بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 4 فبراير 2016

قصة قصيرة ولادة -عادل كامل





قصة قصيرة

ولادة

عادل كامل

    وأخيرا ً، بعد انتظار زمن طويل، وضعت الأتان وليدها، فلم تنشغل إنها قد تكون تأخرت، أو ولدته قبل الأوان. بل لم يدر بخلدها إنها قد تكون أرغمت على الإجهاض، أو قد لا يكون المولود هو المنتظر!  فاستدارت، رغم شدة الظلام، لتلقي نظرة....،عليه، فأحست إنها لم تعد تتوجع، وإنها غير مضطربة، ورأسها غدا اقل ثقلا ً...، لكنها لم تر إلا كتلة لم تقدر على تحديد ملامحها... فارتبكت، للحظة، ثم راحت تتحسسه بلسانها، تلحسه، مستنشقة رائحته وهي تتخيله شبيها ً بمن وضعتهم من قبل. فقد منحها شعورها هذا إنها لم تتأخر، وان آلامها لم تذهب سدى، وإنها تستطيع أن تستريح، ولن تنشغل ما إذا كانت قد أرغمته بالخروج، مبكرا ً، أو تأخرت بولادته بعض الوقت، إلا إنها شعرت  بتشوش اضطرها للامتناع عن التفكير...، ذلك لأنها عندما لم تستطع إلا أن تعيش، في المزرعة، من غير إرادتها، فإنها ـ دار ببالها ـ لم تستطع أن تختار موتها بإرادتها أيضا ً، وليس عليها أن تذهب ابعد من ذلك!
ـ هذه هي المحنة تحديدا ً....
   مع إنها انشغلت بسماع صوته، يتكلم، إلا إنها استبعدت أن يكون هو من تكلم، وللتأكد راحت تشمه، وتتحسسه، مصغية لنبضات قلبه، وما كان يبثه جسده من حرارة لم تثر قلقها، إن كان فارق الحياة أو ولد معاقا ً...
ـ أن تكوني مرغمة على ... الحياة، وان تكوني بلا إرادة على اختيار الموت، تلك هي المحنة!
    لم تتردد من الاعتراف ـ مع نفسها ـ أن الصوت لم يأت من مكان آخر، ولكنها لم تصدق انه يكون حدس ما دار ببالها، وخاطبها، حول فكرة إنها طالما قاومت الذئاب، وتجنبت الضواري، من اجل إنقاذه، هو، وليس من اجل نفسها. فقربت رأسها كثيرا ً منه:
ـ هذه هي المحنة: انك ِ وجدت ِ صعوبات لم تسمح لك ِ إلا بالاختيار الذي يسمح لك بحملي...، طوال هذا الزمن!
    انه يفكر، بمعنى ـ هزت رأسها بذعر امتزج بالحذر ـ وقالت لنفسها، إنها ربما تكون مازالت نائمة، وإنها تحلم،  وان ما تراه، ربما إلا أصداء مخاوف، تآلفت معها، فصارت الذئاب، والضواري، والبشر جزء من منها، ومن خلاصها، رغم إن حملها كان على حساب تحملها المشاق، والأوزار...
ـ أبدا ً...، فالنائم لا يستطيع اختراع أحلامه!
   تذكرت إن جدها قال تلك العبارة، فحفظتها: الحمار لا يستطيع أن يصير إلا حمارا ً كي يحلم انه لم يعد حمارا ً! ذلك لأن الحلم هو الذي يستدرج الحمار إلى السبات!
ـ ولكنني قاومت المفترسات، وعندما أدركت  استحالة إحراز النصر...، أي نصر...، لم أجد حماية لي إلا في الهرب...، وليس في المواجهة...، فانا لم أكن أتوهم أحلامي...، أو ادعها تستدرجني إلى الوهم!
    هزت رأسها بعنف، ممتلئة بالغيظ أن تكون مازالت نائمة، أو إنها عرضت  حياة ابنها للخطر، في ركن قصي داخل حظيرة الحمير والبغال ..
   لكنها عادت تسمع ما يشبه الصوت، وهي تتأمل لمعان نجوم نائية بدت لها تماثل لمعان أنياب ذئاب كفت عن العواء، لتقرب رأسها منه لعلها تفند ما إذا كانت تعاني من الحمى، أو الإعياء:
ـ لا! فانا لم أتأخر ...، ولم أسرع...، مع إنني كنت طوال الوقت أدرك محنة إنني أنا ـ معك ـ لم أكن امتلك إلا قدرة أن أميز بين أن أدرك إنني كنت مرغمة على البقاء حية، أو استحالة أن أقرر قرارا ً مغايرا ً، يتنافى والأعراف...!
