بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الأربعاء، 16 ديسمبر 2015

إرهاب في مالي(قصة سُريالية)-د. غالب المسعودي

إرهاب في مالي(قصة سُريالية)
د. غالب المسعودي
ارسلت لي زوجتي فلم قصير من اليوتيوب عن طريقة سريعة لتقشير الرمان, تعرفني احب عصير الرمان, خلال متابعتي للفلم وجدته طويلا وانا اقشر خلال وقت المتابعة ,تبعتها بموسيقى هادئة اسلمتني الى نوم هادئ, غطست عموديا في حلمي واجهتني في القاع صخرة , ملساء تضيء, عليها علامات تحكم, كأنها شاشة لمس ,كانت قريبة من مقدمة راسي لا مست جبيني بخفة, انقلبت  الاشارات والصور الى صفحة فيس بوك ,الخانة الاخبارية, المحادثات مستمرة رغم تعثر الهدنة, احد المسؤولين يصل, زيارة مفاجئة ,المليشيات لا تلتزم بالهدنة, تحاصر, مواجهات حادة ,لكن المحلل العسكري قال انها هي من مستلزمات تعميق الحوار, قبل ان اغطس الى حلمي شبعت جدا من التحاليل الطبية, لذا فضلت ان اتابع قناتي المفضلة, على قمر قنوات الدواب, لكن للأسف ,كانت الدواب تنقل اسلحة ,يزودهم بها اهل الخير, مررت يدي على الخيار الثاني, لعلي اعثر قناة موسيقية ,الحقيقة عثرت على عدة قنوات, اكثرها حزينة ,بينها  اروع موسيقى هادئة وحزينة , انا متلبس بالحزن, اذن لأبحث عن موسيقى تساعدني على الطفو فوق الماء, نتائج البحث تشير الى موسيقى رسالة من تحت الماء ,حاولت ان اشغل مكبر الصوت, وصلني المقطع انك تغرق.... تغرق.........! اقفلت تلفازي في القاع ,هل ادخن...؟ قالت لي سيكاري انا مشتعلة فوق الماء, هناك الكثير من المعتقلين مثلك يراقبونني, ان كنت تستطيع العودة الى سطح الماء ستشم اول نفس من مؤخرتي, مؤخرتي الان مهملة المعتقلون كلهم تحت الماء ,منهم وزراء حاليون واخرون سابقون, انها لعبة قذرة ,الكل غطس في المستنقع ,حدد خيارك انا اطفو فوق الماء, حتى وان كان آسنا ....؟لا اعرف اتجاهي حتى ان عفن الماء تخلى عني..........! بائع الاسماك يجر عربته يبيع اسماكا ميتة, عربات الباعة المتجولين تحاصر اجزائي بأصوات مكبرات , يسيرون بلا هداية ,جائعون انفاسهم تغرق في مصيبتهم ,كلهم عاطلون عن العمل, هم متفقون على انهم عاطلون وجائعون ,لكنهم لا يختلفون في مذاق السوشي الذي اذهلهم بمذاقه المر ,يتطلعون الى مشاريع مشتركة مثل تعزيز السياحة الفضائية في العام المقبل داخل جزر مالي, ومحاربة الارهاب في المريخ, فك الارتباط بين عيد جلوس الملك والنظام الاشتراكي , وذلك بإعلان تحالف جديد يحوي على مركز ادارة واستعلام متطور, بين هذه الفوضى حزمت امري  وامتعتي ,هناك خط احمر اجلته الى القصة القادمة, علي ان ادافع عن الشرعية , صرخ الحاضرون رافعين ايديهم بعلامة نقطة نظام, نحن لا نسمح بتشويه القيم الاسلامية في هذا الجو المترب, غطست الى صخرتي الالكترونية وجدتها منفتحة على الحوار, المذيعة وجهها منقسم الى نصفين ,الاسفل عليه ابتسامة الموناليزا, الاعلى علية غضب درا كيولا ,علامة مغص كتابية بينهما ,حاولت ان اقلب القنوات ,لم افلح الصورة نفسها, صوت المخرج بين الكواليس عال جدا, ذيعي الخبر, انك تستمرين في المعاندة, تؤشر على جزئها الوسطي, اضطر المخرج ان يذيع الخبر تحت فقرة عاجل, عملية ارهابية في مالي, يبدو انها كانت تعاني من الام  تؤثر على جزئها الاسفل ,ترددت كثيرا في لفظ اسمه بالكلمات الدارجة, عاقبها المخرج , كما عاقبتها الطبيعة, كانت تعتقد ان حملها سيستمر كي توقعه بحبائلها, لذا كان وجهها ينتصف التعبير ,فرقعات فقاعات هوائية طفوت على حلمي وانا اعاني من مشكلة الارهاب في مالي.

قصة قصيرة الثعلب في المغارة- عادل كامل

قصة قصيرة

الثعلب في المغارة











"
أنت تتكلم، إذن أنت تحاول أن تقول غير ما تقول، أن تقول غير نفسك، غير الأشياء التي تتحدث عنها."
عبد الله القصيمي


عادل كامل
ـ أنا لا أتحدث عن اختلافات بيني وبينك!
   وشرد ذهنه، للحظات، متابعا ً:
ـ بل بيني وبيني...، فانا لست أنا الذي تعرفه! حتى إنني لم اعد اعرف من أكون...، بل وحتى لا أريد ان امتلك تصوّرا ً لأكون عليه.
    توارى الثعلب في المغارة، وقد أغلق بابها، بعد ان طلب من مساعديه، وحرسه الخاص، محو كل اثر دال عليها.
  كانت المغارة مستطيلة، مثل قفص، مظلمة، وباردة، وقد وجد لذّة بسبب نعومة التراب، ممتزجة بالصمت.
ـ فأنا لا أشبه نفسي...
    فلم تكن ثمة مرآة، أو ضوء، أو صدى:
ـ اخبرني ـ أيها التراب ـ من أكون...؟
بشرود سمع من يقول له:
ـ أنت هو أنت!
أجاب ساخرا ً:
ـ اعرف أنا هو أنا، مثلما اعرف: أنا لست ـ هو ـ أنا...، فهل تغويني بلعبة لا يسترها قناع...؟
ـ آ ....، أصبحت تفكر، أيها الثعلب، يا سعادة المدير، بعد سنوات طويلة أمضيتها تصول وتجول...، تأمر وتنهي، تعاقب وتعفو، تنذر...و ..
ـ أفكر؟
   ودار بخلده انه ربما يكون قد هرم، أو جنّ، أو أصيب بالداء الذي لم يسلم منه احد، لا النمل ولا الحشرات، لا الفئران ولا القرود، لا الحجر ولا الشجر!
ـ أو بالأحرى لا معنى لوجودي من غير وجودهم!
سمع صداه، فأجاب:
ـ لكن ما الذي جنيته منهم، وما الذي حصلت عليه، سوى الشقاء، والأذى، والألم؟
ـ ها، ها، من أشقى من، ومن أذى من...؟
   راح يحدق في العتمة، ويحفر فيها:
ـ ماذا غير ذلك، فانا أيضا ً كنت أدافع عن وجودي.
ـ ولكنهم كانوا يستغيثون، ويطلبون الرحمة، فلم تترك ظلما ً لم توزعه بعدل عليهم، تارة، ولم تترك عدلا ً لم تسلبه منهم تارة أخرى. كانوا يمكرون فكنت تفرط بمكرك حتى أصبح أعظمهم مكرا ً.
أفاق:
ـ هنا، في هذه المغارة، أنا ـ هو ـ من طلب هذه المحاكمة!
   لم يجد ردا ً. ولا صدى. فراح يتلمس التراب بأصابع مرتجفة، كان باردا ً، ومازال ناعما ً، تاركا ً رأسه ينحني إلى الأسفل، بعد ان فقد قواه:
   وسأل نفسه بشرود:
ـ والآن ماذا افعل لو خرجت...؟ هل ساجد الصراصير تحولت إلى بلابل، أو الضباع غيرت طبائعها، أو الذئاب تخلت عن أنيابها، أو الصقور تنازلت عن مخالبها، أو العقارب تحولت إلى حمامات..، وأنا فشلت في ترويض ثور هائج، أو إخماد غضب خنزير..؟
ـ لم يعد لوجودك، معنا، معنى...، يا سيدي!
ـ سيدك؟ وقد أصبحت بلا حول ولا قوة، فمن أنت...؟
   لم يسمع ردا ً.
ـ فانا هو السبب إذا ً...؟ بالأحرى السبب هو أنا. فانا لست السبب حسب، لأن الأسباب هي التي صنعتني، وكانت سابقة لوجودي، حتى ان الجميع قالوا لي: لا تنظر إلى الخلف!
   شم رائحة الببغاء ـ مستشارته ـ فرفع رأسه:
ـ أنا لم اطلب منك الحضور.
ـ هذا هو عطري...، كم مرة تغزلت به، وقلت لي: طالما أسكرني!
ـ اعرف...، ولكني طلبت منهم ان أدفن كما يُدفن الموتى...، فلماذا هذا العطر؟
ـ هذا هو جزاء أعمالك، سيدي.
   ارتج جسده: من يهزأ بي، حتى إني لا امتلك إلا ان أرى الظلمات، وقد طوقتني من الجهات كلها.
   وسأل نفسه:
ـ الم ْ اطلب منهم حرقي، وذر رمادي فوق أجنحة الحديقة وزرائبها..؟
ـ لا ...، كنت تخاف من النار، وتخاف من الريح، وتخاف من الماء.
قال مذعورا ً:
ـ  حتى ان خزائني امتلأت بالخوف....، فصرت أخاف منها. أخاف من المجد، وأخاف من السلطة، وأخاف من النعيم، وأخاف من الخلود..، وأخيرا ً أصبحت أخاف من الخوف! فالأسد قال لي: يا سيدي، عندما أشيخ تبول الفئران علي ّ...، والفيل قال ان النمل سيلهو به عند الهرم. أما أنا فقلت: لا تدع أحدا ً يراك والحشرات تلهو بجسدك، والذباب يطن فوق رأسك.
   أغلق فمه، لبرهة، مصغيا ً لذبذبات كانت تأتيه عبر ذرات التراب:
ـ على من ينقلبون ...، وأنا بنفسي تخليت عن نفسي! أنا كرهتها، ليس من شدة إعجابي بها، بل بغضا ً لها.
سمع من يهمس في آذنه:
ـ لعبادتك لها، حتى صارت وثنك،  تجهل ان كانت هي أنت، أم أنت صرت خالدا ً، أيها الدكتاتور الطاغية!
فسأل نفسه بخوف:
ـ أكنت طاغية، أكنت دكتاتورا ً...؟
  لم يجد ردا ً، ولا صدى:
ـ إذا كان الكل على صواب، إذا ً  فالكل على وهم!
   ودار بخلده: لا معنى للتراجع، فانا اخترت ان اذهب إلى الموت بنفسي.
ورفع صوته:
ـ الم ْ اطلب منك ذلك؟
قال الموت:
ـ لا!
ـ ماذا قلت، أتنكر، أم تناور، أم تتسلى بمصيري؟
ـ ما ـ هو ـ برهانك انك تخليت عن السلطة، وعن المجد؟
ـ الم ْ اطلب من حرسي الخاص، وفرقي السرية، والتنظيم اللامرئي، صناعة هذه المغارة، هذا المدفن،  في هذا الموقع المجهول...، الم ْ اطلب منهم ان لا يعلنوا ذلك...، لأحد، وان أتوارى، بهدوء، بشفافية، والى الأبد؟
ـ من ْ من تسخر، وأنا اعرف ان الذي يتكلم فيك، ليس هو أنت، الذي تتخيل انك تصغي إليه...، لأنك مهما عملت لن تحصل على الذي ليس هو لك !
ـ طلبت الموت؟
ـ لأنك لم تطلب إلا ذاتك!
ـ وهل باستطاعتي ان أتخلى عنها، كي أكون الذي ابحث عنه...؟
ـ وهل بحثت حقا ً عن الذي لم تجده...، أم انك وجدت الذي عملت كي لا تفقده...؟
ـ ها أنا ..، لا اطلب إلا الموت.
ـ لن تجده.
ـ ها أنا حصلت عليه!
ـ لكنك لم تمت بعد، وإن كنت بعداد الموت، بل بعداد من لم يولد بعد!
ـ اخبرني ...، الم تكن الحياة هي أعلى درجات الموت، وإن الموت هو ذروتها؟ الم اقل ذات مرة ان الصمت هو أعلى درجات العويل، وان العبودية ما هي إلا ذروة الانعتاق، والحرية؟
ـ ها...، كأنك لا تريد ان تخسر هزائمك أيها الثعلب العنيد؟
ـ سأسألك، ببساطة، ماذا تريد مني؟
    لم يجد صدى أو ردا ً.
ـ حتى الموت الذي هربت منه، حتى الموت الذي ذهبت بنفسي إليه...، حتى هذا الموت له طبائعنا، وصار مناورا ً، وماكرا ً، كهذا الشعب!
  عاد يسمع:
ـ انهض.
ـ لا اقدر ان افعل.
ـ فانا سأدلك على الدرب، ألا ترغب أن تذهب إلى الفردوس؟
ـ لا! من قال لك أني كنت ابحث عن جزاء لا استحقه، وهل يجزى  مثلي ـ من غير عمل ـ وهو الذي خلق من وحل هذه المستنقعات...؟
ـ لا تجدف...، ألا تخاف...، فكل كلمة ستشهد عليك، وكل فاصل صمت ما هو إلا وزر، أم ترغب ان اخرج إلى الحديقة...، واطلب من شعبك ان يراك، ويرى ما أنت عليه؟
ـ لا، لا، افعل كل ما ترغب ان تفعله، عدا ان يراني شعبي وأنا في المغارة!
   ماذا قلت؟ دار بخلده، انه ـ ربما ـ فقد المنطق، وغدا يرى نهايته سابقة على يوم ولدته أمه في البرية، في يوم بارد، وتركته وحيدا ً في الدغل! لحظتها رأى الشمس ترسل أشعتها ممتزجة بالغبار، فسمع دويا ً، وضجيجا ً، واستنشق دخانا ً، حتى كاد يختنق، فحملته أمه إلى المغارة، وكانت ضيقة، لا تتسع إلا له، بعد ان لاذ الجميع بالبحث عن ارض آمنة.
أفاق:
ـ ثم وجدت جسدي داخل قفص، فماذا افعل...، سألت نفسي، فأجابت: كن مثل أسلافك. ها ..ها، فذهبت وتدربت عندهم، ليل نهار، حتى انتهت رحلتي...، إلى الحديقة، ثم ها أنا في المغارة. فطلبت الراحة، فاستعصت علي ّ، أبت، تكبرت، تجبرت، كي أذل، ثم جاء الموت ليقودني إلى المكان الذي هربت منه.
   هامسا ً راح يخاطب التراب:
ـ ماذا لو أطعت الموت...، وذهبت معه، فقد لا أموت؟
ـ ها، ها، ها أنت، أيها القائد، استعدت رشدك، وعرفت من هو أنت!
ـ ومن أنا...؟
ـ من غير جهد، ومن غير كد، ومن غير شقاء، ومن غير عمل.....، فمن تكون؟
ـ لا تسكت...، بح لي بالسر.
ـ وأبوح لك بالسر من غير ان انتزعه منك!
ـ وماذا يبقى لدي ّ...؟
ـ مجدك الذي حصلت عليه.
ـ لكني تخليت عنه.
ـ تقصد ...، هو الذي تخلى عنك؟
ـ لا فارق....، كبير بينهما، إن تخلى عني أو تخليت عنه، فانا أصبحت مديرا ً أوحدا ً، وزعيما ً...
ـ للسيرك؟
ـ نعم...، فقد حولت الأسد إلى لاعب امهر على الحبال، النمر صار يرقص كالنعامة، الدب يلعب كما تلعب القرود، وأنا هو من أنهى عصر الفتنة، وأوقف سفك الدماء، وأنا هو من اصدر قرارات المصاهرة، والمؤانسة، والمصالحة، فاستحدثت النوع التاسع، بعد تعديل المراحل السابقة، وإعادة برمجتها، برؤية كلية الاتساع، والمرونة، فصار الحمل يتنزه مع ابن أوى، والغزلان ترعى مع الذئاب، وصارت العصافير تمشي مع الفيلة، والضفادع، والماعز، والجاموس...، أشقاء بالدم، والأصل، والاستحداث...، الم ْ الغ ْ أجهزة التنصت، والمراقبة، ورفت الحواجز والأسوار، ومحوت سلطة المراقب فوق المراقبين، وحرمت التنابذ بالألقاب، والإشارات، فالجنس التاسع يستمد نشوته ولغزه من الفضاءات الكونية، لا يموت ولا يولد، ونقيت المدونات من الشوائب، ومن الأوساخ، وطهرت الحدائق من القاذورات، والعلل، والمجاعات، والخوف، هل تغفل إنني أنا هو من غسل الأسفار من الأصوات، وصارت الأقفاص فائضة، فتم هدمها، بعد ان صهرنا كل عتيق، فاعلنا العيد السرمدي الذي لا يعقبه هلاك، وحرمّنا آثام البغضاء...، الم ْ اجتث الكراهية، وأنظف جينات فقدان الهوية من أوحالها، والهرم من قاعدته، وسمحت للخلايا ان تقاوم ترهلها، وبلادتها، وقلت: من يظلم من...، بعد ان عانقت البحار الصحارى، والسماء بنجومها الأرض، وصار الليل يتجول طليقا ً مع النهار، والجور مع العدل، وصارت الظلمات دليلا ً للعميان في عرس الأنوار، والمباهج...
قال الموت بثقة:
ـ الآن بات من المستحيل ان أدلك على المكان الذي لا منفذ للخروج منه!
ـ آ ....، أنا أيضا ًطالما طربت للمحنة...؛ فتارة تبدو بلا حدود، وتارة تنغلق علينا، كما تفعل الرحمة بنا وهي تمد بعمرنا لنرى كم الظلمات شفافة، وكم الجور جميل!
ـ أصبحت تتحدث كأنك مازلت مديرا ً..؟
   ترك رأسه يتمرغ في وحل المغارة، فالجدران اتسعت، مستنشقا ً رائحة عطنة، رائحة جثث متفسخة، فدار رأسه، وفشل في رفعه، فتركه يغوص، ويغوص، ويغوص.
ـ كفى ...، كفى، فإذا كان قصدك ان تعاقبني..، فلا احد غيري المعاقب...، وهذا لا يليق بك ان تفعله، فانا عندما كنت أعاقب، كنت أنفذ العدالة، ولكن إذا كنت تريد لمعاقبتك لي ان يكون لها معنى...، فلا تدع أحدا ً يرى ما تفعله بي...، لأنها بلا أسباب، ولا مغزى لنتائجها! والآن بدأ الهواء يشح، وينفد، فلا غاية من معاقبتك لي إلا ان تشبع نزعتك بالارتواء من السراب! فمن أنا ـ يا سيدي ـ كي تذلني، ولا تشبع من إذلالي؟  أم ان لغز اللعبة يكمل حلقاتها كي تمتد...، كي تسأل الفريسة مفترسها: ماذا فعلت؟ فيقول الصياد: اذهبي وابحثي عن الذي أمرني...؟
   حدق في الظلام، فراى ما لا يحصى من الذرات مضاءة تحيط به من الجهات كافة: الجهات التي حكمها:
ـ كأنني ولدت ...، في هذه المغارة، في هذه الحديقة، توا ً! كي أشقى واشقي، أذل وأذل، أعاقب وأعاقب، وفي الأخير لا انتظر إلا من يحملني إلى العدم!
وأضاف يخاطب لا احد، بعد ان بدأ بالغياب:  
ـ  لم اعد اسمع صوتي..، ولا صوتي له رنين داخل رأسي، وراسي تحول إلى ومضات، ذرات، والى أجزاء متناثرة، فإذا لم أمت ـ الآن ـ  بهدوء، فلتذهب الحديقة، ومن فيها، إلى الجحيم.
4/12/2015


