إلى لا مكان يتناسب والتحولات السياسية ـ الجغرافية، في زمن ما بعد ـ ما بعد ـ الحداثات ـ  والدخول في حقبة مغايرة لسنوات الحرب الباردة، كي يبذر فيه أكثر البذور قدرة على الإنبات: إنها بذور ستتركه  يغوص في أسئلة الإنسان الأولى ـ والتي مازالت تتمتع بامتدادها ـ : الأسئلة التي لن تجد خاتمة لها ما دامت دورة الحياة ذاتها لم تبلغ ذروتها. إن علي النجار الذي جعل الفن اختيارا ً لحياته، لم يجعله ملاذا ً إلا لأنه يتضمن ذات الغايات الأبعد من وسائلها. وفي مقدمتها انه تتبع نسغ المخفي في فنون الإنسان ـ وآثاره التي لا تحصى ـ وصولا ً إلى عصر انتهاك الجسد (الجمعي)، بمنطق مضاد  لأية شرعية قائمة على التوازن: أو ما يسمى بـ (العدالة). فلم يحول فنه إلى (سلعة) ـ أو يرسم بمنطق موت الفن ـ كي يدخل لعبة قائمة على النظام ذاته الذي يتحكم بوجود المنافي، إن كانت على صعيد الأقاليم، أو على صعيد مراكزه الكبرى، أو في حدود الجسد، ومتطلباته الأساسية، بل جعله يستعيد مقاومته لموته ـ وموت الفن ـ كي تبقى الحياة تومض بلغز وجودها.  فنصوصه تحكي هذا الذي برمج كدفاع يدحض فلسفات عالمنا القائمة على (المصادرة/ الاستيلاء) و (الاجتثاث) و (العنف) و (الصدمات المروعة)، عبر نصوص فنية غير مصممة ان  تغدو واجهات لمؤسسات تعمل على (ترقيم) الكائن البشري، كنمل، أو حشرات، أو قطيع من الأنعام، والتحكم بأحلامهم، بعد التحكم بمصائرهم. ذلك لأن وعي الفنان الشعري، الجدلي، لم ينحز إلى مؤسسة المنفى، لا في وطنه، ولا في أي بلد أقل مراقبة للمخلوعين الوافدين وللمهجرين والمهاجرين والتائهين الذين وجودا (أجسادهم) تتكيف ـ وليس تندمج ـ فيه. ولأن الشعر مازال يحمل مفهوم يدحض الاحتفال بالموت، فان قضية علي النجار، لن تحافظ على علامتها المحلية إلا وهي تعيد للفن لا حدوده. إعادة قراءة المسافة بين المنفي ـ ومنفاه: بين الجسد والآخرين، وبين الذات ولا حافات الأسئلة المعمرة، أو التي ليست بلا معنى، أو فائضة. فالفنان لن يرسم من أجل الرسم، كما أنه عندما غادر وطنه لم يفعل ذلك طوعا ً، إنما سيجعل من نصوصه الفنية ومضات يدوّن فيها حكايات يصعب سرد مخفياتها إلا بالرسم.
[9] لغز الرسم وأطيافه
     فهل سيجد سببا ً للفن، مستحدثا ً، إلا وقد تتبع ما توارى في ظاهرة الفن، سببا لرؤية أن ومضات (الوعي) ستدله على لا اللا متناهيات ـ خارجه ـ فحسب، بل في مناطقه النائية، داخل جسده، وقد غدا وعيه مفتاحا ً يدور في أي مكان عدا ثقب القفل ـ كي لا تبدو المنافي منعزلة بعضها عن البعض الآخر، ولا عن وعينا فيها، إنما سيتمسك علي النجار بالرسم (كتمسك الأم بوليدها)، كمناورة بين ذاته والحياة، وليس بين ذاته والمجهول. فالميتافيزيقا  ستغدو تصّورا ً لا يمكن عزلها عن اكتشاف الملاذات المستحيلة.  ونصوصه لعام (2010) لا تكمل الدورة التي بدأها قبل نصف قرن، بل تعيد قراءتها لرؤية عالم خال ٍ من المنافي، ومن المنفيين: من وجود حتم ان يكون (الصياد) فيه مركزاً، والضحايا خارج الحياة، والتاريخ.  إنه المحفز نفسه مكث يعمل في مخيال الفنان بصناعة ممرات ـ جسور ـ لكائنات عليها ان ترى ما يحدث في الخلف: خلف الأسواق/ والمرايا/ وما تبثه شاشات التلفاز، والمواقع، وما لا يعد من وسائل إبقاء السستم (النظام) مثلما هو عليه، يزحف نحو خاتمته. إنها رسالة تذكرنا بنصوص سومرية، وبابلية لدي حكماء تلك الأزمنة السحيقة، بإعادة تفكيك سلطة (المركز) ـ المراقب ـ إزاء الآخر،  المنتمي إلى الطبيعة/ والطفولة/ وحقوق المرأة/ والنبات/ والحيوان/ وباقي عناصر الحياة ..الخ فثمة ـ إلى جانب الرسم ـ الوعي بمسارات الوعي وتوجهاته، جعلت النجار يمارس الكتابة، بما تتضمنه من انشغالات فلسفية، وجمالية، واجتماعية، مهمتها لن تنفصل عن هاجسه كفنان، وشاعر، أينما ذهب، وحل، فانه لم يتخل عن التفكير بعالم لا يتأسس على (الإيذاء) حد المحو، على صعيد الكائنات، أو ممتلكاته، مما سيجعل فنه  ليس معاصرا ، من أجل المعاصرة، بل قائما ً على سؤال: لماذا الإيذاء حد المحو، وبدرجات باذخة التنفيذ، والاحتفال، بالآخر، أيا ً كان، وفي أي زمن، مادام ثمة استحالة  لم تجعل من الحياة فائضة؟  إن فن علي النجار، صنع منه طيفا ً، إنما سيسكن هذا الطيف أكثر القلوب براءة، مثلما إن علي النجار، جعل من فنه علامات لـ  (منفى) تمتد عتباته إلى بذور الخلق الأولى، ولن تنتهي عند جدران منافينا المعاصرة، المستحدثة، بلوعة تخلو من الإجابات، بل تزخر بالأسئلة التي لعلها لن تتوارى، أو تغيب، مهما كان غبار، أو رماد الاغتراب خاليا ً من الألوان؟

ليست هناك تعليقات: