بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 15 أغسطس 2015

في التشكيل العراقي- غالب المسعودي التجربة الفنية وجمالياتها- عادل كامل











 في التشكيل العراقي

غالب المسعودي
  التجربة الفنية وجمالياتها
 

عادل كامل



إشارة:



     بين انشغالات الفنان (الرسام) بصياغة علامات شخصية، غير منفصلة عن ايكولوجيتها، ولا عن تاريخها، وبين الكتابة النقدية، والسردية (القصصية) بتصديها لعصر تتداعى فيه المعايير التي لم تكن، في الأصل، أكثر من هياكل افتراضية، صنمية، ووهمية، يشق الطبيب دربه بنفسه من غير عون أو طلب مساندة. انه أشبه بمن ترك للمصادفات أن تنتظم داخل مسارات حتمية، أو لا متوقعة، كي يخبر نفسه، في الأقل، انه لم يستسغ أن يكون ضحية لهما، ولا للثوابت الوهمية، مهما بدت محصنة. فالطبيب الكاتب، الفنان، تخلى عن الانحياز المسبق، كي يتقدم محملا ً بروح المغامرة، وليس بالأقنعة، بالتصادم وليس بالمصالحة، بالعراك وليس بالتسوية...، فثمة وحدة راح يشذبها من التمويهات، سمحت لذاته أن تتشكل، في كل تجربة، بما تتضمنه من تقدم في اتجاه المجهول. انه لم يخطط لكسب النهايات، ولكنه حسب حساب كل خطوة، وموقعها في الدرب، فالرسم المعني بالسطوح، وملامسها، بالرموز ومشفراتها، تحفر في طبقات الدماغ العميقة، المتعددة، إلى جانب ترك الأصوات تؤدي دور تحولها إلى إشارات، وكتابة، في الرصد، وفي المواجهة. فتجربته القصصية تأتي مغايرة لنزعته بالتطهر ـ والعرفان ـ لتمنح أدوات البحث قوة تذهب ابعد من الكلمة. فالغاية لا تصبح وسيلة، ولا الوسيلة تبرر غايتها، إنما تتضافر وسائل الروح (الخاسرة) كي تدحض الخسران برمته، لكسب الحياة بوصفها فنا ً، وربح الفن بوصفه حياة مغايرة لتاريخ معقد من الأوهام، والأيديولوجيات، والقمع، والرداءة.
   فثمة فكاهة ساخرة، مرة، ولكنها تتمسك بشفرات مستترة، تجعل فرادة الحل منحازة للذات إزاء المجهول، أكثر بسالة في تحمل المرارات، وأكثر رغبة بإعلان التمرد، من ثم العصيان.
    هذا المزيج من التنوع، المغذى برغبة الحفر، غدا نادرا ً، بل استثنائيا ً، وسط فضاء مشغول بالفوضى، والمظاهر، والادعاءات. ولهذا بات عليه أن يذهب ابعد من البطولة، ومن امتطاء صهوة المجد، كي يحافظ على ذلك السومري، الذي ترك لنا مراثيه منقوشة على الألواح، ليس ضد التاريخ، بل ضد القدر، ويعيد له حضوره في عصر تحكمه الشركات، واشتغال تراكمات رأس المال، لدى النخب، المحركة للتحولات، والزاخرة بالتعسف، وصياغة الخرائط الجديدة...، ما سكا ً بلغز البذرة، إن لم تدفن، وتحصن، فلن تغادر البراعم ظلماتها، إلا إن الدفن، رمزيا ً، لا يعني سوى مواجهة التماثل ـ والخنوع، والقبول بهدنة زائفة. فالفن ـ مرة بعد أخرى ـ ومنذ ظهور الدمى الأولى ورسومات الكهوف وفخاريات عصور ما قبل الكتابة، يتشبث بعناد كي يقاوم تحول الضحايا إلى أسلاب، وخرق، ونفايات، ممسكا ً بشرعية تدحض الغش، والعنف، والخداع من ناحية، وتؤسس مصيرا ً لا تصنعه الفضلات، والعثرات، ولا تمجده الأصوات الواهية، من ناحية ثانية. فالفن يحفر في المحو، كي يقلب الوهن إلى عزيمة، والمخفيات إلى علامات تحضر، ومشروعا ً إنسانيا ً لا يناور، بل ينبني بالصدق، وما يسنده من الوفاء، كي تحافظ الحرية على دهشتها، واتساعها، ومقاومتها للترويض، أو الاستسلام لحياة باذخة، بدل التحديق في لغز القدر، وفي مشفراته المتجددة.

[1] الأشكال بلغزها
    لم يقع غالب المسعودي أسير الأطلال، ولا ظلماتها، ولكنه ـ في بحثه عن جماليات الحرف السومري ـ سمح للمخيال ألا ينفصل عن نشأته، ومكوناتها. فالطبيب ـ بمنهجه العلمي التجريبي ووفق تأملاته للتحولات والمتغيرات ـ انشغل ببناء أشكال مستمدة من الحفر في مخفيات ذاكرته: أبجدية علاماتها تحفز المخيال، ليس على الاسترجاع، بل على صياغة ذاكرة تكونها المشفرات الصوتية/ اللونية، مع عمل باقي الحواس. فهو لا (يعالج) نصوصه التشكيلية بعقار محدد، بل بالتخلي عنه لصالح الفن. فثمة فردوس كامن في الأشكال، إلا انه يحافظ على لغزه، وليس على حضوره حسب. فبعد ان كادت انساق (السلعة) ان تدمر (السلع) ـ أي تدمير بنية الإنسان لتحيله إلى مستهلك والى صانع نفايات ـ ثمة انشغال بمشروع مضاد لـ (السلعة ـ الاستهلاك)، وإعادتها إلى شرعية ما، غير ملتبسة، ولا قائمة على الأقنعة والتمويهات، تبدو انها لم تقوض حتى تحت ضربات حروب عابرة للمعاير، والقيم، بما صنعته من خراب واضطرابات عصية على الفهم. إن تجربة الطبيب الفنان، تتحدث عن عزاء للروح، داخل ما غدا جحيما ً يوميا ً، يقف على الطرف الآخر من الذاكرة، ومن المخيال. فهل يمكن تدمير الجمال...، إذا ً يمكن تحويل الأمل  إلى سلعة، والانعتاق إلى بضائع، والمُثل إلى مكاسب وثروات ...، آنذاك يكون عصر الفن ـ وعصر اللغة ـ ، شبيها ً بومضات ضوء مجرات يأتينا بعد زوالها قبل مليارات من السنين الضوئية...، لكن حتى هذا الزوال، لم يبح بسر نشأته، وديمومته، وقد مكث يفند عدمه، في هذا الحضور!
[2] لا مرئيات الأثر وديناميته




     ليست دراسته للطب، وتخصصه في طب الأسنان، قادت غالب المسعودي لسبر مخفيات حكماء سومر في صياغة ديالكتيك التاريخ المفتوح، فحسب،(1)، بل لرهافته ـ شاعرا ًورساما ً وباحثا ً ـ إزاء التنقيب عن الخامات التي لن تتعرض للتلف، أو للزوال. إنه انشغال فلسفي ـ شعري، قاده للعثور على الحلول ذاتها التي (أكتشفها ـ أستحدثها) أسلافه منذ فجر السلالات في سومر: الطين المجفف، والمحروق، وطبقات القصب، والقير في البناء، وصهر المعادن بحثا ً عن الخامة التي تحقق أهداف الفنان التعبيرية ـ الجمالية، وفي الوقت نفسه التي تمتلك ديمومة مجربة.
    هذا الانشغال الرمزي، والواقعي، قد يلخص علاقة الإنسان بممتلكاته، أشياءه، بصفتها الجسر بين الجهد، وعلاماته، إلى جانب هذا الذي يعبر، من زمن إلى زمن،لاستكمال كل ما لا يمكن البوح به، هو، العمل الفني، بدينامية الخامات وأشكالها.
    فليس لا وعيا ً عميقا ً، أو بدوافع نائية، وقد تكون لا شعورية، نفسيا ً، قد أختار الأبجدية السومرية، في نصوصه الفنية فحسب، بل اختيارا ً سمح له أن يبحث عن خامات هي من صنعه، بالدرجة الأولى.
وهنا يأتي اختيار الفنان لخاماته، ليس بسبب عدم توفرها، أو حتى إمكانية استيرادها، بل لتحقيق ذات الآليات التي جعلت الفنان الرافديني ينجزها قبل ستة آلاف سنة. فإذا كان الطين قد لخص مأوى وحي الآلهة، وهيئة الإنسان بعد أن وحدّ (ووازن) ما بين التاريخ المفتوح وبين رسالة الإنسان في الوجود، فإن خامة الطين، ستوّحد، وتدمج المرئيات بمحركاتها: عبر تنوع الأشكال، والمعالجات، والأبعاد الجمالية.
كما أن اختيار الفنان غالب المسعودي، وهو يستعير من السومريين دوافعه في التجربة الفنية، للمسمار، كعلامة، ليس محض محاكاة أو استعارة لم يجر عليها تحويرات فحسب، بل جعل المسمار علامة اكتسبت حداثتها بالتكوين، في ديناميته، وأبعاده التأملية. ففي نصوصه الفنية ـ المكملة للاتجاه الذي ظهر منذ ثلاثينيات القرن الماضي، عند مديحة عمر، وفي الأربعينيات من القرن نفسه عند جميل حمودي، وفيما بعد اخذ بعدا ً نظريا ً في تجارب شاكر حسن على صعيد الفنان وهو يستلهم الحرف (البعد الواحد)، لا كسطح مفّرغ من الأبعاد، بل كبعد رمزي للذي شغل الحكيم السومري في الحفاظ على ديالكتيك المعنى بأبعاده البنائية ـ الجمالية.
     فإذا كان حكماء العراق القديم يأملون بديمومة معابدهم، (2) كجسر ما بين خلود الآلهة، وفناء الإنسان الساعي للعثور على مفاتيح يعالج فيها ظلمات عالم ما بعد الموت، فان حكماء ذلك الزمن، قاموا بتثبيت المعابد في الأرض عن طريق تماثيل (الأسس) التي تجمع في شكلها بين رمزية الآلهة، وبين هيئة الإنسان. ففي (المسمار/الشكل)  قوة سحرية، إضافة إلى عمله الوظيفي في التثبيت. وثمة اعتقاد أن دق المسمار في الجدار يقضي على الأرواح الشريرة، أو يقوم بتسميرها في مكانها حتى ان (الخنجر) مازال يستعمل لهذا الغرض في بعض الحضارات.
     والحكيم ـ هنا ـ ليس الملك/ المشّرع/ إلا كوديا المنشغل بتطبيقات الفلسفة البنائية ـ التكاملية، منذ ذلك العهد. والفنان د. غالب المسعودي، لم يغفل أن أحد أقدم ملوك العراق، في سومر، ما أن شيّد إمبراطوريته، حتى طلب من وريثه، الابن، استلام الحكم، فيما أمضى باقي حياته متأملا ً وحيدا ً في البرية،(3) وبهذا يكون قد حقق جوهر الفلسفة التي لن تبلغ ذروتها، كي تهرم، وتزول. (4) هذا اللغز، في خامات الفنان غالب المسعودي، تتوحد وتتداخل بالكتابة، حتى أن الشكل (الرمزي للحروف ـ كانسان وكتجريد ـ يعيد رمزية المسمار المستخدم في حضارة سومر كوحدة بين الآلهة (إشارة للمطلق أو اللا متناهي) ـ من الأعلى ـ والإنسان في الأرض.
   فهل كان لسنوات الحصار، بعد عام 1990 ـ إن كان قد فرض من الخارج أو داخليا ً ـ أثره في تحفيز الفنان في اختيار خامات متنوعة، محلية، ومعالجتها بالنار، والمواد الكيميائية المناسبة، أم أن ثمة لذّة (فلسفية/ خيميائية) سمحت له أن يتأمل في لغز إستحالة الطين ـ بعد مزجه بالدم ـ إلى إنسان، كما في الأسطورة البابلية، مثلما ظهر ذلك في الألوان المختارة في نصوصه، أم أن الفنان ترك للمتلقي إغفال هذا الإيحاء، والعودة إلى الأصل: بعيدا ً عن لغز مزج دم (تيامة) بالتراب، وجاء (الماء) ليمتزج  بالتراب في خلق الجسد/ الإنسان؟ أيا ًكان التأويل، فإن موضوعات الفنان لم تنتظر الشرح، ولم تتوخ الإيضاح، لأنها غير مؤسسة على التتابع، أو السرد القصصي، الحكائي، بل على ما لا يمكن تأويله إلا بالخامات وهي تؤسس أشكالها المستحدثة. فالفنان لم يجد مبررا ً لمحاكاة الأشكال القديمة ـ كما سيحصل ليس باستعارة خامات، ونقش أساليب، ومحاكاة أنظمة الفن الأوروبي الحديث فحسب، بل الانسياق آليا ً في التعبير عن فلسفات بلغت ذروتها، إنما مازال أفولها يستمد ديمومته من مجدها الاقتصادي، والتاريخي تماما ً ـ وإنما لأنها ليست غائبة عنه أصلا ً، فقد منحها ديناميتها بعد إجراء معالجات لها مهارات تحويرها، ومنحها خطابها غير المستعاد، أو المستنسخ، بل الممتد، في استكمال الدورة. فالأشكال، والألوان، ومعالجة أدق العناصر في ملمسها، ورمزيتها التعبيرية المختزلة المسامير، وحروف ترجعنا إلى أبجديات اللغات القديمة: حيث الأصوات تجد معادلها في الإيحاء، وفي الثيمات الجمالية.
وهنا لا يخفي الرسام أنه يحفر، ولا يضيف شيئا ً إلى السطح، بل يبني، بمواده المصّنعة، والمعالجة في مختبره الخاص، بالمنحى ذاته على صعيد اكتشاف حكماء وادي الرافدين في الرليف، المتداخلة بجذور اللغة العربية (الجزرية)، في الاربسك، الأمر الذي منح الفنان دافعا ً للقراءة المستحدثة لتاريخ الخطوط، بدءا ً بالمسمارية، واللغات البابلية، والآشورية، وانتهاء ًبفك أسرار أنظمة الخطوط العربية، بصفتها ليست وسيلة نفعية مباشرة ومحددة، وإنما بما تحققه من نظام مقابل لنظام: الدفن ـ البعث. فالتضاريس، والدوائر، والخطوط المتداخلة، لن تنفصل عن الطبقات غير المرئية: ظلمات العالم ما تحت الوعي ـ الموت الذي يؤدي دور الميلاد المؤجل/ المنتظر ـ كي يشتغل المعادل الموضوعي، داخليا ً، ومشفرا ً، بين العلامات ومخفياتها، لتحقيق الجسر بين الأزمنة، وبين الدلالات، وأخيرا ً، بعدم منح الفن صياغة الإعلان، أو نفعه المباشر، وإنما بما تعمل عليه الخامات، وقد وجدت بين أشكالها ومعانيها المستترة، بنائية غايتها ان تحافظ على ديناميتها، وامتدادها