عن مهنة الكتابة/ إيزابيل الليندي

*ترجمة: توفيق البوركي

خاص ثقافات


الكتابة بالنّسبة لي محاولة يائسة لأحفظ الذّاكرة من النّسيان، فأنا سأظّل شريدة إلى الأبد. وعلى أرصفة الطّرق تبقى الذّكريات مثل قطع ملابسي الممزّقة. بمقدار ما أمشي تنفكّ عنّي جذوري الأصليّة. فأنا أكتب حتّى لا أندحر أمام النّسيان ولأُغذّي هذه الجذور المتعريّة وقد أضحت الآن مكشوفة للهواء.
-1-
مهنتي مهنة صبر وصمت ووحدة، فأحفادي الذين ينظرون إليّ ولساعات لا تنتهي وأنا أمام الحاسوب يعتقدون أنّني في عقاب. لِم أقوم بذلك؟ لا أدري… إنها وظيفة عضوية مثل النّوم والأمومة. أن أحكي وأحكي… إنّه الشّيء الوحيد الذي أريد القيام به. عليّ أن أُبدع قليلاً، لأنّ الحياة أروع من أي خيال سخيف تفرزه مخيّلتي. في أفضل الحالات فالكتابة تحاول أن تكون صوت من لا صوت له أو أن تكون صوت الذين تم إسكاتهم، لكن عندما أقوم بذلك فأنا لا أُمثّل أحداً ولا أقدّم رسالة ولا أفسّر أسرار الكون، بكلّ بساطة أحاول أن أحكي أحاديث ذات صبغة خاصّة، سعياً منّي ألاّ أنسى المرح والحنان، العنصرين الضّروريين لكي أمنح الحياة للشّخصيات.
أنا محظوظة لأنّني أنتمي لأسرة غريبة الأطوار، فكثير من المجانين هم من يشكِّلون سلالتنا الطّريفة. هؤلاء المجانين أوحوا إليّ كتابة جلّ رواياتي تقريباً، روايات استغنيت فيها عن الخيال، لأنّ في وُجودهم لن أحتاج إليه أبداً، ففيهم كلّ مكوّنات الواقعيّة السّحرية.

وُلدت كُتبي نتيجة عاطفة دفينة لازمتني زمناً طويلاً. فالحنين لتشيلي دفعني إلى كتابة رواية "منزل الأرواح" التي أردت من خلالها، وأنا في المنفى، أن أعيد بناء الوطن الذي أفسده انقلاب 1973، أن أُحيي موتاه وأجمع مُشتّتِيه. كنت في كاراكاس مثل غيري من آلاف المهاجرين واللاّجئين والمنفيّين، حين توصّلت في 8 يناير من العام 1981 من العاصمة سانتياغو بنبأ حزين أُخبِرت فيه أن جدّي، ذلك الشّيخ الرّائع الذي سيكمل حينذاك عامه المائة، يحتضر. 

في تلك اللّيلة وضعت الآلة الكاتبة في المطبخ وبدأت كتابة رسالة إلى ذلك الجدّ الأسطوري. كانت رسالة روحية، رغم أنّه لن يقرأها أبداً. كتبت جملتها الأولى وأنا في حالة غيبوبة، وقبل أن أستعيد قدرتي على الإدراك كنت قد كتبت: وصل "برّاباس" إلى الأسرة عبر البحر. من هو برّاباس وما علاقته برسالة الوداع التي أكتبها لجدّي؟ رغم أنّني لم أعرف لماذا، ولكن وبثقة الجاهل، فقد تابعت الكتابة بلا توقّف ولا راحة، في كل ليلة ودون أن أحسّ بأنّني أبدل مجهوداً كبيراً، كما لو أنّ هناك أصواتاً خفيّة تهمس لي بالقصّة؛ وبانتهاء العام تجمّعت لديّ 500 صفحة فوق طاولة المطبخ. وهكذا وُلِدت رواية "منزل الأرواح"، فمجيء برّاباس عبر البحر قد غيّر قدري، ولا شيء عاد كما كان بعد أن كتبت تلك الجملة. هذه الرّواية دفعت بي إلى عالم الأدب وبلا رجعة. الإحساس العميق بالغضب والسّخط على الدّيكتاتوريات التّي خرّبت، ودمّرت قارّتنا في عقد السّبعينيات الرّهيب كانت وراء كتابة روايتي الثّانية: "عن الحب والظّلال". 

في تلك الصّفحات أردت أن أجد المفقودين وأدفن بقاياهم بكرامة وأبكي لأجلهم. ركّزت الرّواية، التي أضفيت عليها صبغة الخبر الصحفي، على الجريمة السّياسية. خلال الانقلاب سنة 1973، كان الآلاف من الأشخاص قد ماتوا أو اختفوا في الشيلي، بينهم خمس عشرة مزارعاً من بلدة لُونكين على بعد 50 كيلومتراً عن العاصمة سانتياغو. 

وقد تم تحويل الرّوايتين معاً إلى فيلمين سينمائيين، كانا بحقّ أفضل بكثير مما كتبت.
أما روايتي الثّالثة "إيبا لونا" ومجموعتي القصصية "حكايا إيبا لونا"، فكانا كتابين نسائيين جعلاني متأكدة أن لا أحد كان سيُطيقهما لولا الحسّ الشهواني والساخر للكاريبي. أما تأثير فنزويلا، ذلك البلد الأخضر والسعيد حيث عشت طيلة ثلاثة عشر عاماً، فقد أنقدهما من أن يكونا مجرد منشورات تحرّرية.

-2-
وُلدْتُ في مجتمع متقشّف، اختلطت فيه جينات المهاجرين القشتاليّين والباسكيّين بدماء الهنود القاتمة، وشدّة وعورة سلاسل جبال الأنديز مع عواصف المحيط الهادي، مما منحنا نحن الشيليين مزاجاً رصيناً وحذراً لكنّه أحياناً يكون فظّاً وخشناً، نأخذ كلّ شيء على محمل الجدّ ولا شيء يُخِيفنا غير احتمال أن نكون مثيرين للضّحك. في فنزويلا تحرّرت من هذا الخوف وغيره من الأوهام، تعلّمت الغناء والرّقص والضّحك من نفسي، فالمرح اعتاد أن يكون سلاحاً فعّالاً. لهذا تطرّقت في رواية "إيبا لونا" و "حكايا إيبا لونا" إلى الحركة النّسائية بشيء من الظّرافة مما أزعج بعض متعصّبات الحرس القديم، فاتّهمنني بالخيانة.
في الأيام الأخيرة، فقد مفهوم المتعصّبة النّسائية اعتباره وقيمته، ورأيت كثيراً من النّساء يتراجعن وهن خائفات عند سماعه. بالله عليكم، لا تحسبوا أنّهن لا يُحببن الرّجال ولا يحلقن سيقانهنّ، فانا أعلن وبكل فخر أني كذلك. منذ أيّام الشّباب استوعبت أوجه الاختلاف والتشابه بين الجنسين وازدواجية المعايير الأخلاقية التي أضرّت بالنّساء كثيراً، كما أني أدركت أن المجتمع الذّكوري هو المُهيمن على ثقافتنا، لقد تحرّيت عن كلّ شيء: التقاليد والأسطورة وثقافة العائلة والدّين والعلم، وكلّ ما يزاوله الرّجال. أعتقد أن الإحساس بالأنوثة هو ما يجعل أغلب النساء في وضع مريح. بالنّسبة لي، فقد استغرقت أربعة عقود لأتقبّل وضعيتي كأنثى، فيما قبل كنت أريد أن أكون رجلا: من فضلكم ليس هذا حقداً فرويدياً. فمن يستطيع أن يحقد على تلك الذّيل الصغير والمُتقلّب الأطوار؟ 
في سن الخامسة والأربعين، كنت قد تطلّقت حديثاً من زوجي الذي تحمّلني بصبر وأناة لأزيد من ربع قرن. وبينما كنت أتجوّل في كاليفورنيا، حدث أن تصادفت مع وليام غوردون، آخر عزاب سان فرانسيسكو الغير المثليّين، هذا الرّجل أضفى سروراً على حياتي وأوحى لي تأليف كتابي الخامس: "الخطة اللاّنهائيّة". بعد صدور الكتاب انتابني الخوف لأنّه لا يحتوي شيئا من الرمزية أو البطولة، كان شبقياً وشهوانياً خالصاً. عندما تعرّفت على وليام كنت أنام وحدي ولوقت طويل، رأيته لأسبوعين أو ثلاثة، فقد سَقطتُ عليه من أعلى مثل إعصار، وقبل أن أصل إليه لأنّه كان متزّوجاً، لم يتبقّ لي إلا الاستيلاء على قصّة حياته لأكتب رواية عن كاليفورنيا.
-3-
في سنة 1991، بالضّبط بعد أن قدّمت في مدريد كتابي "الخطة اللاّنهائيّة"، حدث أن أصيبت ابنتي باولا بالبورفيرّيا ودخلت في غيبوبة. هذا المرض ليس مرضاً قاتلاً، لكن حظّ باولا كان عاثراً. في وحدة العناية المركّزة، وبسبب قلّة الرّعاية، أصيبت ابنتي بجلطة دماغية عنيفة. خمسة أشهر بطيئة مرّت وهي في المستشفى، جعلتني أتقبّل ما قد حدث. أخيراً تسلّمت باولا وهي في حالة غيبوبة نباتية مستمرة، فأخذناها إلى منزلنا بكاليفورنيا حيث سأتعهّدها بالرّعاية مع باقي أفراد العائلة.

ماتت باولا بين ذراعيّ في صبيحة السّادس من كانون الأول عام 1992. كان ذلك أقسى ما تعرّضت إليه في حياتي، بعد رحيلها عمّ المنزل فراغ كبير نغصّ عليّ حياتي. لم افهم لِم لَمْ نمُت سويّة. حينئذ جاءت أمّي ومعها الخلاص ممّا أنا فيه: علينا ألا نتمنّى الموت، لأنّه قادم في جميع الأحوال، فالتحدّي هو الحياة… وضَعتْ على الطاولة، إلى جانب دفاتري الصّفراء، مائة وتسعين رسالة كتبتُها لها خلال ذلك العام، حكيتُ لها فيها، شيئا فشيئا، عن المرض الذي دمّر ابنتي، وقالت لي: إيزابيل، خذي، اقرئي ورتّبي كلّ هذا، لتفهمي أن الموت كان هو الخلاص الوحيد لباولا. قمت بما طلبتْه منّي رويداً رويداً، وجملة جملة، ودمعة دمعة، لقد وُلد كتابٌ آخر والذي سميته: "باولا"؛ لم يكن رواية لكنّه عبارة عن ذكريات عارية، كتبتها من أجل ابنتي كتعويذة لأتغلّب على الموت. انه ليس كتاباً حزيناً، بل احتفال بالحياة وبالقدر البوهيمي لعائلتنا. جدّتي تقول بأنّ الموت غير موجود وأنّنا نموت عندما ينسانا الآخرون. إذن فما دمت أنا أعيش فباولا تعيش معي. أليس هذا هو القصْد من وراء الكتابة؟ أن تقهر النسيان.

-4-
الروايات التي أكتبها لا أحملها في ذهني، وإنّما تنمو في أحشائي ولا أختار مواضيعها وإنّما هي من تختارني، كلّ عملي يكمن في أن أخصّص الوقت الكافي والهدوء ونظاماً للكتابة، لكي تظهر الشّخصيات بشكل تامّ وتتحدث عن نفسها؛ فأنا لا أختلقها، إنّها مخلوقات توجد في بُعْد آخر، وتنتظر فقط من يجلبها إلى عالمنا. وبالتالي فأنا لست سوى أداة، كالمذياع مثلاً، فإذا استطعت أن أضبط التردّد بدقّة، فربما ستظهر هذه الشّخصيات وتحكي لي عن حياتها.