[3] الختم: الحافة بين مجهولين




   إن تحول الجهد إلى عملة، والعملة، ذاتها، إلى سلعة، فإنها ستعيد للقوة سحرها الملغز: محو الرأفة لصالح ضرب من التجريد يصعب تحديد دوافعه النهائية. فالفنون ـ وليست البصرية منفصلة عنها ـ منذ كفت أن تؤدي دورها التضامني، والروحي بحسب (هيغل)، فإنها ستشترك في رسم مسار غدا فيه الفن شيئا ً بين أشياء، كي يتحول الخطاب، من جسر/ علاقة، مرسل ومستقبل، إلى أداة خالصة. فلم تعد آليات إنتاج الفنون تشترط إشباع غائيات نائية للفنان، وللمجتمع، وإنما لحصد المزيد من المنافع، على حساب التعبير ـ والصدق. والفنان غالب المسعودي، لم يهمل ان احد سمات الفن (الحديث) وصولا ً إلى (الحداثة) و (ما بعدها)، والدخول في مساحات جغرافية ـ سياسية خالية من الضوابط ، في نظام(العولمة) ان الفنان يعمل بأكبر قدر من الاستقلالية، بصفته هاو ٍ، أو محترف، وإنما لأنه يشتغل في أكثر البدائيات امتدادا ً، ودينامية. وهنا كان ارثه ـ والإرث البشري للحضارات كافة ـ علامة في الدورة، وليس علامة للتداول ـ الاستهلاك. فلم يجهد أصابعه ـ ولا وعيه بالدخول في سوق الفن، ومضارباته، مع حفنة من تجار صغار، ومزورين، ومروجي أقنعة، بل اعتكف، أسوة بأساتذة كبار، كرسول علوان، وصالح القره غولي، وعيدان الشيخلي، ود.نوري مصطفى بهجت، ود. سامي حقي، ومحمد على شاكر..الخ لينجز الرسالة ذاتها الكامنة في الختم ـ في الإرسال ـ وفي ديالكتيك ـ علاقة ـ اللامحدود بالأشكال. فعندما كان عمل (الختم)، شبيه بعمل تماثيل الأسس، كوحدة الأجزاء، والحفاظ على رمزية المطلق في الدال البشري، كاشتغال لا واع ٍ أو مجّفر، إلى جانب البعد التقني ـ الوظيفي، للفن، فإن الختم ـ والتمثال، وكل معالجة للسطوح، ستحافظ على هذا الترابط، في إطار يحقق الإشباع والتأمل.
إن الختم هنا ليس (التوقيع) أو: الهوية الخاصة، بل أبعد من ذلك. لأن الفنان سيدفع بالذات لاستقصاء دينامية (الطاقة) وقد تحولت إلى لغة لن تتوخى التداول من أجل الربح ـ الاستهلاك، بل للحفاظ على ذات المساحة التي ازدهرت فيها الفنون؛ من المعبد إلى البيت، ومن القصر إلى المدفن.
إن استعادة الفنان لحرية حواسه، ورهافتها، من عمل الأصابع، إلى الومضات البصرية، وانشغاله بمراقة أطياف المخفيات، الشبيهة بعادات أفراد أحرار بلغ العمل أقاصي نقائه، وتجرده من التبعية، لأجل مساراتها في التسامي، سيجعل من الفن غاية شبيهة بحضور الإنسان نفسه، لا من أجل أن يغدو شيئا ً، بل على العكس، في استعادته لهويته (من البعد الجمعي إلى الذات، ومن التاريخ إلى الفعل، ومن المطلق إلى المرئيات)، بصفتها علامة بين علامات، وليس (ماركة) للتضارب، أو غواية في سوق المنافسات، والاشتباك.
فلأسطورة هنا تتنزه، ببراءة (شبيه بمن تحرر تماما، باستثناء إستحالة تحرره من قيود حريته، أو براءته) تامة الشروط، ولن تتحول إلى أداة غايتها القطيعة مع: الأرض ـ الواقع ـ ومآزق الذات في مواجهة المحو ـ والاندماج.
والمسعودي ـ الذي طالما رأى انه آخر السومريين ـ لن يغرد منفردا ً خارج الاشتباك ـ التصادم، وخارج زمن الصدمات، والعشوائيات، الحاصلة في الوسط الثقافي والفني، أو على الصعيد الاجتماعي، بل يرى انه ينتمي إلى إرثه (النحتي) منذ عصر ظهور النقش في فخاريات الوركاء، إلى الأشكال الهندسية في جداريات بابل، مرورا ً بالعبقرية العربية الإسلامية التي حققت في الارباسك (4)، ذات الديالكتيك بين العلة التي لا علة لها، وبين تحولها إلى كيانات جمالية ـ ومعرفية ـ لا يمكن عزلها عن المعمار الاجتماعي، وصولا ً إلى التجريد، وهو يشتغل في حقل الاشتباكات التأملية، بعيدا ً عن تحوله إلى علامة في سوق، أو إلى كنز في متحف.
فالفنان ـ هنا ـ يحدّث (يجدد) في مسار تداخل التيارات والأساليب،إرثه، كالبنّاء السومري وهو يجدد معالم معابدها الروحية، وكالحكيم الذي يواصل عمله لا في تقصي تماثيل الأسس التي شيدها قبله حكماء الأزمنة السابقة فحسب(5)، بل في (تجديد/ تحديث) الفلسفة ذاتها، وهي تأبى أن تكون تاريخا ً بلغ خاتمته.
فالامتداد: امتداد استدراج الخامات المحلية، من الحجر إلى الطين، إلى اللدائن، والى الأخشاب والاصماغ ..الخ واستحالة تحول المتراكمات إلى أشياء ـ سلع ـ لأجل المضاربة، والتنافس، وامتدادا ً: للعناصر وقد عاصرت حضارة بلا جدران، أو قرى معزولة، وهي تنبني بما يجعل مسارات (الغاية) قائمة على دحض تحولها إلى (سلعة/ أشياء)، وإمدادا لهذه العوامل ـ من الخامة إلى الرؤية ـ ستجعل النص الفني يشتغل للحفاظ على أعقد إشكالية انبثقت مع ـ اللغة ـ ألا وهي المعادل بين كل ما لا يمكن تحديد جوهره، وبين التطبيقات التي ستشكل امتدادا ً له.(6) فالفنان د. غالب المسعودي، كي لا يستجدي (بسبب ان مهنة الفن قد أدركته، كما أدركت بعض زملائه من الأدباء وحولتهم إلى كتبة وليس إلى كتّاب، وليس إلى فقراء بل إلى شحاذين)، ستساعده مهنته كطبيب مميز، وجراح ممتاز، لأداء خدمات توفر له حماية كرامته الشخصية، فيما ستكون مهمات الفن، عنده، انشغالا ً بحماية ذات الرهافة التي صاغ خطابها فنان المغارات، وفنان المعابد في سومر، وحكماء الأزمنة السحيقة. لأن (الحكيم) هنا، ليس الملك أو العاهل، أو الخبير في شؤون الأقدار والمصائر، أو سلامة الجسد، أو المكلف ببناء مجتمع تتوفر فيه أسبقيات، وفي مقدمتها العدالة فحسب، بل الصانع، والصائغ لـ (سلع) مضادة لها، ليس في التكنيك بمعزل عن الغاية فحسب، بل في إستحالة تحولها إلى (وثن). فالحكيم إذا ً سيختار الدرب الذي لن يختتم بخاتمة، أو يكون وحده نهاية الطريق، وإنما ليشكل واحدا ً من مسارات أغناء الجسد ـ وحمايته ـ بالفكر والرؤية، والمرونة في تتبع المحركات النائية، إلى جانب كل ما يمكن ملامسته بالأنامل، ومشاهدتها بالبصر، وتذوقه برهافة المجسات التي لم تخمد فيها جذوة الومضات، وانشغالات المخيال/ الحلم/ والشعر.
[4] الجسد: من المشخص إلى الومضات
بحسب خبرة مؤرخي الفنون، فان المليون سنة التي صاغت علاماتها،(7) من الخرز إلى الأختام، ومن القلائد إلى زخارف جدران المدافن، ومن الأقراط إلى رسوما جدران المعابد ..الخ لم تكن منفصلة عن: محنة الجسد. فالجسد الذي غدا مأوى لمكونات العالم باتساعه، والطبيعة بمخاطرها، والمجموعات السكانية ذاتها في تجاورها، وفي تصادمها ..الخ هذا الجسد، المحمي بدفاعات ذاتية ومشفرات بالغة التعقيد ـ والدقة، هو ذاته الذي صاغ ما تضمنته المتاحف من كنوز، والمدن من ممتلكات، والعقول من معارف، والحضارة من حكمة، هو ذاته لخص ديالكتيك: الخطر ـ والديمومة. فالمقاومة ليست كلمة ملتبسة الدلالة، إنما تكاد، لواقعيتها، أن تمتلك أدق تعريف للذي: لا يعّرف: الميتافيزيقا. فالوجود نفسه غدا ـ بصفته لا معقولا ً، ولا يمتلك مفاتيحا ً لفك مغاليقه ـ معقولا ً كضربة نرد لا تحكمها خطة عشوائية. ود.غالب المسعودي، بنزعة شرقية غير مثقلة بالزوائد، يتوهج بما تمتلكه خاماته من لا مرئيات داخلة في تكوين ذرات عناصره الفنية، يعادل، ويوازن، بين جسد (دينامي/ متيقظ) وغير خامل، في استقصاء المسافات وقد كفت أن تكون لها حافات، وبين نصوص فنية عليها أن لا تفقد ذروتها.
إن الفنان غير معني بالجسد، إلا بصفته المأوى تارة، وبصفته قد أكتسب مهارات تؤدي إلى اكتناز مهارات نائية، وبصفته ممرا ً بين القاع والأعالي، ثالثة، ورمزا ًمبنيا ً بالمشفرات وعملها كي لا يرتد، وكي يحافظ على دينامية أنه ليس أبديا ً.
وإذا كان الفنان قد مارس ـ كما رسم شاكر حسن الجسد المجرد في خمسينيات القرن الماضي، ومن ثم تم التخلي عنه ـ معالجة الجسد بما يمتلك من مرونة، وتعقيدات، وملغزات، فانه ـ بدافع تقصيه للمحركات ـ سيدمجه بأشكال اختزلت حد القطيعة مع مصادرها، في رؤيته التجريدية، للنصوص، وقد دمج الرسم بالنحت، والطباعة بما تمثله من واجهات المباني، أو شواهد المدافن، والأثر بتحديثاته ..الخ كي تغدو النصوص، كالأختام، وتماثيل الأسس، والارابسك، دون إهمال ثراء التجريد التعبيري، والهندسي، ودوافعه: التطهرية/ السحرية/ الميتافيزيقية/ والرياضية ..الخ ذات مسار يكون الجسد عليه ـ في ذاته ـ ولكن ليس على حساب التجريب، والمرئيات، ورهافات التداول بين الذات وعالمها المحيطي. فالجسد سيتوارى، ليدفن، حتى يكاد الفنان أن يصنع لنا مواكبا ً احتفالية خالصة، والجسد يكف أن يكون إشكالية وجود، كي يستحيل إلى إشكالية تعبير، لا عن غيابه، بل عن امتداد حضوره هذا في الغياب. فثمة تزامن لوقائع تحدث داخل مكونات النص الفني، ولن يدعها تغادر، لكن الجسد يرفرف، كومضات ضوء في العتمة، وقدام ليل الإنسان، متمما ً لغز (الفن) في علاقته مع الصانع، وفي علاقته مع المتلقي. مما سيسمح للفنان أن يستعيد عمليات البناء ـ من الداخل ـ باستعارة الخامات القادرة على تحقيق مقاربة مع غياب الجسد ـ وحضوره. فنصوصه تفصح عن مشاهد أفقية، اختزلت المساحات، وأعادت توحيد منبهاتها، داخل السطح، بمتعرجاته، وملامسه المتباينة. فالتجريد الذي غدا كتابة، يحافظ على مشفرات (الحروف) ذات الأصل: الإلهي ـ البشري، معا ً. فهو لم يعلن عن انحياز لمنهج لا يمكن فصله عنه، بل سيستحدثه في نهاية المطاف، دامجا ً التصّورات، بمسار المشاهدات الواقعية، عبر المعادل ذاته الذي أنجزه رسام المغارات، أو صانع الأختام السومري. فالإنسان لم يصر شيئا ً منفصلا ً عن تعبيرية المعالجة ومغزاها، بل غاب فيها ـ كما ينزل الراحل إلى أعماق الأرض التي لن يعود منها ـ كي يؤدي طقسا ً بانتظار الانبثاق. إننا إزاء تأولات ربما لن توسع مهمات المتلقي كثيرا ً، لكنها لن تدعه يتمهل بلذائذ طالما انها قائمة على أن الفن: ليس تسلية، أو إمتاعا ً بمعزل عن مراراته الأبدية. ففي هذا المعادل قد لا يقول النص الفني إلا ما توارى فيه، كمقبرة سوتها الريح، وكالزمن آتى على ممالك، وإمبراطوريات، إنما ـ في الآن ـ هناك المراقب، المتلقي، بكامل وعيه، وحضوره، وبجسده حتى لو كان قد استحال إلى ظل، أو رمز، أو ومضة، فانه ليس إلا صانعا ً لوجود يجدد فيه، ذات الطاقة التي تمنحنا إياها الأجساد التي توارت، ليس في التراب، أو في باقي العناصر فحسب، لكن التي أصبحت تسكننا، وكأنها لن تعمل إلا على تحدي الغياب، وبالدرجة الأولى على مجد الثبات، أو المقاومة، كمعادل بين المحو، وانبثاق ومضات الوجود.

إحالات :

1 ـ يكتب فراس السواح، في حقل المعتقدات في تاريخ بلاد سومر: " تقدم لنا ديانة بلاد الرافدين النموذج الأمثل عن مفهوم التاريخ المفتوح،حيث نستطيع تمييز مراحل للتاريخ المقدس تكشف عنها الأسطورة. المرحلة الأولى هي السرمدية الساكنة عندما كانت الألوهة منكفئة على نفسها مكتفية بذاتها. المرحلة الثانية هي الزمن الكوزموغوني، أو زمن الخلق والتكوين، عندما خرجت الألوهة من كمونها فأطلقت الزمان ومدت المكان وحركت دارة الوجود. المرحلة الثالثة هي زمن الأصول والتنظيم، عندما عمد الآلهة إلى تنظيم شؤون العالم والمجتمع الإنساني، من خلال عدد من الفعاليات المبدعة التي نشطت عند جذور التاريخ الإنساني. المرحلة الرابعة هي زمن البر الفتوح على اللانهاية" أنظر: فراس السواح [الرحمن والشيطان ـ الثنوية الكونية ولاهوت التاريخ في الديانات الشرقية] دار علاء الدين للنشر والتوزيع والترجمة ـ دمشق/2000 ص23
[2]ـ كان من امنيات ملوك العراق القديم ان تبقى المعابد التي يشيدونها خالدة الى الأبد. لذلك قام الملوك بتثبيت المعابد في الارض عن طريق تماثيل الاسس التي تجمع في شكلها بين المسمار والاله أو الملك. أنظر: د. صبحي أنور رشيد [تماثيل الأسس السومرية] وزارة الثقافة والاعلام ـ الجمهورية العراقية 1980 ص6
[3] في تاريخ دولة لارسا تصادفنا ظاهرة نادرة الحدوث في التاريخ العراقي، ذلك أن أحد ملوك هذه الدولة والمدعو (كودورمبوك) الذي كان يقيم في منطقة تقع شرق بابل بعد استيلائه على السلطة في لارسا بتنصيب ابنه (وارادسين) حاكما ً على البلاد " وبقي هو في خيام قبيلته واكتفى بلقب شيخ أو أب لكنه احتفظ من بعيد بالقيادة في يده من خلال تحديد سياسة وارادسين" إذ ليس من المألوف في تاريخ العراق أن يزهد حاكم بالسلطة ويبتعد طواعية ولو على هذا اشكل. انظر: باقر ياسين [تاريخ العنف الدموي في العراق/ الوقاءع ـ الدوافع ـ الحلول] توزيع دار الكنوز الادبية. بيروت ـ لبنان. 1999 ص44
[4] الأرابسك: فنون زخرفية إبداعية تلقائية موحية، إنبثقت من حضارة الشرق القديمة، وتبلورت في الفنون الاسلامية، تناولت الحقائق والجوهر والروح بتعبير رمزي، فأحالت الشكل الخارجي والمظاهر العرضية الى رموز وأسرار، مضامينها صوفية تأملية، واشكالها تعتمد التوازن والتقابل والتناسب والتكرار، استعاضت عن التجسيم بالعمق الوجداني. انتقلت إلى الفنون الغربية المعاصرة كعنصر تزويقي، تستلهم الحروف أحيانا ً. وقد أطلق الجماليون عليها (الفزع من الفراغ). انظر: عباس الصراف [آفاق النقد التشكيلي] وزارة الثقافة والاعلام ـ بغداد ـ 1979ـ ص163
[5] كذلك استمر التقليد راسخا ً في العصر السومري الحديث بنوع يعرف بـ (الحيوان ـ المسمار) الذي استعمل في عصر فجر السلالات الثالث ولكن بكل ثور جالس فوق مسمار. كما واستمر استعمال النوع المعروف بـ (الانسان ـ المسمار) الذي ظهر لأول مرة في عصر فجر السلالات الثاني، حوالي 2600ق.م. أنظر: د. صبحي رشيد [تماثيل الأسس السومرية] مصدر ساب. ص14
[6] ـ بمعنى ان للبشر غاية لا تمحى بالفناء، كما يرد في احكام اقدار الالهة لهم، وإلا لماذا منحوا، في حدود مصائرهم، تعالميها، حتى لو كانت قد كتبت من قبل البشر أنفسهم. فالديالكتك ـ ضمن الزمن المفتوح ـ يسمح باستحالة محو المعنى، أو جعله عدما ً ممتداً.
[7] يذكر هنري هودجز: "هذا، وعلى الرغم من ظهور الإنسان الصانع للأداة قبل عدة ملايين من السنين، إلا أننا نستطيع أن نتتبع تاريخ صناعة الأدوات إلى مليوني سنة مضت" أنظر: هنري هودجز [التقنية في العالم القديم] ترجمة: رندة قاقيش. الدار العربية للتوزيع والنشر. عمان ـ الأردن. 1988، ص25
 وكتب الفنان د. غالب المسعودي، حول تجربته، الإشارة التالية:
      [ " أن يتحدث الفنان عن تجربته فيه شيء من الصعوبة لأن التجربة هي التي تتحدث عنه و ما من شك أن الفن من أولى الوسائل التي أفصح بها الإنسان عن نفسه ،و يأخذ العمل الفني من المبدع بعد أن يمتليء خياله و وجدانه و تفيض نفسه بمشاعر و أحاسيس لا يملك إلا أن يكشفها و يكون أسيرها و بهذا ينتزع من وجوده كنه ما يحس ، و منذ عصر الأسطورة ظل الفن يستلهم بيئته الموضوعية و المعرفية و تتحدث تجربتي عن استلهامي التراث الأسطوري لحضارة وادي الرافدين حيث أن الأسطورة تأريخ يصلح لكل زمان ومكان من حيث إنها عالمية الأبعاد محلية التكوين وكون الأسطورة شكل فهي قابلة لأن تكون شكلا آخر ،أنا أرحل مع السومريين في عمق التأريخ البعيد و لا أنسى إني في القرن الواحد و العشرين منحازا لهاجس الحاضر و المستقبل متنقلا من خلال الغوص في الذات راكبا صهوة الروح أمارس أحلامي و أوهامي على المساحة المتاحة لي _فضاء اللوحة _و يشكل التهميش الذي فرضته قوى الظلام عائقا أمام الإبداع العراقي ناسية أن العراقيين في كل تأريخهم هم كالنخيل شامخين في وجه البائسين لذا لجأت إلى استخدام خامات و ألوان أصنعها لنفسي معتمدا على ما متاح في السوق المحلية و ملبيا متطلبات الديمومة و المقاومة العالية للظروف المناخية و عوامل الزمن ،لم أستعمل الريشة في أعمالي كي أكون أكثر قربا في عملي ..وكي لا ننسى أن التسطيح وصل إلى كافة مرافق الحياة الثقافية حتى إلى ريشة الفنان ،و المطلع على تأريخ الحضارات الكبيرة يرى إنها استثمرت ما متاح في بيئتها لتصنع أسطورتها و ليس أدل من ذلك استخدام الطين لتدوين روائع الأعمال لحضارة وادي الرافدين و التي ظلت منارا ينير الدرب لحضارات العالم كافة و أننا وريثي هذه الحضارة الرائعة العريقة .. إذ أن الجمال يشرق في النفس كشعاع ضوء بين الآكام."]