في الثّامن من كانون الثّاني من كلّ عام، عندما أبدا كتاباً جديداً، أُقيم حفلة سرّية لاستحضار أرواح العمل والإلهام، ثم أضع أصابعي على لوحة المفاتيح، وأدع جملة الانطلاق تُكتب لوحدها كما لو أنّني في غيبوبة، تماماً كما حصل مع برّاباس، الذي جاء عبر البحر في رواية "منزل الأرواح". 

ليست لدي خُطّة، ولا أدري ما الذي سيحدث، تلك الجملة هي التي تفتح لي الباب لأتطلّع، وبخجل، إلى عالم آخر. وفي الأشهر المقبلة سأكتشف ذلك العالم كلمة بكلمة. في البداية تكون الشّخصيات غير واضحة المعالم، غير أنها تعلن عن نفسها رويداً رويدً، كلّ فرد بنبرته الخاصّة وسيرة حياته ومزاجه ومهاراته وعظمته، إنّها شخصيات حقيقيّة ومستقلّة، وإذا تدخّلت لاحتوائها والسيطرة عليها فسيكون ذلك غير ذي جدوى؛ فالقصّة تنفتح بتؤدة وأناة، حتى تصل في آخر المطاف إلى كشف مكنوناتها الدّفينة.

ومع ذلك، فهذا لم يحدث بعد وفاة ابنتي، إذ ولا شخصيّة جاءت لتطرق بابي، فاعتقدت أن منبع القصص- والذي كان معينه على ما يبدو لا ينضب - قد جفّ واضمحّل.

مرّت ثلاث سنوات ولم أستطع كتابة قصص خيالية، آنذاك تذكرت بأنني صحفيّة، وإذا ما أُعطي لي موضوع ما مع مهلة زمنية للتقصّي والبحث، فباستطاعتي أن أكتب عن أيِّ شيء كيف ما كان. تسلّمت أحد المواضيع البعيدة كل البعد عن الآلام والأحزان وانتهيت إلى كتابة "أفروديت" وهي ذاكرة للحواسّ. إنها كتاب عن الشّراهة والشّهوانية، عن الطّبخ والحُبّ. هذا الموضوع الذي استلزم التطرّق إليه نوعاً من المزاح والسّخرية، انتزعني من حالة الكآبة والانقباض الذي كنت أعيشهما، فعُدتُ إلى جسدي وإلى الرّغبة في الحياة وكتابة الخيال.
في الثامن من كانون الثاني عام 1998، بدأت رواية "ابنة الحظ"، وكان موضوعها هو الحرّية. فالبطلة الشابة إليزا سومرس، أبحرت في العام 1849 من ميناء مدينة بالباراييسّو باتجاه كاليفورنيا، لاهثة وراء حبيبها الذي غادر منذ شهرين، وبحكم نشأتها الأرستقراطية، فقد أُجْبِرت في كاليفورنيا على استبدال لباسها بآخر رجالي والخروج لغزو عالم ذكوري معتمدة على سلاح الشّجاعة دون غيره. وخلال مسيرتها لسنوات ساعية وراء ذلك الحبيب المنزلق اكتسبت إليزا شيئا ثميناً كما الحبّ: اكتسبت الحرّية.
عندما أنهيت تلك الرواية كتب لي بعض القرّاء بأنهم يودّون معرفة المزيد عن الشّخصيات، فافترضت أن النّهاية المفتوحة التي وضعتها للكتاب لم ترُقْهُم، وهكذا في العام 2000 كتبت رواية "صورة عتيقة"، هذه الرّواية ليست جزءاً ثانياً لسابقتها، لأنها تتيح إمكانية قراءتها بشكل مستقلّ رغم أنها أخذت من الرّواية الأولى بعض الشّخصيات.
تحكي الرواية قصة أُرورا ديل باييّ حفيدة إليزا سومرس، التي وُلدت بالحيّ الصّيني بسان فرانسيسكو، والتي عانت في طفولتها من صدمة فقدت على إثرها ذاكرتها في السّنوات الماضيّة؛ فتبنّتها جدّتها لأبيها حتّى لحظة هجرتها من كاليفورنيا إلى الشيلي على عكس ما قامت به إليزا سومرس.
جرت أحداث الرّواية بداية، في فترة من أهمّ الفترات في تاريخ الشيلي أواخر ثلاثينيات القرن التّاسع عشر، في ذاك الوقت مرّت البلاد بحروب وثورة دموية. أعتقد أنّه حينئذ تمّ إنشاء المجلس الوطني. تيمة هذه الرّواية هي الذّاكرة، التيمة الأساسيّة في حياتي والمتكرّرة في جلّ أعمالي.
في هذا الكتاب أخذت كذلك بعض الشّخصيات من روايتي الأولى "منزل الأرواح"، مُشكّلة بذلك ثلاثية وهي: "ابنة الحظ" و"صورة عتيقة" وأخيرا "منزل الأرواح". 
أحدث كتبي الآن هي "مدينة البهائم"* *، قصّة عن المغامرات وعن السّحر الموجود في الأمازون، أتمنّى هذه المرّة أن يكون قرّائي من الأطفال والشّباب، فبعد أن كتبت روايتين تاريخيّتين طويلتين، فأنا بحاجة لأنْ أستعيد مرح الطّفولة. أليست الكتابة للصغار إذن شيئاً جميلاً؟ لَمْ أتسلّى قطّ بالكتابة كما أفعل الآن، وأتمنّى أنْ تعود شخصيّات "مدينة البهائم" لمرافقتي في كتب ومغامرات أخرى. 