* سيرة
عضو نقابة الفنانين
عضو جمعية التشكيليين العراقيين
عضو اتحاد أدباء وكتاب العراق
مشارك في جميع المعارض الوطنية منذ عام 1999
أقام ثلاثة معارض شخصية خلال الفترة المنصرمة
أصدر مجموعتين شعريتين
ترجمت مختارات من أعماله الشعرية إلى اللغة الانكليزية قام بترجمتها الشاعر حامد ألشمري
له كتابات تنظيرية في مجال الفن التشكيلي منشورة في الصحافة العراقية
معرض مشترك في قاعة أفـق - آبار 2003بغداد .
معرض مشترك في جمعية الفنانين التشكيليين العراقيين - تموز2004سوريا.
معرض الحرية الأول نقابة الفنانين - بابل 2003
معرض في ذكرى شهداء الحركة الوطنية العراقية 2004- نقابة فناني بابل .
معرض الربيع الأول 2004 نقابة الفنانين - بابل .
معرض مهرجان متحف الشارقة الاول2005.
 الحوار المتمدن


عادل كامل - في التشكيل العراقي/ غالب المسعودي

الخميس، 13 أغسطس 2015

قصائد تشكيلية للفنان كامل حسين- أحمد الحلي



قصائد تشكيلية للفنان كامل حسين
أحمد الحلي

أخيراً ، وبعد طول انتظار ، صدرت المجموعة الشعرية ( أقيم على حافة الهاوية وأنجو من الجمال بأعجوبة) للفنان التشكيلي كامل حسين عن دار ميزوبوتاميافي بيروت ، وتم توزيعها في شارع المتنبي عبر عدد من المكتبات وبجهد شخصي أيضاً  ، تضمن الفهرس في بداية الديوان عدداً كبيراً من العناوين التي من المؤكد أن الشاعر/ الفنان أراد أن يستوقف الزمن من خلالها  في بعض لحظاته ، تنوعت مواضيع الديوان وتشظت على مستويات متعددة ، فحواء كانت حاضرة بقوة ، حيث نطالع العبارات الصادمة ؛
* ثقي كعب حذائكِ / يساوي دولتين !
*خذي رجولتي كاملةً ، واعطني قطرةً واحدةً من أنوثتكِ !
* لأني أحبكِ ، أبتعد قروناً عنكِ ، ولأني أموتُ فيك ، لا أريد أن أراكِ !
وكما يتضح لنا فإن الشاعر/ الفنان استهوته ثيمات انسانية أخرى  ، بالإضافة إلى ثيمة الحب ، من أبرزها ثيمة الصداقة والفقد  وقد تطرق إليها من منظور جمالي حيث نقرأ  عن المطرب مايكل جاكسون ؛ أنتَ ألواني/ وأنا رقصك الجنوني ، كلانا ممسوسان نصرخ في البرية ؛ أنا لوعة اللون وأنتَ عطرُ الأغنية .
وثمة نص حزين حول الفنان الشاب الراحل قاسم الساير الذي سقط في أحد التفجيرات الإرهابية في الحلة  وترك موته المفاجئ أثراً كبيراً في نفوس الحليين ؛ قيثارُ سقط ، قربَ المشفى في الحلة !
كما نقرأ عن جيفارا الثائر الكوني عدداً من النصوص اخترنا من بينها ؛ الأقمارُ تطلب منكَ الرحمة بجلاديكَ ، زحلٌ يتمنى لقاءك .
وفي الرؤيا الذاتية والتأمل نقرأ ؛ خمسون نورساً غادروا إلى قرى نائية ، بحثاً عن صيادين مهرة ...
حاول الشاعر/ الفنان من خلال ديوانه هذا أن يمسك ببعض المعاني ، مما هو ثاوٍ ضمن الهموم الجمعية أو هو ذاتي محض ولكن يمكن تأطيره ضمن هذا الإطار ، مستعملاً المفردات والصياغات اليومية والمألوفة داساً بين ثناياها بعض الشرارات


الأربعاء، 12 أغسطس 2015

قصة شجرة من غبار- عادل كامل

قصة


شجرة من غبار



عادل كامل

ـ لِم َ تجلس وحيدا ً، ولم تعد تغادر بيتك، منذ سنوات...؟
ـ آ ......، أخشى، لو خرجت، لتهت، وضعت.
ـ هل هرمت، أم أضعت خارطة الدرب...؟
ـ سيدي، كانت لدينا شجرة دوّنا فيها كافة أسماء أجدادي، وصولا ً إلى سيدنا ادم ...، وانتم تعرفون أن سيدنا ادم من تراب!
ـ اخرس!
ـ ومتى تكلمت؟ أنت سألت وأنا أجبت بحدود السؤال.
ـ حسنا ً، وأين هي هذه الشجرة التي فيها أسماء أسلافك ...؟
ـ بصراحة....، لم تعد هناك شجرة، ولا خارطة، ولا وثيقة، فلا توجد أسماء يعّول عليها، ولا ....!
ـ هل يمثل جواب هذا انك بلا أصل؟
ـ لا ...، فانا انتسب إلى التراب...، ومن التراب خرج سيدنا ادم..
ـ هل تمزح معنا، وتستخف بنا؟
ـ معاذ الله...، من أنا، ومن أكون..؟
ـ أنت تعرف إننا جئنا لمعرفة من أنت، ومن هم أسلافك، وما هو أصلك...؟
ـ أخبرتكم، أيها السادة الأفاضل، إننا خرجنا من الوحل، والى الوحل، بحمد الله، عائدون.
ـ عدت تمزح، وكأننا طراطير!
ـ سأخبركم....، لو أبعدتم سيوفكم قليلا ً، لأنها لا تدعني أرى من شدة لمعان حافاتها!
ـ تكلم.
ـ قبل الطوفان الأعظم، كانت لدينا شجرة...، لكن جدي الأكبر أخفاها، في مكان مجهول، وقال لنا انه عندما يموت سيخبرنا بموضعها.
ـ وهل أخبركم؟
ـ خرج من البيت ولم يعد...، اختفى، ولم نعثر له على اثر دال ..، وكان هذا قبل الطوفان، لكن جدتي هي التي أخبرتنا، وقالت: إن جدكم أخفاها لأنها تضمنت أسماء أسلافنا الواحد بعد الآخر، فعرفت أن احدهم مات لأن اسمه حجر، قتل بسبب اسمه، والآخر هرب لأن اسمه حرب، والثالث أخفى الشجرة بانتظار زوال المحنة، فجاء حفيده ودوّن الأسماء الجديدة، احدهم درس في كامبردج، قتل لأنه لم يدرس في هارفارد، والأخير فطس في السجن لأنه لم يدرس في كامبردج، بعد ذلك ظهرت الشجرة...، ثم اختفت إبان وقوع البلاء الأكبر، فقتل جدي الذي اسمه عمر، ثم قتل جدي الذي اسمه علي، فقال جدي الحفيد لنا انه كان عمر يستعين بعلي، فلولا على لهلك عمر، وكان علي خيمتنا. لكن هذا الحفيد أخفى الشجرة، لأنه كان يردد ان من كان يعبد محمدا ً فان الأخير مات وان من كان يعبد الله فان الله تركنا نموت لأنه وحده لا يموت. لكن هذا الأبله كان زاهدا ً في عصر الخلافة، فصلب، مما دفع ابنه للهرب من جبال اليمن إلى جبال كردستان، وفي الأخيرة، إبان حكم السلاجقة، والمغول، أما أنا ـ أرجوكم ابعدوا سيوفكم فانا أكاد افقد أصابعي ـ فكنت اعرف انه هرب إلى الاهوار، إبان عصر جنكيز خان...، ثم بعدها وقعت واقعة الذبح العام، ومات في حصار البصرة، لكن حفيده هرب إلى دولة الخلافة، فطلبوا منه البيعة، آبى وتجبر فقطعوا عنقه، جدتي قالت إنها هي التي اخفت حفيدها في البئر، وقيل في التنور، وما ان زالت الفتنة حتى أرسلته إلى بلاد الصين، ولكن الحيوان لم يصبح شيوعيا ً ـ وكان ذلك في عصر سيدنا ماو رحمه الله ـ فعاد إلى الاهوار، فقبض عليه بتهمة الانشقاق، والخروج على طاعة المركز، فمات وحيدا ً مع الجاموس، بين القصب والبردي، أما ابنه، فقتل لأنه أكد ان أهل الجنة يتكلمون اللغة العربية، فهرب إلى بلاد بعيدة بعد أن تاب وقال جدي ان أهل الجنة أميون، فكاد يقتل لولا انه هرب إلى الصحراء، وهناك عقد صلحا ً مع الذئاب، لكن أمي قالت انه إبان عاصفة الرمال لاذ بالإرهابيين، وبأنصار النصر، وبجماعة أهل من لا أهل لهم، وحارب الانكليز ومات على يد لصوص يعتنقون مبدأ اقتل قبل ان تقتل. مات بعد ان أوصى حفيده ان لا يجادل عالما ً يمحو أثره، وان لا يجادل جاهلا ً ينصبه زعيما ً...، أمي قالت إنها لم تره أبدا ً، بعد ان أوصاها ان تحرق شجرة الأنساب، لكن المسكينة حشرت مع الأسيرات اللائي وقعن في الأسر فباعوها بدرهم ونصف الدرهم، فسرقت شجرة أنسابنا ، التي أحرقت أمام الناس، إلا إنها لشدة ولعها بنا كانت قد زورت الشجرة ولم تعطهم إلا الزائفة، أما التي فيها أسمائنا وصولا ً إلى الأصل، فإنها تعرضت إبان الحرب الأهلية للتلف، فقام جدي الآخر حفيد هؤلاء باستبدال الأسماء، والمواقع، فبدل كامبردج بموسكو، وعدن بحضرموت، ومكة بالجزيرة، وبغداد بيثرب، وبكين بطوكيو، والجبال بالسهول، والمستنقعات بالرمال...، مبررا ً عمله على أساس ان المباديء خالدة وكل ما يذهب فهو الزبد، أمي وحدها أفلحت بإعادة تطريز الأسماء، بخيوط من صوف الخرفان السود، فقتلوها أصحاب الخرفان البيض...، إلا ان الخارطة عادت للظهور إبان دولة الإبل، من ثم ترجمها جدي التاسع إلى لغة يصعب فك طلسماتها إلا بالعودة إلى الجد الأول...، لكن جدي الثالث اعترف لحفيده ان ما ورد فيها غدا عتيقا ً لا يصلح للاستخدام، وعليه الاستعانة بأشجار الآخرين ...، وما ان أدى المهمة بنجاح حتى كان الطوفان قد اكتسح مدينتنا، وغمرها، كي يبدأ الزمن الجميل...، فقام جدي الأخير بنقشها على حجر اسود، إلا ان تعاقب الغزاة، وتعاقب الحرائق، وتوالي الفتن، والطواعين، أدى إلى ضياعها، وظهور نسخ منها في العديد من المتاحف ...، وقيل ان متحفنا يمتلك نسخة طبق الأصل منها، لكنني أيها السادة وجدتها محشوة بأسماء مثل بدر وجون وكاكا كوك ومكاوي وماركانا وحبزبوز ومشت انو وعبد الحوت وبأسماء مركبة من حروف مندرسة، حتى اضطررت إلى نشر إعلان أعلنت فيه عدم صلتي بأي جد من هؤلاء الأسلاف، وأعلنت اعتزالي، وبراءتي حتى من نفسي! ولكن الحكاية لم تنته بعد، لو سمحتم وأبعدتم سيوفكم عن رأسي، فجدي السابع هذا أوى أعداءه وتستر عليهم مؤكدا ً ان من لا يعاملهم معاملة النفس والخل والصديق الودود لا يحق له ان يرفع رأسه، فجاءت طائفة نادت بسحق الجميع، ثم، هي الأخرى سحقت، فعّم الذعر حتى لم تعد هناك اختلافات ولا خلافات، لا تصريحات ولا ملفات، لا رايات ولا بيارق، لزمن طويل، كي ينتشر خبر انتظار من يأتي بالخلاص، ليوحد الموتى، ويبعث فيهم همة المطالبة بإعادة أعمار ما خربه الأعداء، وما دمره الأصدقاء، هذا الجد الأكبر قتله ابن عمه، وابن عمه أطاح به ولده البكر، بعد ان توارى عن الأنظار، وغاب عن الذاكرة، كي ننتظر حضوره، ولم يحضر، فعادت الحياة تجري مثل جريان دجلة والفرات، من الأسفل إلى الأعلى، ومن الأعلى إلى الأسفل، تارة تنهض دولة الجنوب، ليتم القضاء على مملكة الشمال، ذلك لأن الصعود من القاع أمضى غورا ً من النزول، فما هي إلا دورات، كل منها تخلف جينات أساها، ومشفراتها النائية، المحكمة، تاركة في موتاها عناد عمل البذرة، تموت لتولد، كي تأخذ النهايات دورها في الدورة، حتى ظهر من أعاد لهم القانون الأصل: ما في السماء أعلى من ان تراه الديدان والدابات والأنعام، وما في الأرض لا يذهب ابعد من ظله. فصلب جدي وقطع ونثر جسده رمادا ً في دجلة، لتمتد المراثي سنوات وسنوات، من سومر إلى أكد، ومن خرائب بابل إلى خرائب أشور، ومن بغداد إلى اهوار الجبايش، سنوات وسنوات تكللت بسيادة حقبة خالية من الأمطار والعواصف والحرائق، أعقبتها عقود يولد فيها الناس من غير ولادة، ويموتون من غير موت. فجاء من يبشرهم بان الناس ما هم إلا حبيبات دابة، إن انفصلت عن الأخرى هلكت، فالزمن ليس عدوا ً، بل نشيدا ً يحث للانتقال من الظلمات إلى اللا حدود، فالناس ماداموا جميعا ً فانون فما عليهم إلا تقاسم عناصر الأرض وخلطها بملح السماء، لقد قلب القانون، لكن الناس تركوا الزراعة والعمل في الصناعات وتخلوا عن المعرفة وامنوا بان الإله الواحد الأحد سيعيد للأرواح كل ما سلب منها، فيرد للثكلى غائبها، وللأرملة بعلها، وللعاشق غائبه، مادام الجميع أبرياء حيث لا معصية هناك، ولا ممسوسين، فقتل جدي شر قتلة، ونثر دمه بين القبائل، فساد إيمان راسخ بلا جدوى الإصلاح، فالبشر أوغاد ولدوا كي يكون مستقبلهم شبيها ً بماضيهم، فالأصل مهما امتد فإنما لا يرجع إلا إلى أصله، حيث ساد مبدأ: إن لم تكسب المزيد فان المزيد من الخسائر له المغزى ذاته، اربح ما تراه ملحقا ً بالعدم. ومرت أزمنة برد، وأخرى من الجفاف، ثم بزغ الفجر، ليعقبه نهار خامل، ثم عادت الظلمات وساوت بين من له ذيل وبين من له رأس، فاندمجت الهيئات، والأشكال، وتداخلت، وانصهرت، حتى ساد عصر العنصر الواحد، الذي سرعان ما انحل إلى خامات متناحرة أبادت بعضها البعض الآخر، ولقرون لم نعد نسمع صوتا ً أو نبوءة، فظهرت زعامات ومملكات وإمبراطوريات وجمهوريات ودويلات وخانات وإمارات كلها لم تترك حتى غبارا ً دالا ً عليها، كي يولد عصر آخر قاده صغار القوم، وغلمانهم، وعبيدهم، وانجاسهم، لقرون، حيث تمكن أسلافي، وأسلاف الآخرين، الاحتماء بنظرية حسن التخلص من الموت شنقا ً، أو حرقا ً، أو بالخوازيق، أو بالركل، باللامبالاة، والتستر بالفكاهات، والنوادر، والعبادات، فظهر الجنس الخليط من مخلفات الحثالات، قال جدي انه عنصر الفتات، الذي لم يدم إلا ليشهد عهدا ً أخر بظهور البلابل، والطواويس، واللقالق، والسحالي، والديناصورات، والخراتيت، فازدهرت العلوم، والفنون، والثقافات، وصار القوم لا يعرفون ماذا يفعلون بالنعم، والمكاسب، فبذخوا بذخا ً، فاق طاقاتهم حتى صار الناس يتخاطبون بالخواطر، والحواس العليا، بالإشارات، والومضات، كأنها المعنى ذاته الذي لم يحض أسلافهم أبدا ً وإنما على خلاف ذلك كان ثمرة انهار وبحار ومحيطات وآبار من الدماء نزفت كي ينتشر العدل ويغيب الجور فلا احد لديه ما يريد أو يتمنى أو يرغب أو حتى أن يحلم به، فما كان نائيا ً غدا مباحا ً للجميع، فاختفت الأسلحة، وسحبت الأموال من التداول، لا سجون ولا محاكم، لا اغتيالات ولا اختطافات، لا فرق للموت ولا عصابات للسرقة، لا لصوص ولا أمراء حرب، الذئاب تتنزه برفقة القديسين، والنساء لا يتسترن بأحزمة العفة، ولا بالحجابات، كل مكتف كأنه ولد حرا ً طليقا ً حتى خاف القوم اشد الخوف من الإفراط بالمسرات والمؤانسات ...، وكاد عصر جدي هذا ان يمتد لولا عاد من يدعي ويدعوا للبكاء على من ماتوا محرومين مغتصبين منهوبين مطالبا ً بالثار، والدم بالدم، وكان هذا في زمن ازدهار أسلحة الدمار العليا التي جاءت بعد عصر سيدنا ادم وبعد عصر الخروج من التراب، فالأثير أصبح يعمل طليقا ً، فازدهرت حروب المجرات، واشتباكاتها، مجرة تطيح بالأخرى، فلم يعد لضوء مجرتنا حضور أو هيبة إلا كأكوام من الحجارة والنفايات والتمويهات، لأن شدة ضوء تلك التصادمات فاق مداركنا ومحاها من الأسفار، والمدونات، فلقد عشنا أرواحا ً مشردة هائمة لملمها ووحدها التفكك، والعزلة، والشرود. فلم نعد نكترث لأحد، ولا احد اكترث بنا، إن كان هو من ذبح جدك أو كان من حرسه الخاص، إن كان جارك عالما ً أو قودا ً مهمته جمع نفايات ملاهي الليل، إن كانت المجرات تمطر رذاذا ً أم بلورا ً معتما ً، فالمتاهة امتدت وراحت تتناسل كما يتناسل النمل والجذام فلا احد يولج بأحد، ولا احد يوش بآخر، فلم يعد هناك نهار ولم يعد هناك غمر ولم تعد هناك ظلمات، لا احد يسأل ولا احد مشغول بالعثور على جواب...، إن كان لك أحفاد أو إن كان لك أسلاف، فقوة الأثير اجتثت ومحت الأشجار، والخرائط، والألواح. فلم نسمع بالسيد بوش لا الأب ولا الابن ولا بهولاكو ولا بالسيد بايدن، لا ذكر للخرفان الزرقاء ولا للحمراء ولا للخضراء، ولا علامة دالة على الجاموس، ولا للجيش الأغبر، ولا لقطاع الطرق، ولا للمرتزقة، لا إشارات لوجود ملاهي، ومومسات، وقوادات، ولا أموال منهوبة، وصفقات مزيفة، لا فقراء ولا أرامل ولا أيتام، لا مهجرين ولا نازحين ولا مهاجرين، لا دولارات ولا ماعز، لا جاذبية ولا مخلوقات لا مرئية، حتى انك إذا رأيت اينشتاين حسبته دابة، وكولن ولسن اعتقدت انه بهلوان، وإذا رأيت على الوردي فلا تظنه إلا بقال، ولو رأيت جان دارك فلا تقول إلا إنها بائعة هوى، أما اذا رأيت الملا عبود الكرخي فلا تتذكر إلا داود فتشاطره العويل على انهيار الكلجية، وأنت تشاهد مسلسل حريم السلطان، والجزء التاسع من وادي الذئاب....، فاخبروني أرجوكم من أكون كي يسركم ان احشر في زمرتكم وانتم مازلت تلوحون ببتر رقبتي...، هل ثمة رقبة صالحة للبتر...؟ لكن الحكاية لم تنته، أيها السادة، فانا لا امتلك قدرة التستر على حكاية جدي السابع فهو من خالف أجداده وأعلن ان كل ما لا تبصره الأبصار يتحقق بالبصر وفق مبدأ: من لا يحلم لا يعمل، ومن لا يعمل لا يحلم، وهو ذاته الذي بشر بردم الفجوات، واستحالة عزل الفوارق، فهو الذي أسس قانون ترويض الحدود، بين النخب المتنفذة والدهماء وقال ان الشقاء ليس قدرا ً مقدرا ً بل وهنا ً وتربية فاسدة جعلت احد أسلافه يتحدث عن تحويل التراب إلى ماس، والماس إلى خبز سماوي حتى كاد يحقق طفرة تعيد للأساطير أصولها وللأصول ديناميتها لكنه عدل هذا المنحى بالعودة إلى نظام استبعاد الظلم فالإنسان يولد مقيدا ً وما عليه إلا ان ينسج مصيره لأن الرب منزه عن آثام يرتكبها علماء باسم الجهل، وجهلة أوغاد يأتون الفحشاء باسم العلم، مما أثار بغضاء القوم فدبروا له مكيدة اضطر بعدها لإعلان انه لم يأت بفرية، وانه لم يخرج على السنن، والأعراف، فالهرم هرم، وناطحات السحاب علامات مجد مما سمح لنظرياته ان تحول الماء إلى طاقة، والطاقة إلى خبز وفير دائم الحرارة دامجا ً ما قبل الزمن بما بعده حتى قيل انه عقد اجتماعا ً سريا ً شارك فيه ادم نفسه وكوبرنيكس وغاليلو ونيوتن وعلماء كبار ينتمون إلى القارة العجوز، والى أفريقيا، والى القارة الهندية، والى الصين، باستبعاد العرب والأعراب والمستعربين والمعربين والمغتربين والمغربين والغرباء، بوصفهم بشائر هدى ومشاعل هداية لا تتقاطع فلسفاتهم مع ما جاء به السلف الصالح، جاعلا ً من العقل علة قديمة مستحدثة ومن ثم فان كل قديم ما هو إلا حداثة دائمة معدلا ً من برامج حرية السوق وأسواق الحرية بحريات البيئة والحفاظ على السلامة العامة، فبلغ الدهر ذروته بإعلان اليوم العالمي لنبذ التعصب وكل أشكال الغوايات حتى كان الفائض من الطاقة والثروات والكنوز ممهدا ً لإقامة حسن الجوار مع المخلوقات اللا مرئية الوافدة من المجرات المجهولة، فساد عصر نهاية الفاقة، والفقر، وضعف المناعة، وهو عصر نهاية الألم، ونهاية الخوف، حتى أعلن عن إقامة خارطة موحدة استبدل بها شجرة العلامات بعلامات الشجرة، فصار الفرد جماعة، وصارت الحرية متاحة غير قابلة للتفنيد، إلا ان لكل بداية بداية مسبوقة بسرها، وكل سر مسبوق بما قبله، وانه لا توجد نهاية إلا ان تمتد بلغزها، وبما بعده، مما دفع بزمرة خاصة بتدمير نظام الوفرة بنظام الندرة، مستندين إلى تعاليم الزقورات والأهرامات وناطحات السحاب ضاربين أمثلة على وجودها في كواكب أخرى غير كوكب الأرض، فتوارى جدي تاركا ً وصيته لنا بعد حرب دامت عشرات القرون، ليتبناها آخر بالاستناد إلى مبدأ ان نهاية العالم لو كانت خارج الإرادة البشرية فان الإرادة البشرية ستكون خارج تعاليم المركز، الأمر الذي يتقاطع مع المنطق، بأنواعه كافه، فحدثت الفتنة بأشد أشكالها غلوا ً، فدمرت مراكز السمع، والاستبصار، وجرت حفلات حرق