-5-
كلّ الأحداث والأشخاص الذين عرفتهم في حياتي هم مصدر إلهامي الوحيد، لهذا أحاول العيش بشغف وأن أتعرّض لجميع الأهواء دون خوف من الآلام التي لا مناصّ منها، فتجارب اليوم، هي في الغد ذكريات، هي الماضي الذي يُنسّم وجودي. إذا تطلّعت إلى حياة مستقرّة فلن أستطيع الكتابة، وماذا سأكتب؟ ذاكرتي ذاكرة المغامرة والحبّ والألم والفراق والغناء والدّموع. عندما أنظر إلى الخلف يتملّكني انطباع بأنني بطلة ميلودراما، لكن يمكن أن يكون ذلك غير صحيح: فقد خانتني المخيّلة. أمضي عدّة ساعات وأنا وحيدة وصامتة فيتلاشى الواقع من أمامي وأنتهي إلى سماع أصوات ورؤية أشباح وأختلق نفسي بنفسي. أوقعني الزّمن في شراكه ثمّ بدأ دورانه، لقد عشت ما يكفي لأرى العلاقة بين الأحداث والتحقّق من أنّ الدوائر مغلقة، لذا أخطو بحذر شديد، لأنّ ما حدث معي يستوجب أنّ كلّ حركة وكلّ كلمة وكلّ قصد له أهمّية في التشكيل النّهائي للوجود. ربّما فالزّمن لا يمضي، وأننا نحن من يعبُره. ربما يكون الفضاء مليئاً بهيئات من جميع الحقب، كما تقول جدّتي. فكلّ ما حصل وسيحصل يتعايشان معاً في حاضر أبدي. باختصار: أعتقد أن كلّ شيء ممكن.
الآن وقد وصلت إلى سنّ محترمة. فإنني أنظر بابتسامة إلى الماضي وأترقب الموت بفضول كبير، فلا شيء يحرّرك أكثر كالتّقدم في العمر... والألم. ليست لديّ خطط ولا تخوّفات ولا أشعرُ حتّى بالنّدم: فأنا أستطيع أنْ أكتُب بحرّية تامّة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* * رواية "مدينة البهائم" صدرت سنة 2002، وقد ألّفت بعدها الكاتبة حوالي 12 عمل روائي، كان آخرها رواية "العاشق الياباني" التي صدرت أواخر شهر مايو الماضي. (المترجم).

الاثنين، 14 ديسمبر 2015

مؤيد الراوي ... الخلاص المستحيل-عادل كامل

مؤيد الراوي ... الخلاص المستحيل



عادل كامل
  في مطلع سبعينيات القرن الماضي، لم اعد أتذكر من أوشى بمؤيد الراوي، كي يتم حجزه، لفترة قصيرة، بعد أن تدخل عدد من زملائه، وفي مقدمتهم فاضل العزاوي، على إطلاق سراحه، مع إن فاضل العزاوي، والراوي، ذكرا اسم هذا المخبر...، المهم إن الشاعر والرسام شفيق الكمالي ـ وزير الثقافة أو الإعلام ، هو من أسهم في تحريره من الحجز ...، فأقام العزاوي حفلة في بيته احتفاء ً بهذه المناسبة، لكن صديقنا جان دمو، بعد أن ثمل، قال ساخرا ً:
ـ حررتم الرجل من السجن، كي تخرجوه إلى السجن الأكبر!
    لم أر مؤيد الراوي بعد تلك الأمسية، فقد سافر إلى بيروت، ولا أتذكر من اخبرني ـ بعد أشهر قليلة ـ  إن الراوي قال له: لم يبق تروتسكيا ً في بغداد  إلا عادل كامل!
    لم اصدم، بل ذعرت، مع إن اسم تروتسكي لم يكن يشكل تهمة، كما هو اسم ماركس، أو لينين، أو ستالين، أو فهد، أو سلام عادل، فالذين تصفحوا "الثورة المغدورة" و كتاب تروتسكي حول الإرهاب والشيوعية، وبعضا ً من مقالته حول الفن والأدب، قلة قليلة...، ولا اعتقد إن أحدا ً من العاملين في الأجهزة الخاصة كان على معرفة بها..، أو تعنيه مثل هذه المعرفة! وأنا بدوري لم أبد إلا إعجابا ً، بفكرة الثورة الدائمة، المفهوم ـ الذي لم أتخل عنه، مع نفسي في الأقل ـ فلا يمكن أن ينفصل عن قوانين الطبيعة، والمجتمعات، وصيرورة التاريخ...الخ، فمادام الخلود، بوصفه ذروة ـ وهو يعني بالعربية: السكون، الجمود، والموت ـ فان ديمومة الحركة ليست عشوائية، أو محض تراكمات مصادفات، وإنما ـ كي تصير تاريخا ً ـ  فإنها بانتظار من يمنحها شرعية أن تسهم في تقليص المسافة بين حدود المتضادات: الثراء الفاحش إزاء الفقر المدقع، المدينة الريف، الإسراف في العنف إزاء المهادنة، التفاؤل المطلق إزاء اليأس التام، الإفراط في التشدد إزاء الفوضى، الاجتهاد في اختراع الممنوعات والمحرمات، إزاء الانفلات، الإرهاب إزاء المرونة، الغباء إزاء العقل...الخ، إنما كان تروتسكي  قد أغواني ـ بفعل غيفارا ً الذي قدمته هوليود ببذخ فاق وعينا ً لمفهوم الثورة الدائمة ـ كان السبب كي أتذوق مرارة تجربة لم ادعها تمتد أكثر من زمنها....، كي أدرك إننا كنا إزاء صعوبات كان مؤيد الراوي قد اكتوى بجمراتها أيضا ً.
   كان الراوي، نموذجا ً متقدما ً لجماعة أنتجتها كركوك، لأسباب عديدة، ومنها إنها مدينة نسجتها وبنتها تنويعاتها الثقافية، الدينية، القومية، كما كان لنشوء شركات النفط الأثر في منح المدينة مبررات أن تكون رائدة بالانتقال من ظلمات القرون الطويلة إلى ما كان يحدث في مدن العالم من حداثات، وتقدم...
   فظهرت جماعة كركوك، قبل 1964، ولكنها سرعان ما واجهت مصيرها، خاصة بعد نكسة حزيران 1067، بإعلان حضورها المتمرد، والشروع بكسر قيود بلغت ذروتها، فكان لهذه الجماعة أثرها المباشر، في البيئة البغدادية المتعطشة للتجديد، في مجالات الفنون، والشعر، والوعي النقدي قبل ذلك. فالعالم لم يعد قديما ً فحسب، بل كابوسا ً.
   لم تقو الجماعة ـ بأفرادها ـ إلا الرضوخ لصدمات حتمت الاحتماء بعالم آخر، غير بغداد أو كركوك، فتفرقت، تاركة  ما أنجزته للتاريخ.
   إن مؤيد الراوي ـ ومعه زملاءه ـ سكنه الحلم ذاته الذي رواد السومري، رمز العدالة وضحيتها، فصار اسمه "العادل المعاقب" في نص دوّن قبل خمسة آلاف عام، وليعاقب بذنب لم يقترفه.   فالجماعة عملت على نقل الحلم من الرأس، نحو الواقع، والعمل على قهر المستحيلات، كالتجديد والإبداع بوصفهما إرادة واعية لمواكبة العالم الحديث، لكن هذا التوجه سرعان ما اصطدم، بالثوابت، ولكن ليست الاجتماعية، النفسية، والاقتصادية، الرمزية فحسب..الخ، بل بفعل العوامل التي ستبقى  تبرهن إن دور (الطليعة) لن تمتلك إلا قدرها، إزاء مجتمعات لم تتخط  اقتصاد الموجة الأولى، اقتصاد الطبيعة، البرية، وعصر الأصوات.  ولقد كان الراوي، في كتاباته المبكرة، ومنها حول جماعة المجددين، وجواد سليم، والتشكيل العراقي عامة، قد إدراك إن العالم قد تخطى عصر: الأيديولوجيات، المعتقدات، القوميات، وكل ما يفضي بالتعصب إلى العنف، والعنف المقابل، وكل ما يفصل التنمية عن الحرية، والحرية عن بناء عالم أفضل. وهذا ما جعل مصائر زملاء الراوي، تصطدم بالكابوس، وحتم على الجميع ـ إن أرادوا البقاء على قيد الحياة ـ فلا مناص من البحث عن كوكب آخر، أو العثور على عزلة مشرفة*.
     لكن مؤيد الراوي سيرحل، مبكرا ً، حتى لو كان قد بلغ الـ 74، مما يحتم على العدالة ـ وأنا أجد صعوبة حتى بالتعرف على معناها في حدها الأدنى  ـ أن تتخذ من إبداع الراوي وحياته ،شهادة  تناسب انجازه، الفني والجمالي، ليس بوصفة حالة ذاتية، وإنما بوصفة علامة لجيل تم نفيه، وعزله، وتركه يغيب. وهي إشارة لفتح ملفات إن لم تقم بها المؤسسات المعنية بحقوق البشر، أو حتى بحقوق الحيوان، داخل البلد أو خارجه، فان أكثر المواهب رهافة ستلقى المصير ذاته، وكأن بلده صار شبيها ً بأسطورة سيزيف، لا الصخرة توجعت، ولا المعاقب تخلى عن حمل الصخرة!