المخطوطات، والكتب، وتحطيم الألواح، بشعار ان حرب الجميع ضد الجميع لا يتناقض مع شعار ان سلام الجميع يفضي إلى سلام الجميع، على ان جدي هذا ارتد وأعلن توبته واعتزل بعد ان أكد ان الأكوان لا تعمل إلا كعمل الساعات، لا يحدث الزلل فيها حتى بنسبة واحد إلى المطلق، وإلا فلا زمن هناك ولا فراغات زمنية تستحدث الحركة، وفي الوقت ذاته تحافظ على السكون، وهو أصل السكينة، في نهاية المطاف، هذا الجد الخالد خلود الفناء، والفاني فناء الخلود، هرب إلى البحر وسكن جزيرة خالية إلا من نفسه، معتزلا ً، ووحيدا ًحتى عندما دنت أيامه من النفاد آفاق مثل مارد جبار فشن حربا ً عاصفة بأسلحة لا مرئية أفضت إلى استعادة السلطة، وقال انه حتى لو تخلى عنها فإنها هي وحدها ستقهر إرادته ولن تتخلى عنه، فأسس برنامجا ً شبيها ً بالذي لا يترك للنهايات أطراف، محققا ً أقدم مساواة بين ما بعد الزمن بما قبله، استنادا ً إلى مفهوم انه يستحيل استحداث فجوة من غير امتداد، واستحالة دحض حركة يشتغل فيها السكون كشغل الظلمات في الأنوار، وكالأنوار بوصفها حافات أبدية تفضي إلى ما بعد الظلمات. لكن هذا المؤسس وجد كيانه مشردا ً، بلا مأوى، بعد ان هرم، وبلغ من العمر أرذله، فلم يجد ثعلبا ً إلا وبال عليه، ولم يجد خلا ً ولا صديقا ً إلا وأوشى به واخبر عنه، فسلم جسده طواعية للسلطات ومات بعد ان برمج أمر السجن على حفظ الشجرة بكامل أسرارها، وهذا الجد، بحصافته، هو من صاغ مبدأ ان القضاء على الشر والجور والجهل أيسر بمليار مليار مرة من القضاء على أي مبدأ لا يمكن قهر انبثاقاته، لأن الأصل لا يكمن في النار، ولا في رمادها، وليس في الحي ولا في الميت، لا في العدم كجذر ولا في الوجود كامتداد للعدم الأصل، فحسب، بل لأن ثمة ما لا نهاية للأبعاد التي مازالت بانتظار من يستحدثها بما ان وجودها مثبت للعبور عبر لذّات الشقاء، وعبر شقاء العبور ابعد منها، حتى قيل ان القبض عليه أكثر استحالة بكثير من الدخول إلى الفردوس، وأيسر من الحصول على الغفران بعد ارتكاب الموبقات، وتدنيس كل ما لا يدنس، فهو لم يعد مرئيا ً كي يتوارى، ولم يكن لا مرئيا ً ليصبح تاريخا ً، بل هو لغز القانون الذي لا أول ولا سابق له كي لا تكون له خاتمة أو وسط، حتى أثيرت شائعات وتمويهات وتسريبات تزعم انه ليس شيئا ً كي يدوّن اسمه بين الأسماء، ولا كائنا ً كي يمتلك أهرامات وزقورات وناطحات سحاب، وليس أميرا ً كي يتسلم مقاليد مفاتيح المجرة، وإنما الدنيا برمتها محض مرور لا تتسع لاحتوائه أية شجرة ولا أية خارطة من الخرائط، أو شجرة من الأنساب، كي تلم بما لم يقم به بعد، بعد ان كان ماضيه يمتد إلى ما قبل الأصل، فانا إذا ً لست من التراب ولا إلى التراب أعود، تلك، أيها السادة، كلمته ـ هو ـ وأنا كلما أعدت قراءتها، والحفر في مدافنها السحيقة، اكتشف أنني ازداد قدرات لا محدودة شغفا ً وهمة في استحداث المستحدث القديم، فلا توجد ديمومة إلا للذي يجعل موتنا ابعد منا حتى تكل العقول كي تولد كما يولد العدم من الوجود، وكما لا يمكن وضع وجود للمحدود وهو يزدهر بما بعد الوجود، وبما بعد كل هذا الذي لغز توهجه مسافة تمتد خارج المسافات، والعبور! لكن ـ للحق ـ أنا لم أر ببصري، الشجرة، ولم المسها، مع إنني أجريت عليها تعديلات استنزفت مني جهود سنوات مضنية وطويلة قد لا تقاس بالعقود والقرون، فقد عشت معها، وعاشت معي حتى كان وجود أيا ً منا يصعب فصله عن الآخر، فهي أنا وأنا هي مع ان كل منا لا علاقة مباشرة له بالآخر. وهذه ليست محض هزيمة تكلل بالانتصار، أو نصرا ً خاتمته معروفة، لا حسن تخلص، أو قناع من الأقنعة، أو تسترا ً، أو فذلكة، بل واقع حال يذهب ابعد من تأويلاته، وتاريخه، وما يخفيه أو يعلنه. فعندما أعدت تدوّين أسفار الجد الأعظم الذي كاد صبره ينفد بسبب ما اسماه بالجور المستديم المتعدد الأسباب، وصولا ً إلى الأسباب في ذاتها، والى الأسباب من غير أسباب، التامة بذاتها ومن غير ذاتها، فقد استبعد ان يكون العقاب قد تقرر قبل الفعل، لأنه سمح لملكة الخيال ان لا تتقاطع مع خبز الناس اليومي، وضروراتهم الملحة، فقد عمل على قهر عوامل القهر، بالحفر في نوابض المحركات، وبكل ما يذهب ابعد من الكتمان، ليس لأن إرجاع الأمر إلى الإله بوصفه حتمية لا بدائل لها، بل بسبب العماء، والفقر، والجهل، والغلو، والدناءة، وصولا ً إلى رب الأرباب، كي يرى هذا كله يحدث خارج رحمته، وعطفه، وشفاعته. فقد كرس جدي هذا حياته يدعو فيها للقبول بالاستبداد الحر، الاستبداد الشفاف، زاعما ً ان المصائر فوق الأرض واحدة من حيوات لا تحصى تؤدي دورها كما تتكون السيمفونيات والحواسيب العابرة للبرمجة الذاتية، أي ما بعد الجيل الخامس، وهو مثال اقترن بأقدم أداة ألا وهي الفأس، صلة بالنشأة، وبلغزها الصريح، المباشر، مؤكدا ً ان عدم المعرفة ليست إلا معرفة تنقصها الأناقة، والمرح، وينقصها البلور، والألطاف العليا، فليست السعادة وصفاتها ومشفراتها بحد ذاتها غاية مغايرة لوسائل الدفاع، ونظام الغاب، وإنما لأنهما يعملان عملا ً يماثل عمل الأعمى وهو يستدل بالظلمات بحثا ً عن الانعتاق. لقد امن بان الاستبداد شبيه بنور لا وجود له لكنه يعمل كالعامل المساعد، فالأشياء موجودة ليس لأننا نراها تغيب، بل لأنها غائبة بقوة إننا نمتلك إرادة لا تتحقق إلا بقوة بعثها، بجهد كلله شعار: من لا يعمل على مدار الساعة، يجهل انه موجود قبل ان يكون له اسم، وموجد مع اسمه، وموجود بعد الاندثار. فالاستبداد الحر شبيه بالدكتاتورية الديمقراطية النبيلة، بالغة الرهافة، والحس، والشفافية، بل قل المرحة، التي امن بها، والتي أفضت به إلى تصادم الإرادات التي اختلطت بها الشوائب، فقد دوّن في وصيته إلى حفيده ان لا يهمل وصف الشر والقبح والخسة والجور بالمفتاح، ليس كيف يدور في القفل، بل في استحداث مفاتيح شبيهة بالدورات التي تحقق من صوابها جدي الأعظم: ما من مصادفة تعمل كأنها تبرهن ان الرب يلهو، أو يلعب، وقد ضرب أمثلة مستمدة من كرة القدم والألعاب البهلوانية المختلفة التي يتدخل فيها الحظ قليلا ً أو كثيرا ً، حيث ان التدريب ثم التدريب ثن التدريب وحده لا يكفي إلا لصقل البرنامج، بغية تحديد المسار، والموقع، أو الغاية، ومن ثم التحكم بكل ما هو عشوائي، وعاطفي، أو مستندا ً إلى أعمال الدماغ بمعزل عن قانون يفند الاستبداد للإبقاء على الانعتاق وسيلة للمضي ابعد منه هو ذاته، فلا يصح ان تهلك الحيوات أو تقتل بعضها بعضا ً لأسباب كأنها القدر المقدر، لأن لكل منا أوهامه وشطحاته ونزواته بالاستناد إلى الحاجات، والأسباب، أما الاستبداد الحر الطليق المرح فانه يتضمن اللغز الذي كون مساراته عبر الانتقال من بعد إلى بعد آخر، كما ظهر في خرائط الأمم والشعوب والملل والأفراد، فالغاية لا تتجدد بوسائلها، بل بالتطهر منها، والانتقال إلى ما يمثل الحلم من غير حالم، ويماثل إجراء جراحة من غير جسد، وهو مبدأ يقول ان الموت ليس قهرا ً، بسبب الملكية والتملك، ولا بسبب هوية المستبد، والطاغية، بل لأنه درس يعلن عن بطلان الاغتصاب جملة وتفصيلا ً، لأن الأخير هو عبور من العدوان والجور والتنكيل إلى الوحدة، والى الانصهار، والى السيمفونية العظمى ......، فعندما لا تعمل الساعة عملها فالخلل يجعلها مثل دولة تترنح بين الدول، ومثل شعب مسه المس فغدا مضطربا ً، أهوج، ومحشو بالنفايات، جدي هذا وجد حفيده يعدل قانونه ويقول ان حرية الاستبداد هي التي تفند الاستبداد الخلاق، الحر، الطليق، ومع انه محا وأزال أثاره، وهدم أركان دولته، وخرب مؤسساته، وأفرط في هتك الحرمات...، عاد وقال ان الكلمات ليست هي ما تدل عليه، بل على ما تخفيه، فأقام له نصبا ً تذكاريا ً، وليس وثنا ً أو صنما ً أو علامة للافتخار، لأنه أكد ان أجداده، وأجداد أجداده، ما هم إلا وجود مدوّن بما يسمح له قهر المحو وتوكيد سيادة مباديء الديمومة، وقهر الفناء. وكاد هذا النسق ان يتقاطع مع سيادة القانون في زمنه، لولا انه أعلن باستحالة وجود عنصر ما يمتلك أفضلية على الآخر، فلا المعادن البديلة، الوافدة من المجرات النائية، ولا المعادن المستحدثة، بفعل علوم ما بعد الخيمياء، وعصر ما بعد العدد، وما بعد عصر الصفر الأبدي، لها حظوة تتفوق على أطياف الرماد، ولا على ما في الإشعاعات من طاقات مظلمة...، وهي مرتبة مقدسة كي تستحدث دستور ان لا أسبقية لعنصر تكّون أو هو قيد البزوغ والاستحداث، فالبعث غاية تكمن في وسائل تخطي الوسائل، كي لا يقع وهم الاستبداد وكأنه خاتمة، أو كأنه الحد السابق على الحدود. ووفق هذا السياق فند كل من رأى في الماضي أفضلية على الحاضر، وفند كل من رأى ان المستقبل سيأتي بالزمن الأبهى، والأجمل، وذلك لأنه لو لم يصحح هذا المسار فان الساعة الكبرى ستكون شبيهة بظهور كل من سيغيب، بلا ديمومة، وآنذاك بإمكانها ان تدوم من غير لغز ديمومتها، كوجود الباطل عنوة، وقهرا ً لشفافية الاستبداد، فقال للشعب: أين هم الخمسة آلاف اله، وأين هم العشرة آلاف حكيم، وأين هم الأفذاذ الأوائل، وهل مكث بناء لم يهدم، ومدينة لم تخرب، ونفوس لم يشذبها الموت...، نفوس منها الصفر سكينة هي أس العواصف، ومؤانسة سرت بفعل انشدادها لمبدأ ان لا نكسب الماضي وان لا نخسر المستقبل، ولا نكسب الأتي كي يولول على ما مضى، وعلى ماضيه، ولا نذبح هذا قربانا ً لذاك، ولا نهدم عرشا ً وعشا ً لمن لا عرش ولا عش له....، لكن جدي هذا ـ الذي بشر بالفرح المستبد ـ سلبت منه خارطتنا، ومن ثم تم تحطيم ألواحها، وتم تزوير كل ما كان قد زور فيها، ثم نثرت غبارا ً، رغم ان جدي كان قد قال ان من يفعل ذلك ستنتظره أزمنة اشد يبابا ً واشد هولا ً واشد قحطا ً من تفتت إمبراطوريات أبت وتجبرت فاستحالت إلى أثير مجرات ما ان تستعيد حضورها حتى يكون الغياب أبديا ً في ديمومة أبدية حضوره في الأزل. وهكذا كان الهدم المسبوق بالهدم دعامة لنظام كتم حلقات السلسة وترابطها حتى كاد يؤدي هذا النسق إلى تفكيكها ودحض غايتها، لكن جدي المبتلى بالواجب أمضى سنوات طويلة محتجبا ً بكهوف الجبال، وبمغارات الصحارى كي يفند دعاة مبدأ: الظاهر هو الأصل، فقال لو كان اللا معنى هو الحصيلة فما هي مبررات وجود الدنيا بما فيها من فراغات ومسافات، مما ترك أثرا ً ببزوغ أجيال أعادت للقبيلة هيبتها، ومكانتها، لتولد قوى جبارة لم تترك حجرا ً على حجر، ولا شجرة ملحقة بأخرى، إلا واشتغلت على تنقيته المسار ونهاياتها، حتى كادت الاختلافات ان تردم، وتسوى، وتختفي من التاريخ، لولا نقض النقض، وبزوغ ثورات قائمة على قانون ديمومة الذي لا يدوم، وليس وفق البدائل، التي تخرج من رحمها، قانون: الهدم ثم الهدم كأساس للسر الكامن في المعاني، وليس في سطوحها، ولا على هوامشها! فلم تدم القرون الجميلة سوى لمحة خاطر تلاشت، وسكنت غيابها، مع ذلك كانت أفكاره أنبل من أن تمحوها حفنة عابرين، ولصوص مناصب وهمية، وزعامات فاضت بها الأقدار، إلا إنها تقلصت بحدود النوادر، والشواذ، وصاغ منها لغزا ً منح الشجرة سر حضورها الغائب، فجاء الآخر صاحب لقب: المتصحر، المتدبر، حاملا ً رسالة الرمال والبحار والأزمنة المندرسة، داعيا ً شعبه الجرار الذي تناسل وصار بعدد حبيبات الدخان، إلى الحفاظ على سر السر، عبر إعلانه المعلن، وبعيدا ً عن أحكام الانغلاق، والجفر المخبأة بالجفر، متزمتا ً صلبا ً عنيدا ً حد انه قهر فكرة ان النور ليس إلا ظلام حر، لا محدود، وغير قابل للأسر، والحجز، حتى كاد يكون الربان الخالد بلا منازع، والأوحد على مر الدهور، لولا ظهور قبائل أسرفت في التعفف، والتندر، والتشدد، فساد مبدأ ان الجميع ما هم إلا الواحد بعدد رمال السواحل، ومنها حافات الشهب، والمجرات المندرسة، فتوارى المؤسس في الحضور، هذا، وغاب الحضور عبر التداول، فالناس ينتجون مصائرهم تأكيدا ً وتوكيدا ً لقانون لو كانت المصادفة تحدث لمرة واحدة فهل هذا الذي لا يحصى عدده من الثوابت محض هراء، أو مثل بيانات زعماء الطوائف، لكن هذا العصر، هو الآخر، تآكل، وانحل، وتفكك، بعد غرق الربان في ظلمات الصراع، ولم يترك إلا ولدا ً زعموا ان أمه جاءت مرسلة لتضعه وتغيب، فهو الجد الذي لا ينتسب إلى أجداده، في شجرتنا، وبه تكون الشجرة قد بلغت ذروتها. كان جدي يمتلك وجها ً متساوي الحافات، فلقب بالمربع، ولقب بالمهندس، لأنه خلق مع الضوء وتكون في الغمر الأول، حتى أدركت الأجيال بعد الأجيال انه هو الصفر، لا عدد قبله، ولا آخر يليه، لهذا قيل ان لقبه انتشر وذاع صيته لشدة نزاهته، وتولهه بالعد الرمزي للصفر، بعد عصور طويلة اختتمت بزوال الحساب، ونهاية عصر الذرة، كأصغر وحدة للقياس، والاحتكام إلى ان القوة المولدة للقوة لا أصل لها، ولا أسماء، ولا متشابهات، ولا قرائن، وإنها ـ هي بحد ذاتها ـ من أنجبت الابن، بعد زواج أفضى بالأم لتحبل من غير إخصاب، ومن غير تماس مع آخر، فصار الابن مشعا ً، لا حدود لامتداد ملكه، بأمر من الأعالي، فاستتب الأمن، وساد الرخاء، وما عادت هناك أحداث شغب، واغتيالات، ومفخخات، وكواتم صوت، وعبوات ناسفة، وحرق على الهوية، وابتزاز بدوافع شيطانية، وما عادت هناك حملات تهجير، وخلع، وهجرة، ونزوح، وناس يلوذون بالفرار، والبحث عن ملاذ امن، إيمانا ً بان لانهائية المسرة مشفوعة بالأسرار، وببركات الصالحين، والصالحات. كان عصرا ً منورا ً بالصفر الكوني، فلا شمسنا، ولا أية شمس أخرى، إلا وتحول نورها إلى جدران، وحجابات، وظلمات، فتم الاستغناء عن الوقود بكافة أنواعه، ومنها الفحم الحجري، وأخشاب الغابات، والبترول، وطاقات الماء، وما في الأثير من قوى إشعاعية فائقة الإنارة، لكن هذا العصر المجيد تم محوه، وأزيلت نعمه، مع آثار أجدادنا، وأسلافنا، في حفلات تصفية، عمت الطوائف كافة بلا استثناء، كيوم من أيام النشور، ونهاية كل نهاية طالما سمعنا بدنوها، حتى بزغت الذاكرة البيضاء: فلا احد يستشهد بأقوال احد، لا مقدمات كي تكون لها نهايات، ولا وسط بينهما، إنما الذاكرة كانت مكتفية بذاتها مما جعل الفراغات شبيهة بشجرة تامة الفروع، وتامة الجذور، فائضة بثمارها ببركات لا أول لها ولا ختام، لكن جدي هذا لم يغفل إنها كانت محض حلقة قائمة على قوة غموضها، ولغز لغزها المخبأ في اللغز، فالدورات لا تتسع إلا بمجموع حلقاتها كافة ومنها التي أصبحت متعثرة، حد إنها تحولت إلى عقبة، لها رائحة جثث تعفنت منذ قرون، حاملة أصلها المنحر من سواحل العفن البكر، الأصل وما أدراك ما الأصل، فانه محض فرية، وتوهم، وظن، لأن تلك الجيفة تحولت إلى عدوى مستديمة، تولد ذاتها بوهنها بعد ان أصبحت قوة مهلكة، عمياء، لكنها ليست هي كل ما يمثل المليارات البشرية الزاحفة من الرمال إلى الأهرامات، ولا من الماء والوحل إلى الزقورات، وليست هي من أنتجتها العلوم والخبرة والفلسفات وأنشأت ناطحات السحاب، فثمة ـ كما جاء في الدستور ـ العاصفة التي أبدا ً لا تكف عن التوقد، كما تحول النار المقدسة أولادها وبناتها إلى براعم تخرج من الرماد، فأوصى حفيده الباسل ان يصدر عفوا ً عن كل من كان يمارس العفو، وان يكرم كل من لم يكرم، ويغفر لكل من كان يمارس غوايات الغفران، والغش، بغية ان لا يوهم، ولا يتوهم، ولا يمجد وهما ً، جاعلا ً من المصالحة عهدا ً عسير الحساب، لا يماثل إلا أيام القيامة، لا عون، ولا نجدة، إلا من كان هذا العفو قد شمل كل المموحيين بالأشكال، والموتى غيلة، وغدرا ً، ونذالة، وخسة، بعد الحصول على حكمة الدورة، بغية تشذيب الأصل، والعثور على أصل له سابق على وجوده، المحتمل، والافتراضي، ووضعه قيد السبك، والصياغة، فازدهرت في زمنه الغابات، والمصانع، والجامعات، وحقوق النبات، والبيئة، والحيوان، من غير إهمال الحفاظ على لغز دينامية اللاحافات، حيث الولادة تولد مكن رحم الموت وما بعد الموت، حتى لو كان زمن مجرتنا قد بلغ ذروة نضوبه، ونفاد ومضاته، وخزينه، الأمر الذي سمح بولادات مؤجلة شبيهة بالإجهاض، فاستلم العرش الجد الأعور، أعقبه الجد الأعرج، وأكمل تاريخهم الجد الذي لم يترك سيئة إلا وأقام لها نصبا ً، وعززها بالمشفرات، والمقدسات، والمعجزات، فازدهرت الثروات، والمصارف، والصناعات الذرية، بعد زوال عصر النقود، والانتقال من عصر الذهب والرأسمالية وحرية الفتك والمحو والاحتواء والإذلال إلى عصر الجنس الواحد ما بعد الشفاف الحامل للجينات دائمة الديمومة، فقد كان عصرا ًلم يترك ذرة إلا وتم تعديلها وتسوية الحساب معها. لقد أمر بمحو كل بند يتعارض مع قراره باستحالة وجود عقاب أو تنكيل مؤكدا ً ان البراءة هي الأصل السابق على الحضور في الوجود، وان الأخير إن لم يستبدل بها فهو ليس أكثر من بقايا عشوائيات تحدث جراء إخصاب مشوش داعيا ً إلى بلورة خلاصات لا تليق بالإنسان بمعزل عن الإله، ولا الإله بمعزل عن ذريته، وإنما لأن التاريخ لا يكتب للمجد بل صانعا ً مبدأ استحالة تبني رسالة بمعزل عن تفنيد آفات الوهن والتآكل، والانحلال، والتعصب، فأسس أعظم المدارس، والمعاهد، وأمر الجنس البشري بحفظ مبادئه عن ظهر قلب، بأجهزة الجيل التاسع من الحاسوب، مجانا ً، ذلك لأن الإنسان لا يعيش بالحرية ولا يعيش بنقيضها، بل كي يحافظ على عناصر الشجرة كاملة بكل أنسابها وفروعها وبأدق تفاصيلها ومنها التي ضاعت، أو تلفت، أو تم محوها، من غير انحياز أو عاطفة زائدة، لكن دعوته سرعان ما وجدت من يتقاطع معها حد تحولها إلى سنوات فتن، فاشتعلت الحروب بين الأهل، والقبائل، والدول، والأمم، والقارات، والمجرات، فأنزلت السماء أثقالها، وفتحت المقابر أبوابها، والأسرار مكنوناتها، فظهرت أجيال عطشى لكل فعل لم يفعل، ولكل إثم لم يرتكب، وفي مقدمتها حرق تماثيل الأسلاف وخرائطهم كي يبلغ الخراب والتدمير والفتك ذروته بتوزيع حفنات من رماده علامة خلاص....، أما أنا فلم أجد ملاذا ً ألوذ به إلا ووجدت ابن زانية أو مجذوم من يواجهني بخطيئة لم ارتكبها بل ارتكبها احد أسلافي، أو يوجهني بجريمة مازالت لم تخطر ببالي كي أتوكل على جعلها دربا ً لي أواجهه في مخاطر ورطة الاحتماء بشفرة ما أصبحت كل واحدة منها تكفي لنشر رمادي قبل الموت عبر النيران مثلما تسمح المرونة إلا ان تتبنى المحو وقد بلغ ذروته في التنكيل، وديمومة كل ما يدوم أكثر زمنا ًمن عبوره من الزوال إلى الزوال، ومن المجهول إلى ما هو ابعد منه! ثم مرت حقبة امتدت حتى كادت لا تبشر ببزوغ جد آخر يتدبر أمرنا، كأنها طرفة عين، إغماضة، رمشة، مع إنها امتدت وامتدت حتى كان من المستحيل وضع فواصل بين أيامها، وأسابيعها، وسنواتها، وأعوامها، وعقودها، وقرونها ....، وما ان ظهر حتى اختفى وتوارى من غير اثر دال عليه، وذلك لأنه لم يمهد لظهور مبررات العودة، مما قيدنا بانتظار الآخر، القادم بإشاعات وادعاءات ومزاعم برهنت، أخيرا ً، انه هو الذي سن لنا شعار ان الغائب وحده أعلى بما لا يقاس منا جميعا ً، فالضحايا أنبل النبلاء، والأشلاء وحدها غير قابلة للتناثر، ولما ُسئل جدي هذا أهذا يشمله، اختفى المتسائل، واختفى من شهد الواقعة، كلاهما في اللا مكان، وفي اللازمن السحيق، فعدنا لا نجد سواه يتحدث عن الأيام السابقة على الأيام الأولى لوجود الشجرة، فأمضينا عقودا ً أعقبتها أزمنة مضطربة حتى لم نجد آخر بانتظاره إلا من انتظر منه إشارة بسقوط المطر ونزول الوفر والبرد والغبار والذهب والسمك والضفادع والجاموس والماعز والماس والبعران استعدادا ً للمعركة، والحرب الضروس. فهو العالم والعالم هو، هو ما قبل الأول وهو ما بعد الآخر، دون المساس بحضرة بالآلهة، وهيبتها، وحرسها، وخدمها، فهو ذاته جذر الشجرة والشجرة هو، هو النسمة، والهواء هو، دائم الظل بديمومة الفلك وملغزاتها، فهو القفل وهو المفتاح، كلاهما هو، وغدا على كل أنثى استعصى عليها الحمل ان تتضرع له كي تصبح جدة لأسلاف شغلهم الشاغل إنشاد نشيد ان الغائب وحده اسبقنا في الأبدية. فما ان اندلعت شرارة حرائق الألفية الثامنة قبل الطوفان الرابع حتى انتظم الخلق أفواجا ً أفواجا ً، وألوية ألوية، وفيالقا ً تتبعها أخرى، حتى قيل انه عندما كان يرى امرأة تغازل حبيبها حتى تغدو هزأة لأنها لم ترتد ثوب الشجاعة. كان عصرا ً مزخرفا ًبالولاء الواحد، وبالمجد الأوحد، وبالخلاص الأخير. عصر اتسعت فجواته بين الممرات والتراب، فلا صوت يعلو على صوت الغائب، فقد حفظنا انه كان يبصر ابعد مدى من نهاية الإبصار، وأعمق من البصيرة. يصوغ لذّة من غير فسق، وخمرا ً من غير سكر، ومؤانسة من غير دنس، ونصرا ً طريا ً طازجا ً ثمرته دائمة التوهج. فغاب العدم بقرار حوله إلى دستور، وهو الآخر ـ الدستور ـ غدا مرتلا ً بلا أصوات. وهكذا تمت برمجة نظام الخلايا وسمح لها ان تجدد عملها بتكيف فاق ثوابت الأزمنة العتيقة. وفي هذا العصر تم تجنيد الكتل الذهبية المرصعة بالماس، والياقوت، وبأكرم كرامات الحجارة، والمعادن النادرة، إلى جانب عشرة إضعافها من الفرق الافتراضية التي كادت ان تحسم المعركة لولا ان الهزيمة سبقت إعلان النصر. على ان الحرب امتدت بذيولها وهرجها وصخبها وخرقها وبياناتها حتى تم إعادة تأهيل الموتى والذين سيموتون وإعادة البصر لفاقديه، وترميم أجساد المصابين بداء العظمة، وزعماء فرق الصاعقة، وأمراء الفتك، والغدر، والشفافيات، و أصحاب الأنوف الخزفية، والخشبية، إلى جانب الشواذ أصحاب اللحى المزيفة، المتسترين بالباطل، وأصحاب القامات المستديرة، والرؤوس المثلثة، لخوض آخر نزال وهمي وجد مباركة من الشركات الكوكبية وتمويلا ً من المجرات المندرسة ودعما ً من أنين الثكالى والأرامل والعميان تاركا ً الصمت يتكوم فوق الصمت حتى بلغت قمته قمم جبال المريخ ارتفاعا ً وأكثر غورا ً من كلمات أسلافه كي يصرح قبل فصل رأسه عن جسده المبارك انه لا جدوى من الأسف على نتائج الهزائم بل علينا تأهيل التاريخ كي ينتج جدا ً تذهب إرادته ابعد من الأسف والغفران والرحمة. فما كادت الحرب ان تخمد نيرانها وغثائها وزبدها ودمائها وخرابها حتى أعاد لها جذوتها بإشعال لغز خلايا الرماد، وما تحت التراب، وما تلاشى في الفضاءات، والبحار، فقد استجابت العناصر كافة لشعار ان الغائب وحده سيد ما قبل الزمن وما بعده، فسرت أوامر سيادته بقهر عوامل القهر، وتقويض مبدأ التقويض، وتجزئة المجزأ، فتم تعميم المرسوم الخالد بمنح الحناجر طاقات استثنائية على سبك الأصوات وعزلها عزلا ً وتحويل الكلمات إلى بهجة، والفزع إلى مسرات، والموت إلى فوز والى انتصارات، وأخيرا إلى ما بعد الخلود. فما ان تولد البنت حتى تستدل ببيت السعادة المطلق، وما ان يرجع بعض من لم يسعفه القدر بالحصول على الأبدية بالانضمام إلى جوقة المرتلين المنشدين قبل بزوغ أشعة النجوم باستضافة شموس ذات إرسال يتفوق على أشعة شمسنا، فصار الماضي برمته مثل كتاب اسود، مغلف بألف ألف جلد، ومحصن بألف ألف جدار، ومثل ليل عتيق، فالنهارات ازدهرت بالأصوات الضوئية المطعمة بالرقص البلوري الاستثنائي، وصار من الصعب ومن المستحيل العثور على مخلوق لا يتباهى بنشوة الصعود بسرعات تجاوزت مديات وأطوال وكمات ضوء المجرات الوافدة، والمندثرة، غناء تتلقفه الخلايا اللا مرئية ليستحيل إلى موسيقا مترامية الأطراف لها أبعاد فاقت ما دار بخلد وخيال العقول الغائبة، وما تجاوز كل صوت بانتظار مصاهرة أطياف ما بعد الضوء، وما بعد المخفيات. لقد غدا عالمنا ينتمي إلى عصر ما بعد العصور...، فأعدنا تفكيك المجسم الهائل للشجرة بمجسم عرضه اعرض من كل طول من أطوال المسافات الأبدية ...، وقد دونا فيها كتاب المحو محوا ً إشارة تسمح لكل أنثى وسيدة وبنت عقيم ان تحبل بذرية كل مخصي وتنجب منه معجزة ليست أبدا ً بحاجة إلى إعجاز، أو برهان، أو أدلة، والى إعجاز قائم على استبعاد الشهادة والشهود والوثائق، فالشجرة بحد ذاتها هي سمو الجد، وسموه وحده هو بحد ذاته الشجرة. فتضاعف عدد سكان المحمية بالنسبة القائمة على لغز ان ما من زوال ساحق إلا وقد تضمن تمهيدا ً لزيادة رياضية وحسابية حتى لو كانت قد عبرت الصياغات التقليدية، بتنفيذ الجوهر القائل اصعد اصعد اصعد حتى يندثر الأسفل، وما ان ساد هذا العصر وخلع قيوده حتى تكومت المعجزات تعقبها أخرى أكثر إعجازا ً، وفي مقدمتها: دع الفضاء يزدهر على أساس ان الأنوار مقدرة بحكم استنطاق الموارد والأرواح، فازدهر البلور سنوات عبرت كالنائم يمشي ويرقص ويتمايل من يقظة إلى سبات، ومن سبات إلى رقص وتمايل وطرب ...، فصار القوم والرعاع والعامة والحثالات والنمل والقطيع والجراد يعملون بمعدلات دينامية اللازمن، واللا مكان، حتى قيل ان عصر جدي الأعظم هذا غدا علامة لحركة سلع افتراضية شبيهة بالشعب الفضائي، والجيش الفضائي، والبنات الفضائيات، والأمة الفضائية، فقد تم استنبات المخفيات وزرعتها لتدشينات مخلوقات بترت حلقات السلاسل وأعادت لها مفهوم التوهج من كتلة، أو طاقة ظلمات، فما دام الكل ثابت بتحولاته فان اللا مرئيات اكتسبت بالضرورة شرعية كسب التحدي، وديمومته...، وهو ما قاد إلى إصدار قوانين وسنن ودساتير سرت مع نسيم الفجر فلا يجوز لأحد ان تكون قامته أعلى من قامة جدنا دام ظله، ولا يجوز وجود واحدة أجمل من جمال جدتنا دام عطرها، فصارت الأعضاء موحدة كالملابس والأحذية وباقي الممتلكات، منها الواقعية، ومنها الرمزية، ومنها الافتراضية. وهذا هو ما سمح لجدنا بإحياء خلاياه المستترة والنائمة والغاطسة، حيث تم حرق المراحل ومناطقها الوسطية تحديدا ً لبلوغ حقبة ما بعد المجد والأناشيد والأوسمة، ومحو الألقاب كافة مقارنة أو تمثلا ً لها، حتى اكتسب الغائب مقدرات ومخصصات حقوق الجميع، فأصبحت الأشجار تتنزه طليقة مع النار، وتم صلح الأموات مع الأموات ومع كل من سيموت، وتصالحت الذئاب بزيجات مع الحملان ومع الطيور، وانصهرت المعادن بعضها مع البعض الآخر، النمل يصفق للفيلة، والأرانب تنتخب الثعالب، والخنازير تتبرع بلحمها للضباع، حتى كاد العنصر الواحد يذوب في المثال، والمثال في الواحد...، فلا حساب ولا عقاب، لا محاكم ولا محاربين، لا أسلحة ولا ملائكة، فالكل هو الواحد، والواحد أصل الكل، مما سمح للنصر ان يعبر مفهوم الهزيمة، والمكاسب عصور البهتان، فالقانون لا يهبط ولا يستنبت، بل هو بلا برهان، تام بذاته وفي ذاته ومن اجل ذاته أيضا ً، توكيدا ً لبرامج مضادة للعشوائية والتخبط والتشوش بعد اليوم...، فامتدت دقات القلب وضبطت بمواقيت المديات الأبعد، فالمسافات لا تقاس إلا بنفي أبعادها، لا طول للأشياء ولا عمق ولا تُرى إلا بوصفها قهرا ً للغياب، والمغيب، والغائب. وقد رسخ هذا العصر مفهوم ان شجرتنا لم تخرج من العدم، ولا تتوارى بعد الولادة، ابتهاجا ً بنظام ان المصادفات لا تلعب النرد كي تنتج أشجارها، فالنوع لا يعيد إنتاج النوع، مما أتاح للمصانع ان تنتج بحسب الكفاءة، والكفاية، حتى تحول الفائض من الأرواح والأنفس إلى مزرعة تجاوزت مليارات السنين الضوئية عددا، أسوة بالسرع المتجاوزة لذاتها نحو سستم يعمل على تقويضها، عبر دينامية حرق المراحل...، وإنتاج السلع الناعمة من غير مصانع وعمال وخامات ورؤوس أموال وزمن ....، حتى لم تعد الشاشات وأجهزة التواصل والاتصال والفضائيات والمحمولات وأدوات التنصت والحفر في المندثرات لا تتحدث إلا عن خارطة واحدة لشجرة تجمعت وانصهرت وتوحدت فيها أسماء أجدادي واستحالت إلى ياقوت يتدلى عابرا ً البعد الألف في سلم قياس المسرات...، يا له من عصر مر لو أحصيت مباهجه لجلست عمرك كله تنوح عليه فما تعطيه حقه ...، وكأنك لمست الذي لا يلمس، ورأيت الذي مداه ابعد من الرؤية، ومن الرؤيا، ومن الرؤى...، فاكتسبنا جميعا ً حصانة كوكبية وكونية مضادة حتى للعلل التي مازالت خارج الشجرة ...، ليس لأن جدي هو من صاغ بند: تدرب، تدرب، تدرب ثم تدرب حتى تدرك الهزيمة، بل لأنه محا ودوّن بالمحو قانون العبور من الغفلة إلى الاستيقاظ، ومن الاستيقاظ إلى اللا مكان ...، فالناس ليسو مصنوعات، والمصنوعات ليست حواسيبا ً، والحواسيب ليست ذاتية المدى فحسب، بل تجاوزت الشجرة بتنوعها، ونهضت باختلافها، وعمرت بتعدديتها، فتصالحت الفلزات، وتصالح البعيد بالأبعد، وما عادت ثمة تباينات بين أعلى الهرم وأسفله، فتبدد العنف، وصار اللص مثالا ً للأمانة، والطاغية تمسك بلعبة راح يلهو بها مع حكماء العصور السحيقة، واستبدل السياف سيفه بالخوف من غير ضرورات العقاب، فتلاشت المنظمات السرية، وفرق القهر، وما عاد هناك مختطف ومخطوف، لا جاني ولا ضحية، فقد أعلنت البراءة تزامنا ً مع الغفران العام، فلم تعد ثمة قاصة إلا ونثرت ما فيها كما تنثر العطور بهجتها في الفضاء، فلا مداهمات، ولا قوميات، ولا كتل تكيل بألف مكيال، ولا أطياف بين الأطياف، لا فتن، ولا ناطحات سحاب ولا رمال تمتد خالية من البدائل، حتى ان نهاية الزمن اندمجت ببدايته، فتوحدت مخلوقات المجرات كافة أسوة بمبادئ ان الأصل لا يتفرع إلا بالأصل وقد حمل معه مداه نحو الأقرب دامجا ً البعيد بالأبعد، والغريب بالقريب والأقرب ...، وللحق فان جدي دام مجده هو وحده أدرك عندما استنفد مهاراته، معجزاته، ووجدها قد بلغ ذروتها، وشعر بان أيامه الخالدة بدت تقترب من اجلها، اعترف بعدم الضرورة لوجود شهود على ذلك...، فكان هذا يوما ً لم تشهد له الأبدية يوما ً امتد بحضور كل الغائبين، وبكل الذين سيغيبون، فكان اشبه بمهرجان الخلق التاسع بعد الطوفان الأسود، لم تكتف الثكالى فيه عن إنجاب جيش من الولدان والبنات، وقد ناح الحجر على الحجر، والماء على الماء، وبكي النحاس على الذهب، ومزقت الأسرار أسرارها وعرتها من الحجب، وناحت البهائم على بني الإنسان، وفجعت الحيتان وألقت بأوزارها على السواحل، حتى الجذام والطاعون والجدري والايبولا وأنفلونزا الطيور والفيلة والخنازير والدببة صرعها النبأ، والعذراوات مزقن مناديلهن والقين بها إلى النار كمدا ً، فلم يبق مدفونا ً، ومخطوفا ً، ومحتجزا ً، وأسيرا ً، ومنفيا ً، ومخلوعا ً، إلا وحضر ناطقا ً بالشهادة، وشاهدا ً على الشهود، ولم يبق تلا ً ولا مرتفعا ً ولا طلا ً إلا وغسل بدموع عويله أبدية ذلك اليوم ....