_______________
ـ تكونت جماعة كركوك من: فاضل العزاوي، سركون بولص، مؤيد الراوي، أنور الغساني، صلاح فائق، جان دمو، جليل القيسي، يوسف الحيدري، الأب يوسف سعيد،
ـ إصداراته الشعرية:

1 ـ نزهة في غواصة ـ 1970  لم تحصل موافقة الرقابة على نشرها.
2 ـ " احتمالات الوضوح " بيروت ـ 1974
3 ـ  ممالك ـ دار الجمل ـ برلين 2010
4 ـ سرد المفرد ـ دار الجمل ـ برلين 2015



* نموذج غير معروف كتبه مؤيد الراوي، يوضح مدى اهتمامه بالرؤية الفنية:

القاعدة التي ينطلق منها المجدد •







مؤيد شكري الراوي

ظل الفنان العراقي قاصراً عن أداء مهمته دون ((جواد)) وخلال سنوات طويلة ألحقت بالفن خاصية التحريك دون أن يكون لهذه الخاصية من وجود غير الجانب الإعلاني وهو يستعرض الخواص الأكثر إثارة الناس، عندما تقوم من خلال سيكولوجية رديئة تقر واقعهم القائم دون تغيير أو تشذيب، وفي الجوهر كانت المحاولات تلك خاضعة لرؤى مقطوعة الجذور عن إدراك طبيعة القطاعات البشرية وأساس علائقها وجوهر تكوينها.
بهذا فقد الفن معنى الإدامة. وكان ينهض على أرضية هشة، سرعان ما زاغ فألقى ظهره للجمهور، ولم يأت الابتعاد من خلال تعميق مفهوم الفن الحقيقي – المفهوم الذي يمتنع عن التشبث بالعواطف الآتية والانفعالات اليومية، بل جاء من خلال القحط الذي أصاب الفن عندما أنسلخ عن الناس.
أن حركة الردة – الفنية – عمدت إلى الركوع أمام جمهور جديد يقيم كل شيء تقييماً تجارياً بحتاً، وهذه الحركة خانت نفس الفنان قبل كل شيء ودفعته على سلالم المهنة لينتهي صانعاً مجرداً.
من هنا فقد الفن العراقي معناه وتحول إلى مجرد أشياء: لون وخط وتركيب سقيم يعرض في الظاهر بضعة ملامح عراقية فجة، أو ينقل طريقة غريبة تلحق بمشاهدات إقليمية دون حرارة.

*   *   *
لقد ولد التجريد تمرداً على الخطوط البائسة للفن وتثبيتاً للمفهوم الذي ينطلق من العصر بكل أبعاد إنسانية وموقفه: الإنسان الباحث عن أزمته في كل حركة وجودية، ومن كل انتماء يحدد عمق الموقف وانفتاحه على الكون.
وعلى خلاف الآخرين، يحاول المجدد أن يطرح نفسه ككائن واحد لصيق، دوماً بالتجربة، دون أن يحدث انفصالاً بين مفهوم وآخر، ويدق إسفيناً بين حياته كفرد وحياته كفنان يعيش رؤى خاصة.
أن الفن العصري قد للفن العراقي وسائل تعبير غنية، ووضعه على أعتاب التمكن من تحليل نظرته إلى الأشياء وإعادة بناءها وفق مفهومه الخاص. فالتمكن بالتكنيك وضبط الشكل ومختلف القضايا الحرفية الأخرى إزاحة عن الأتباع وطرح عنده قاعدة للخلق دون أن ينفصل عن ذاته وعن أرضه وجعل من هذه الخامات البنائية وسيلة لتجسيد الرؤى ومحاولة لخلق فن غير متمسح.
بيد أن المجددين يجمعون قطب الذات والآخرين تحت محور واحد، دون أن تغطى الوصولات الانتهازية لتبرر موقعهم. على خلاف مفاهيم أرستقراطيي الفن الذين عاشوا دوماً في مياه الآخرين.
أن الزمن الحالي يلح جذرياً ليكون الإنسان نفسه، وينظر إلى وسائله بحرية واحترام، بهدمها وبعيد بنائها تحت شروطه الخاصة. لا أحد يعرض على الفنان شرطه القبلي. وليست ثمة وسائل محددة وقسرية تضعه على طريق معين. أن الفنان يبدع داخل ملابساته الخاصة ويبدع عندما يحل أزمته بحرية وبجرأة دون أن يكون ظلاً للآخرين وللقوالب.   )
ملف كامل عن تجربة الفنان على الرابط التالي

http://www.4shared.com/account/home.jsp#dir=EwCcFc6N