، فهذا الجد لم يوش به احد، ولم يذهب هو بنفسه إلى المكان الذي لم يرجع منه احد، ولا احد سمع كلمة ذم، أو استنشق رائحة غبار عنه، فهو ذاته أعلن عن استحالة ان تكون للنهايات بدايات، ولا للبدايات نهايات، مؤكدا ً من غير قسم ان دستور الشجرة لم يغفل صغيرة أو اصغر منها إلا ووجدت موقعها في ألجين الهندسي الحامل لمصائر من لم يتكون بعد...، ولمصائر كل من عبر حدود الموت. وليس باستطاعتي، أو باستطاعة احد آخر، فك لغز الظلمات التي خيمت وأسست أسرارها العنيدة، في أعقاب اختفاء آخر جد مات بعد ان باشر بنفسه بإقامة ذاكرة يدحض فيها مقولة ان الشعوب مصابة بفقدانها، أو ضعفها، ذلك لأنها أججت نزاعات ناعمة صامتة عملت على ديمومة قانون دحض كل قانون يتقاطع مع رسالتها. كان فراغا ً شغل بالفراغات، باستعادة نسق ان الإرادة ليست حرة وليست مقيدة وان الإنسان لا يلقى إلا ما تلقاه اللا مرئيات من لا مبالاة حفرت تعاليمها بملاحقة وتتبع ومحاكمة كل من ينوي معارضتها أو لاستبدالها، بأي نظام يستبعد الجور والعنف والفسوق ...، فالأخير ليس بدعة أو حدثا ً مستحدثا ً، أو مصادفة طائشة من غير ضوابط كلية الدورة، بل شرطا ً أسست الاتجاهات الكبرى هيكلها عليه، ذلك لأن أي برهان من غير الفجوات بين الراعي والخراف يعد انتهاكا ً ونهاية تتقاطع مع أبدية تحولات المتضادات...، فلم تعد هناك شجرة ولا خارطة درب عدا مساحات تخللتها بقع مضادة ناورت على ثبات الحال...؛ لا زعماء ولا رؤساء ولا طغاة من ناحية، ولا شغب وفتن وحروب من ناحية ثانية. كانت حقبة خالية من الامتداد ومن الحركة ومن الأسماء، خالية من الوهم والمجد والعظمة، باستثناء الاحتفاء للغز ان المحتضر وحده علامة ستفضي إلى ما بعدها ....، فتأسست القوانين من تلقاء ذاتها، ومن غير جهد يذكر كي يصبح الخمول الأعظم عملا ً ناعما ً شفافا ً بعيدا ً عن المحاسبة والحساب، وبعيدا ً عن المراجعة والعقاب. فالقِدر، هو القَدر، وليس لأحد، مهما كانت نيته ومهارته ومعجزته، ان يغادر حقبة الصمت، إلا بالصمت الأبعد؛ يحّرم كل حرام، ليس نفيا ً له، بل توكيدا ً ليس بحاجة إلى توكيل، ومسيرة ليست بحاجة الى من يخرج عليها، أو ينوي تعديلها، فالتاريخ عدالة غائبة، والبشر اخساء أنذال أنجاس بالفطرة، والحرية فرية القصد منها لملمت كل ما هو خارج المشاهدة واللمس والإبصار، فامتدت القرون تجرجر القرون وتدفع بها...، فارغة من اللغو ومن الكوارث، بعد ان تم استبعاد الحساب والقراءة والجغرافية وكل مهنة نافعة ...، حتى غدا من ينوي إنبات نبتة، أو استحداث أداة، تهمة تكفي كي يخترق الخازوق جسده بالعمود الخشبي، او المعدني، او الإذابة بأحواض المذيبات السلسة، فعلى الرعية مراعاة بند عدم المساس بالشجرة الكبرى، والدفاع عنها حد الموت...، فصار شعر نموت ونموت ونموت من اجل الموت مماثلا ً لشعار الحرب ثم الحرب ثم الحرب حتى الهزيمة. فأي جد صاغ هذا النسيج المحاك بمهارة لا تقارن إلا بما تصنعه الإشعاعات القادمة من المجهول ...، لا احد يحق له البوح بذلك مع إننا جميعا ً كنا نتوارث جرثومة الوراثة وسستمها عبر آليات الدورة للحفاظ على الفساد والمفسدين، اللصوص والقتلة، الجبابرة والجلادين، الظالمين والأكثر ظلما ً، داعين الرعاية العليا ان ترعانا بالكتمان، وكتماناته، والى ابد الآبدين. آمين. فهل أصبحنا كمن لم يخرج إلا من نطفة لم تنبت إلا في الرحم العقيم أم أصبحنا العقم يتناسل بأعياد ومهرجانات الجد الخالد ..؟ أنا كواحد من العدد المبارك بالقفل الرمزي والشفر المشفرة بجفرها غير مخول بالعبور ابعد من ظل يتدلى فلا يترك أثرا ً، لا ضوءا ًولا عتمة، باستثناء فجوة شغلت فجوات عصر الأم الكبرى؛ جدتنا التي وجدت الفراغات أقسى قسوة من كل امتلاء، فملأتها الجدة الأولى بعد ان حجبت كل ذْكر لكل ذكر أو من حاول الخروج عليها، فمحت المحو ودونته بالمحو، مستمدة عزمها وشهامتها من شريعة أقدم نسبت إلى جدة اغتصبوها فقطعوا بدنها وقيل حرقوه وقيل افترسته الضواري، يقول ان الأصل يخلو من الجور والصلابة والاستقامة، فالكون محض ثقوب بلا نوابض، فتحات ترقع بالفتحات، أشبه بالنبات الواحد الموحد، وبالظلمات وقد دفنت فيها بذور الإخصاب حد استحالة العثور على اثر لها فوق الأثر أو تحته...، فحدثت موجات انخلاع وفرار وهروب وتسرب وتسيب أعقبتها فترات خلت من الرؤوس المدورة والسوداء والبيضاء؛ لا رجال أو من يمثلهم، فتم محو فجيعة وشقاء ووجع الحمل والولادة، بإرجاعها إلى خطيئتها الأصل، القائمة على الاتصال، والسمر، والمؤانسة، والمضاجعة، وكل ما له علاقة بالإيلاج والقذف والملذات الناعمة ...، لأنها بلا استثناء هي من أنشأت الوجع، والتألم، كالذي اخترعه الحكماء بحكمتهم، وصاغوا شريعة للقاتل والقتيل، وللأعلى والأسفل، شريعة الغبار والأثير...، فقلد ساد عصر جدتنا سنوات اتسمت بازدهار صناعة القلائد، والأساور، وأحزمة العفة، وفلسفات مثل العبور إلى الغد من غير تماس مع الحاضر، ذلك لأن الإخصاب لا يحدث بلقاء، أو وصال، تداخل، بل بالقطيعة، لأن الأخيرة هي أس العفة والتطهر والنجاة...، كما ازدهرت صناعات محلية غزت الأسواق كانت قائمة على الحد التام، من غير وجود حد له، فلا الخيط يولج في النسيج ولا النسيج هو خلاصة إيلاجات، لأن كل حركة هي إثم، وكل إثم أصله وهم، وكل وهم هو ما فعله الإسلاف والأجداد بالأحفاد. فلم يبق من الذكر ذكر، ولم يبق من اللازمن إلا زمنه الرقيق، البلوري، فساد عصر الأهلة، والأقواس، والدوائر، والحلزونيات، وهو زمن الأقمار والنجوم غير المشعة، فقد حرّم استخدام كل امتداد، بين نقطتين، وفندت النسبية، الصغرى والكبرى، وحرقت كتب كارل ماركس، وابن رشد، ونبشوا قبر المأمون وأعادوا محاكمته، وصلب مع الحلاج، ومع الجنيد، وتم غزوا بغداد، وتدميرها كي تتحرر من أوزارها بأوزار اشد منها لعنة ومعاقبة، كما تم تفنيد العدد، وشطب كل قانون يوجج التنافر، فالتاريخ يولد صفحة بيضاء ليبلغ ذروته أكثر بياضا ً، وقد كاد عصر الرفاهية هذا ان يعانق قمته لولا ان الموت عاد ليبعث بجد فلت من القصاص، ومن المحاكمات، وفرق السواد، ليستولي على العرش، بعد حرب ضروس دامت أكثر من عمر أسفار أجدادنا القدماء، حرب انهزمت فيها جدتنا شر هزيمة فاق كل وصف توصف فيه الهزائم، وهزم معها الجنس الناعم، فحطمت تماثيلها، وهدمت قصورها، وحرقت خريطتها، ونثر جسدها حبيبات أثير ناعمات في الفضاء اللا محدود...، لأن جدنا الجديد أعلن انه أعاد للشجرة أصلها، بعيدا ً عن ادم أو أي من ذريته، بل أرجعها إلى ما قبل الأصل السابق على الحدث، والأثر، والزمن. وانه بعد تسنمه مقاليد الأيام لن يدع بذرة تنمو إلا استأصل لونها، وعطرها، وثيابها، بعد ان سرت أوامره باستئصال المغازل، والمناديل، والأساور، والأقراط، فلم تعد هناك حكايات سمر، ولا لقاءات للتواصل، ولا أناشيد قمرية، أو تموزية، أو لها رائحة البخور، والورود، والأدغال، والأشجار، عدا ما يستوجبه الواجب، وما تتطلبه الضرورة من ضرورة، لأن الحرية هي أس الغواية، ولان كل غواية ممر للفواحش، ولأن ما من زاد يماثل زاد حجب الإثم عن البراءة، ودفن المفاتن، وإعادتها إلى سابق عهدها نائمة في رؤوس أحلام أسلافنا النائمين...، لكن شبح جدتنا عبر تخوم المحرمات بأطياف كادت تهزم جدنا، لولا مصالحة كانت حصلت بعد إدراك ان لا منتصر بعد مذاق الهزائم، ولا هزائم يمكن تلافيها من غير مكاسب ترسم بحروف غائرة لشجرتنا المهدد بالتلف، والزوال. فتم الإعلان عن تدشين عصر لا غالب ولا مغلوب فيه، لا اثر ولا كلمات تدوم إلا بإعادة نبش الأطلال وكسر ألواح التابوات بمفاتيح العالم الجديد...، فانبرى كبار عظماء العصر على رسم الشجرة رسما ً لا نظير له، أسهم فيه الداني والقاصي، الغريب والمغترب، المخلوع والذي لم يتكون بعد....، أسوة بكل ما يتفرق ليتجمع، وأسوة بديمومة كل ما لا يدوم، حتى عاش الناس أزمنة عابرة للمعجزات، مثل حلم مر برأس حالم ملأ حضوره بفجوات الغياب. وها أنا اقلب في أسفار الخارطة وصفحاتها فأراها خالية من الأسماء، صفحات ليست بيضاء، لكنها ليست معتمة ولا رمادية أيضا ً، كأن الناس اكتفوا بالنظر إلى الدنيا من وراء ثقوب، وفتحات، وشقوق، فقد اندمجت المسافات وغابت الأبعاد وغدا الموت شبيها ً بوجود لا وجود له. وللحق فان أحدا ً لا يجهل كيف حدث ذلك، وكيف انعدمت الفوارق، والملامس، فالليل يجري جارا ً غبار النهارات، والنهارات تتدحرج نحو ديمومة الذي لا يدوم، وكذلك فالناس يموتون ويولدون كأصداء أصوات لم تجد من يصغي لها وينتفع بنفعها، فلا احد اعترض على احد، حتى فطن وساد اعتقاد ان الفارق بين الموت والدنيا غدا الصفر الذي بلا عدد، والعدد نفسه صار خاليا ً من الصفر، لا حساب في الهندسة ولا هندسة مضطربة بالحسابات، لولا ان طيفا ً ما في الفجر الأبدي لا مس الأزل فبزغ ليحدث ثورة زحفت فحررت الأرواح القابعة تحت تحت الظلمات. فظهر العنصر البديل قائما ً على القوانين ذاتها التي كونت خارطة جدنا الأعظم....، فتأسست اللا دولة بعيدا ً عن مفهوم الفواصل، والفجوات، والفراغات، والامتيازات، ورغم وجود معارضة باسلة نشطة وعنيدة، إلا ان جدنا رسم نهاية للحرب قبل اشتعالها، فاعد لكل مخالف ومعترض نهاية سعيدة تعيده إلى ما قبل تشكل خلاياه الأولى، فقد كان هذا العصر عصرا ً تحرر فيه العبيد من الحرية، والدهماء من الطغاة، والرعاع من النخب، والقطيع من الرعاة، والنساء من الرجال، والجهلة من العلماء، والضحايا من الجلادين ....، فالمستقبل ليس ماضيا ً مؤجلا ً، والنصر ليس هزيمة حسمت قبل تدشين فاتحتها، بل لا معنى للمعنى بالتعارض مع المعاني، لأن مفهوم إنشاء الخليط ساوى ووزان بين حقوق الخلايا مع مصائرها. فكل من لا ينتج مستقبله لا يحق له التحكم بماضيه. كان هذا هو عصر ما بعد البراءة، فقد ألغى فخامته مفهوم العقاب وترك الثواب يأخذ نسق استحالة وجود الصدمة، وانساق المثنويات، فما دام لا احد طواعية يختار الذهاب إلى جهنم، ويغطس في مستنقعاتها، ويكوى بسلخ نخاع العظام بعد اللحم وبعد الجلد، فان إعادة الآثمين إلى البراءة صار ذروة الشريعة، ونبضها الدستوري الحكيم، فلا رأس للهرم، مادامت القاعدة هي الهرم برؤوس متجه إلى الجهات كافة، فلا أسفل ولا أعلى. كان العنصر ملونا ً بالأصوات، والأصوات بما بعدها، فصار التراب وباقي أخس المعادن أغنى العناصر ثراء وإثراء مادامت نعم الفراغات كلها قيد الانبثاق، والتجدد. لا شهوات ولا نزوات ولا غرائز، لا موبقات ولا خمور ولا مكائد، لا احتيال ولا مطاردة ولا اغتصاب، فلم يعد للملكية الشخصية ولا الجماعية اثر إزاء الكل الواحد، والواحد الكل، الذي قام على استحداث المستحدث بفعالية ان الطاقة هي كل من يعمل على منحها حقها في الاستحداث، والحدوث، فلا يجوز التأسي والتشكي والتذمر على ما مضى، بعد ان تم تطهير الذاكرة من مصائبها وما تراكم فيها من شوائب، وأوساخ، بل مواكبة موكب ان الرحمة ليست إلا السير بدرب لا عثرات فيه. فلم يعد ثمة خمول أو سبات أو مواعظ تسمح لصعود احد على حساب احد، فالأسفل هو الأعلى منظورا ً له بالمسافة في امتدادها، فلا وجود للفرائس ولا وجود للطرائد، فالدنيا مكان غير مقيد بقيد والأزمنة تعمل من غير رقابة. فغابت نزعة الافتراس بعد إجراء حاذق عدل أسس البذرة في جذورها، وتفرعاتها، عطفا ً على ما سبق وجودها وما لحق به، حتى صار جدي هو كل كائن مهمته مصير الآخر قبل مصيره، فلم تعد هناك العاب رياضية للرهانات ولا ساعات فراغ للكآبة، والذهان، والفصام، ولا أجهزة للتصنت على ذبذبات العقول...، فالمؤرخ يقول انه وفق الإحصاء وتحليل بنيات المخفيات والأنساق الظاهراتية، فان عدد سكان الكوكب فاق عدده عدد رمال سواحل المذنبات وباقي المجرات، والكوزرات، وابعد من الثقوب المتسترة بقواها النائية، لا غبار ولا أثير، عدا الأرواح والأطياف تلهو ببراءة أتاحت لميلاد عصر ما بعد العصور، وما بعد النوع الواحد، بمراقبة ذاتية يعمل الكل خشية حصول ارتداد أو تعثر، رقابة لا يشرق عليها الرقباء، فقد زال عصر الكلام والحروف والحواسيب، وزالت كلمات مثل الحرية والمجد والنبالة، فالكل سواء بسواء تغذي مصائرهم رسالة المصير غير الخاضع للردع، أو لاستخدام أية قوى شاذة آبقة وليدة انتكاسة في سلامة العبور. كان اللا جنس هو عصر النهار المبهج الذي فاق كل من خطر بباله ان تكون عليه المصائر خالية من الأذى والوجع والتلف....، فالذي يولد يبقى يولد إلى ابد الآبدين، ولادة زاخرة بالولادات، فلا جدران ولا أحزان ولا خوازيق ولا كواتم صوت ولا مشانق ولا صلبان ولا سراديب ولا مذيبات ولا جوازات سفر ولا تأشيرات، فالجنس المضاد للجنس، والنوع المغاير للنوع، والملكية المضادة للتملك، سمحت بتوازنات هي أصل الذرة في أنساقها السحيقة، وليس في سطحها وضيقها. فلا يصح إجراء أفضليات بين الأجداد، كمخترعين أوائل أفذاذ، ولا فوارق بين الجدات اللائي أنجبن أسلافهن، ذلك لأن ما سيولد سيبقى يولد مكتفيا ً باستحالة وضع خاتمة لولادته، فالأصل غير ثابت إلا بعبوره كل المفازات وحدودها، علامة تقارن بعلامة مادامت كل علامة تغذي جوهرها باستحالة ضمورها، والأشكال لن تستحدث ذاتيا ً ولن تولد من غير أسباب ولادتها، ذلك لأن الكل هو ذاته وقد اكتسب الإرادة من غير إرادة بعيدا ً عن الشيخوخة، والهرم، فالجين الأصل هو أصل الأزل تاما ً بالأبديات، فلا ضيق ولا امتحان ولا براهين عمياء تدل على ما ليس بحاجة إلى إثبات، فالأصل إن لم يكن أصلا ً فلا وجود للفروع، والفروع لا وجود لها إلا تامة الأصل. وهذا العصر يا سادة هو من شذب أغصان الشجرة وعدلها بعيدا ً عن كل اعوجاج، فلا أساطير تنبت فيها الشوائب، ولا سواحل يخرج منها العفن، ولا عميان يسنون بند أنظار الدجال، ولا فصول تدور دورة الذكر حول الأنثى، ولا إناث يهربن هرب الحمل من الذئب، لا ناطحات سحاب ولا صحارى تدفن فيها نفايات الموت، ولا أمراض تستحدث للتسلية، ولا فوائد من اجل الفاقة، لا أغبياء بالمصادفة، ولا سلاطين بالقدر، فلا سجون ولا خبراء يتلهون بالمصائر، ذلك هو العصر الذي ساد بأسس لغز ما بعد الولادة، لأنه مكث يمتد صفحات لا اثر فيها للأثر، ولا لجد يتنبأ بالآخر، ولا الآخر يأتي بعد سابقه، حتى انك لا تكاد تمتلك رغبة ان تعرف كم امتدت سنواتك في اللازمن، وكم عمرت وذلك لأنك ولدت في عصر لا فقدان فيه، لا أسى على ما ذهب، ولا انتظار لإضافات ستلتحق بماضيها، فالجزء اللامرئي في البذرة هو الكل لا يراه إلا الكل وقد اكتملت فيه الدورة، لا تجد أحدا ً يطرق بابك ويسألك من تكون، ذلك لأنه لا وجود لأحد لم يرتو حد انه لا يجد زمنا ً كي يشغله بالأسئلة أو بأجوبتها، فالضرورة حرية توازي عمل حريات ما بعد الانعتاق، لا تجد من يقطع راسك، أو لسانك، أو أي عضو آخر، للسمع أو للتناسل، لأنك آنذاك تكون امتلكت أحلامك للكل الدائم في أبديه حضوره، بعيدا ً عن تمويهات الغائب، وغيابه. لكن الأوراق اختلطت، دائما ً تبدو هكذا، أولها بآخرها، وأخرها بأولها، فالمجسمات تتموه كأنها سطوح، والمرئيات بالمخفيات، كي تقود الحدود إلى استحالة وجود حد من غير ان يدخل في ديمومة الحد الآخر، فتكتسب الخاتمة دينامية المقدمات. على ان عمليات البحث عن جينات انعدام العناية وأسباب نشوء الأحزان والعلل العصية والذهان ما فوق العقلي وصولا ً للحفر في العلة التي لا علة لها التامة بكمالها قاد الخراب إلى أعلى درجات مجده، كما هو مجموع عمل الجذور يصير حطبا ً وثمرا ً للنار وللناس، وكما هو مجموع جمع قوى القاعدة يغدو رأسا ً للهرم، إنما هناك أبدا ً ما هو أعلى منه، ليس هيئة، أو صورة، ولكن أعلاه بحكم ما تتركه الريح للريح. فلم يعد هناك نساء يطالبن بالكف عن الإنجاب، وإرسال فلذات كبودهن إلى المسالخ، ومستنقعات الضحك، ولم يعد هناك بنات يهتفن بسقوط سلطة القضيب معه إنهن أقمن محرقة كبرى لأحزمة العفة وإعلان نهاية عصر الدعاية والبغاء والعطور، ولم يعد هناك هرم ولا سلطات تراتبية، ولا خيطية، ولا مرسلة من الأعلى أو قادمة من اليسار إلى اليمين، أو من الحياد إلى الوسط، لا جنسانية، ولا تطرف، ولا أحادية أيضا ً، وبأي معنى من معانيها القائمة على آليات عمل جرثومة الاجتثاث والجذام والهيمنة، فصار التنوع يشتغل بالحدس المتفوق المفجر للطاقات الكامنة، لأن المشكلة لا تقع في صيرورة الزمن ولا في نظام الكلمات، بل في العبور إلى عصر لا يرتد ولا يتقدم، فكادت الملل والأقليات والشراذم والأطياف والطوائف والكتل والأحزاب والمنظمات وان تدرك بضرورة وضع حد لجين الهلاك والمهلكات العامل على استنساخ مثيلاته المزورة، والمزيفة، والمنقوشة نقشا ً في ليل، أو بحسب غفلة الغفلة، لولا ان جدي المعظم الدائم ديمومة ما بعد الديمومة استدرك باستحداث حرية عنوانها: نهاية الأنا ـ ونهاية الجماعة، لصالح برامج تعدل مساراتها ذاتيا ً باستبعاد التناحر، والتصادم، والافتراس، والاغتيال، والتقطيع، والدمج. فقد قال ان الإله لا يصح ان يكون أمر بذلك: لا بالحروب، ولا بالفساد، ولا بما فوق التنكيل، فأعلن الحرب على الحرب، من غير سفك دماء أو مكائد أو تصريحات شفافة، فقال استنادا ً إلى جهد دؤوب شاق مظن جرى للموروثات ذاتها، وكاد ان يحقق تقدما ً بإقامة اللا دولة، ويمحو أي اسم للسلطات، ويبدد آثار البغي والعدوان، المكونة من تراكيب الخلايا الناعمة ذات الوجه المشرق والتي هي ثمرة جهد جمع الخلايا، لولا انه لم يحرز إلا ردة مروعة عندما أدرك ان في كل وحدة مصغّرة تكمن طاقات تتطلب كفاحا ً لا محدودا ً لإعادة نسخها وفق الحلم الذي انتزعه من العدم إلى بعده، فالوجود لا يتحقق بزواله، ولا الزوال له كيان من غير وجوده عابرا ً للحدود، والمجرات، فساد عصر تفنيد الغايات، والمقولات، والثوابت، فلم يعد للخلية، مثلما للتاريخ، ومثلما للأسفار، تمهيدا ً لشرعية لا يخترعها مشّرع من هنا أو من هناك، بل من صميم اللازمن وقد تجمعت فيه الأزمنة بوصفها وحدات بناء وليس عناوين عدم، ذلك لأن القوانين لا روح لها ولا بدن من غير ان تمتلك قدراتها على محو أشكالها، مباركة، من غير مبارك، ولا سواه. فطلب من مساعديه الأفذاذ، جهابذة الأولين والآخرين، من غير إهمال ما بينهما، عند احتفالهم بالألفية الأولى بعد تسنمه الحكم، واستيلاءه على حافات الأقاليم البيضاء، ان يتحول الناس إلى ذباب. سيدي هذا قرار يتطلب استثناءات...؟ واعترض كبير حكماء القوم، قائلا ً ان المساواة لا تقود إلى الرفاهية، فبعد ان صدر الأمر باستبدال النمور بالكلاب، والكلاب بالقطط، والفيلة بالغزلان، وتحويل التماسيح إلى بلابل...، تكون قراراته قد تجاوزت الحدود....، لكنها أكدت إنها هي القرارات الصائبة، ولا جدوى من اعتراضات المشرف الأكبر على هندسات التحول، بذريعة ان النوع الخالص ما هو إلا من شأن الآلهة، لكن جدي استنهض خلاياه الراقدة، وسمح لها بالتحرر والعبور إلى الفراغ البلوري، فمحق كل من لم يتكيف مع إرادته، مؤكدا ً ان الآلهة ابعد من تكون بعيدة، ولها حدود، وأسماء، وأفعال، وصفات، تصدر عن غبار وعفن، وان الآلهة أعلى من كل هرم له افتراضات، وقواعد، بعد ان خرب أوكار النخب الضالة، وتركها تستظل بيوم لا ظل فيه، فتحول الاحتفال إلى عيد بقرار سرى كموجه لا مرئية للمسافات اللا متناهية حتى صار القوم يهتفون، ويزعقون، وينشدون، ويرقصون، ويغنون: المجد لعصر ما بعد المجد، وما بعد الذكر والأنثى، وما بعد الليل والنهار، ذلك لأنه استند إلى مبدأ ان المباديء ليست عمياء ولا مبصرة، بل فاعلة، فالأسماء كيانات عمل، والعمل مساحات تتراكم، والتراكم لا يقوم على الاغتصاب، ولم تنته الألفية إلا بعد ان ارتوى واستقام، فاصدر أمرا ً بالعفو عن الذين عفى عنهم، عفوا ً لا ترتكب بعده الآثام والذنوب، فالخلايا شذبت حتى لم تعد لها أصداء ولا أبعاد إلا بفصلها عن أصلها كي تمتد بأصل يكّون كل ذروة تبقى تمتد لتمتد مثل الماء، وصار الياقوت مثل حبيبات الرمل، ليس من فجيعة، ولا إثم، ولا نهايات، فلا صخب ولا مواعظ، لا مدن شاقولية ولا حدائق حلزونية، لا أشرار أبرياء ولا حكماء طغاة، بل غدا الانتقال سلسا ً من الحلم إلى الحلم، الكل سواء من غير عثرات أو خسارات. كان هذا هو العصر الذي عزل بعزل ألتوق، وبتفكيك اللا مرئيات إلى أقصاه، بانعدام حضورها، وبعودة مؤانسات الغريب إلى الغائب، واستعادة كل ما لا يرد على البال، حاملا ً عنوان محو المحو، واللغو، والخرائط، من غير نياشين ومكرمات، فالمنتصر لا يحفر قبره، ولا القبر ينبذه، والخاسر لا يربح هزائمه، والتائهة لا يبحث عن مأوى، ولا الأنثى تلوذ بالدعوات....؛ عصر كاد يثب ابعد من مداه، لولا تهافت الباطل وتراكم المتراكمات، ولولا الإسراف في مباهج الغزل، لكان الاحتفاء بالألفية الثانية قبل اكتمال الموت بحسم العبور إلى الأخرى، لكن نذر الظلمات نشطت، فأينعت، وقلبت اللا أشكال إلى مثلثات، ومكعبات، وسمحت للأدنى بالتحرر من الأعلى، وسمحت لمن لا أصل له ان يخرب الأصول، فاختلط الزاد بالفضلات، وتجزأ المجزأ، وتناثرت الرحمة، صار الأعمى أميرا ً، والزانية عذراء، الخسيس قدوة، والأعرج معلما ً للمباهج، الاثول فقيه، والأعور حارس مرمى، القصير نخلة، والخنفساء ملكة جمال، وصار من لا يقين له يمسك بالسوط، وبالسيف، وبكاتم الصوت، فانبثقت ثورة البهائم، وتأسست القلاع، وما تحتها، وشيدت تحتها السجون، وتحت السجون سجون، وتحتها مدافن، وكهوف، وأنفاق، وتحت ذلك كله امتدت أزمنة لا وجود فيها أية إشارة لها في متن الشجرة، ولا في فروعها. فازدهرت صحافة اللصوص، وانتشرت مصانع الهواء، وشيدت ناطحات السراب، حتى استقامت عاصمة الوهم، وعمرّت، ولم تشخ، أو تهرم، فقد استثمر علماء ذلك الزمن حسنات الأجداد، والجد السابق تحديدا ً، واستبدلت بمبدأ: عدم الصلاحية، والبقاء للفراغ، ولكل من ولد من غير ولادة ....، ليسري النشاط المجهول سريان الجذام في الجسد ...، ففي ذات ليل، آفاق الفجر، كأن لا احد سكن المجرة، مع ان ترليونات الصفحات دوّنت وهي تستقصي ما توارى في مفاصلها الخفية، ليشكل أعظم فراغ باذخ مكلل بالمجد والفخار. على ان خطته بالحد من الاختلافات لم تفض إلى المجتمع المتوازن حسب، بل إلى مغامرة ما بعد الانصهار، والتلاشي، والمحو ...، فبعد ان وحّد الأطياف كافة وعرى محركاتها الدفينة أعلن عن تشريع الدستور القائم على ان الدينامية أصلها ثابت ومحيطها أكثر ثباتا ً من كل متحرك، ومن كل ما هو على قيد الزوال، فأعاد للجذر وثباته لتتحكم بالفروع، دافعا ً بها لإنتاج سلالات لانهائية من التصدعات، والمباغتات، والصدمات. فالتهم الجد واستولى على الآخر المضاء بالظلمات، فعاد زمن ما قبل الزراعة الى البراري، بعد ان تحولت ملكية الناس إلى اللا ملكية، والى الشرود المطلق، فظهرت شفافية: اذبح أولا ً، ليمتد شعار العبور نحو الأبدية حقبة سفهت أصول شجرتنا وفروعها، وسخفت ما بينهما، فتم تطهيرها من الطيور في الأعلى ومن الثعابين في الأسفل، بعد طرد الأشباح من الوسط، حتى صار الثعلب يتبول على الأسد، وصار الغراب سيدا ً على الصقور والنسور، وعاد الأدنى يتقدم على الجميع. لكن الهرم لم يتهدم، ولا الشجرة تحولت إلى غبار، كما كلفت وسائل التمويه متلاعبة بتفكيك الشفرات وتشفيرها بما بعد عصر الفضائل، والرذائل، فقد جمّعت حفيدته الفتاه البلورية لغزها بسحر الوردة، وليس بقانون: السلخ والبتر والموت بالتخمة والرفاهية ...، لتستمد عزمها وعزيمتها بإعادة الحياة لكل من فقدها، فتم التحكم بالعدد، والأنواع، والعقول، والعواطف، فاختفت مصانع الأسلحة، ومراكز المخبرين، وأوكار البوليس، ومتاحف سفاكي المال العام، كما اختفت أجهزة الرقابة، وأعمال الأقمار، والرصد الأبعد لكل شاردة وواردة تمر بذهن احد، ذكرا ً أو مخنثا ً، أنثى أو من لا جنس له، فصار الكوكب قرية صغيرة تعمل بالحاسوب الذاتي الدافع، فلا سلطة تعلو على سلطته، لأنها مكثت خارج نطاق المراقبة، وأجهزة المشاهدة، والإحصاء، فالعقول كافة تحولت إلى ومضات ناعمة ذات موجات اقصر من أي قياس يمنحها مسافة للقياس، يشرف عليها المركز، مثلما تمتلك العقول قدراتها في اتخاذ القرارات الوحيدة القادرة على ردم الفجوات، والتشويشات. فكل حدث غدا معلنا ً قبل وقوعه بساعة من الزمن، ثم بثلاث دقائق بعد إجراء تحسينات لذاتية الذاتي، فكان عصر: الوردة أولا ً...، قد فتح مغاليق جرثومة الومضة البكر بوصفها بنية قائمة على الافتراس، بشعارها المندرس: اذبح حتى تصعد روحك إلى الحضيض! لأنه عدل التوازن ما بين قبل وما بين بعد ...، فالزمن تحول إلى سلسلة لا أسبقية لأحد فيها على احد إلا وقد سمح لقواه بالعمل كما تعمل الومضات الكونية، وليس كما عملت خلايا الدهر الوحشي، وأنظمة الاستبداد، والأسواق الحرة، والشفافيات البيضاء، أو كما عملت أزمنة العشوائيات الملغزة بالمواعظ أو بأناشيد الغربان . فتم تدمير خلايا الوهن، والعدوان، والعلل، وضعف الذاكرة، ليسود عصر ما بعد ضعف المناعة، وهشاشة المشاعر. فالعاصفة تحولت إلى شجرة ذات أبعاد تجدد أبعادها بما تمتلك من إرادات كامنة، فتم استثمار مادة الظلام، وتحويلها إلى طاقة صاغت من كوكبنا علامة نادرة بين ترليونات العلامات الأقل إضاءة، وهو ما كوّن بيئة ايكولوجية شاملة لعودة عمل خلايا التوتر وعدم الاستقرار، فكلفت العلماء والخبراء والأساتذة بإجراء مراقبة ذاتية مركزية لا استثناءات فيها لأحد على آخر إلا بالمعنى على إضاءة الفراغات وتدشين المسرات الكامنة. فالكتمان ليس في ما يتم كتمانه، أو إعلانه، بل في المجال الذي يذهب القفل فيه ابعد من مفتاحه، والظلام ابعد من فجره، والغبار ابعد من أصله، وهكذا تكللت دعوتها بإقامة أعظم محرقة في المجرات، طالت كل من يمتلك نوايا للعودة بالحاضر إلى أيام ما قبل "الوردة أولا ً" ، محرقة لم تحرق الكيان بل الجزء الأقل إضاءة فيه، انطلاقا ً من شعار جدها الأكبر: ليس المهم نجاح العملية بموت المريض بل بديمومة المريض بتجاوز مفهوم موته، والموت تماما ًً، فساد عصر: عالج روحك بروحك، ودع: المزرعة تزدهر بنظام لا كاتم ولا مكتوم، وهو نظام: أسرع كأنك لم تتحرك، وتحرك كأنك اجتزت المسافات كلها، فلا طبقات، ولا ألوان، ولا أطياف، ولا أشباح، إلا وراح كل منها يعمل على مفهوم أسبقية الآخر على ظله، وأسبقية الظل على الأثر، والأثر على الغائب. فبعد ان روضت جرثومة الأنا العدوانية ظهر النوع المكون من الأنواع كافة، فالتراب لا أصل له، وكل أصل بعد ذلك يذهب ابعد من التراب، على انه ليس الأرض، ولا عناصرها إلا بحدود المكان وقد امسك بدينامية انه لم يعد مكانا ً، ولا امتحانا ً، ولا ورطة، ولا منفى ....، فهو الذاكرة لا تستقر عند مفازة سفر بل هي الذاكرة بتواصلها مع الكل الأبدي، ممتدا ً ابعد من اللا حدود، واللا حافات. وهو الزمن الذي لم تعد فيه ثمة جسور أو أسوار أو عقبات أو عتبات أو قلاع، فالمواطن لم يعد يمتلك كي يعمل وفق، اغتصب، استحوذ...، وفق أعراف الملكية المندرسة، بل صار هو ذاته لا ملكية قائمة على دحض كل عدوان واغتصاب، فصار الناس ينتقلون من الموت إلى ما بعده، إن امنوا الموت، وان ودوا فهم محض أجزاء من الذات التي ولا وجود لبصر يبصر بها، أو يعرفها، فيتمثلها مثلما تتمثله، لا آثام ولا أساطير، لا أبواب توصد على الأبواب، ولا بغضاء مشفرة بالتضرعات، والشفاعة، بل حريات عملها تحرير ما لم يتحرر حتى اكتملت الشجرة بقانون إنها قيد الاكتمال...، وإلا فإنها ستتقاطع مع شعارها: الوردة أولا ً...، فغابت أحزان من حزنوا، وتلاشت حسرات من كظموا، فلا تجد إلا من عبر إلى الرحب، وامتد ابعد من النبش في الضيق، والثأر، وغسل الآثام، فلا احد يوسوس في وسواس احد، ولا احد يغوي اغواءات آخر، لأن جدتنا الوردة سمحت للجذور ان تحمل ثمار البراعم، وسمحت للأوراق ان تغزل كتاب الغزل، فالكل في عيد، حتى صار كل لون هو الجد لها، حتى لو كان هو من سيأخذ الحكم بعدها، من الورثة الأحفاد، ومن أحفاد أحفادهم، فالحياة ذاتها لا تعرف إلا بما يكّون عناصرها، فالمركز هو المحيط، وأسفل الهرم أعلاه، وشماله يمينه...، وما لم يحدث هو ما حدث، وما حدث هو تحديدا ً تسري فيه شفافية الطلق بلا ولادة، والولادة بلا وجع ...، فهو يجتاز المسافة كأنه هو المسافة تمتد ابعد من نهايتها...، فلا نهايات بعد ان اغتسل الكل بتفكيك لغز العطر، وما كتم في جذر الوردة...، فالحواس لا تعمل إلا بوصفها ومضات عقلية، والعقول ما هي إلا الحواس تامة الانعتاق، لا ذنب يفضي بوجود المذنب، ولا فعل للاسم، لا غزاة ولا متمردين، لا ظلمات ولا فراغات، لا عبيد ولا أحرار، لا نساء يكدن الكيد ولا مكيدة، لا فرية ولا مفتري، لا دولة ولا خلافة، لا دكتاتورية ولا ديمقراطية، فالكل مسؤول عن الكل والكل لا يتهدم إلا بغياب الكل، حتى غاب الكل، فبزغ اللا مسمى باستحضار كل ذات لم ترتو من الندى، ومن الضوء، فغاب الجحيم وغابت مواعظ الواعظين، غاب الملقن وغاب التلقين، لا تسمع فيها ضجة ولا ثمة من يدمدم، لا وشوشات ولا فبركات، لا تمويهات ولا وعود، لا مخفيات ولا أقنعة...، فجدتي، في عيد ميلادها المتجدد لحظة اثر لحظة ذابت في كل ذات فيها، شجرة المجرات ببراعمها، وفي أوراقها، وراحت تتموج موجاتها مدى ابعد من محيطاتها الافتراضية، والفضائية، لا جذر ينتهي عنده جذرها، وثمراتها يانعات فاقت وصف كل من أبصر بمرايا البصائر وهي تجذبك كأنك تلحق بها فلا تجدها إلا وقد أخذتك معها حيث النوايا بمغزلها تستحدث غزلا ً فلا تعرف هل عرفت ولا تعرف كم عليك ان تعرف كي تمتد المعرفة بك معها في المعارف...، فالدنيا عيد، والعيد دنيا.
ـ حقا ً...، لا حاجة لنا بسفك دمك، شرط ان تعلن توبتك، وتعلن براءتك من كل براءة، وتعلن بيعة ما بعد البيعة!
ـ حمار بن حمار، ثور بن ثور، بعير بن بعير، كبش بن كبش...، إن لم أعلن عن توبتي...، أما البيعة، أيها السادة، فهذا ما ييسر لي ان أضع خاتمة لهذا التاريخ!

11/8/2015