ـ آ ...
تأوهت: كأنه سمعني وهو يترنم بكلماتي! وأضافت: بل يكاد يستنسخها بحذافيرها.
  ورفعت صوتها:
ـ ولكنني حرصت أن لا أربكه بما كنا نخشاه، وما كان يفزعنا... بعد أن أفلحت بتجنب الضواري...، والبرمائيات الشرسة، وكل ما ينتسب إلى ذوات المخالب، والأنياب...، بل تجنبت حتى تلك التي تخفي عنا مكرها، ووسائلها الدفينة في إظهار الوداعة، واللطف...
ـ تلك هي...
    وعندما لم تر ضوءا ً يساعدها بسماع  صوتها، أو صوت الآخر، أغلقت فمها، كي لا يربكها الصدى. إنما كانت لا تمتلك قدرة إيقاف ما لا يمكن إيقافه، الشبيه بنزف يحدث قبيل تلقي وخزات الموت، وصمته، فقالت تخاطب لا احد:
ـ بالفعل...، هذه هي المحنة...، لا أنا استطعت أن أعيش بسلام، ولا أنا استطعت أن اختار موتي بكرامة!
  تجّمدت، لأنها سمعته يقهقه:
ـ هذه هي المحنة...، الحالم يعتقد انه آفاق...، لينقذ مصيره....، ثم يكتشف انه لم يستطع أن يفعل شيئا ً ما أبدا ً....
ـ كأنك ِ ....!
   ذعرت أن تكون سمعت صوت جدها هو الذي كان يتكلم، لأنها كانت قد رأت مصيره أمامها وجسده تمزقه أنياب الكلاب ...، ثم هل أكون....
   أضافت وهي تلامس جسد وليدها الطري:
ـ أكون .... طوال هذه السنين...، حملت ..
ـ هذه هي المحنة....!
   وودت لو صرخت أو استنجدت، ولكنها خافت أن تلفت سمع احد، والليل امتد حتى بدا لها انه ذهب ابعد من مداه، فهمست في أذنه:
ـ اسكت!
     فتندر قائلا ً:
ـ لكن هذا لن يقلل من المصيبة، ولا يعجل فيها....
ـ المصيبة...؟
    فوجدت ردا ً سمح لها بالإصغاء:
ـ  بل شيئا ً شبيها ًبها...، لأن المصيبة سابقة علينا!
همست بذعر اشد:
ـ ماذا قلت؟
ـ أقول إننا سنتوارى ولكن المصيبة وحدها وجدت كي تدوم، وتبقى...، فهي وحدها لا تفنى!
ـ آ ...... يا جدي!
   تمرغ وليدها بالتراب من شدة الضحك:
ـ أنا وليدك ...، أنا هو من سبب لك ِ العذاب...، أنا هو من أمضيت حياتك تكافحين من اجله...، أنا وليدك ....، فافرحي!
ـ أفرح؟
ـ نعم...، وإلا ... هل هناك لغز غير هذا اللغز أبى إلا أن يمتد...، وأبى إلا أن تكون له خاتمة أخرى...؟!
ـ كأنك ـ مثل جدك ـ تقول لي: ليس إلا النجوم تلمع في ظلمات هذه السماء!
رفع صوته:
ـ وإن كنت لا أود أن أتلفظ بكلمة نابية، يا أمي، إلا انك ـ كجدي ـ تحملين بذرة المكر، والفسق...، وإلا لكنت قلت لي: لا جديد بإمكاننا استحداثه إلا الذي علينا حمله..
ـ أنت قصدت: لا جديد تحت الشمس؟
ـ لا...، لأن الشمس أصبحت عتيقة، مثل سقراط، لأن الشمس، مع هذه الأرض، كلاهما لن يقدرا إلا على الامتداد....، لأنهما، كلاهما له تتمات لا يمكن إلا أن تستكمل....، وإنهما لا يقدران على دحض ما هو أكثر قدما ً من القديم!
ـ الآن لا اعرف أأقيم لك جنازة ....، أم احتفل بعيد ميلادك...، أيها الولد الغريب؟
ـ مادمت ِ لا تقدرين أن تحتفلي بعيد مولدي، فأنت لا تقدرين أن تقيمي جنازة لي أيضا ً! ولكنك، أيتها العنيدة، لم تكن لديك إرادة في موتي، لأنك كنت مرغمة على حملي، وعلى ولادتي...، فأنت غير مذنبة، ولكنك غير بريئة أيضا ً، وهذا هو ما  قصده جدي بالمعضلة. فلا أنت ستمتنعين عن إكمال ديمومة هزيمتك، بوصفها نصرا ً، ولا المنتصر سيحفر قبره بمخالبه ويكف عن الاحتفال بهزائمه! فالجديد لن يغوينا، بل يرغمنا طوعا ً، ولا القديم ينغلق،  بل يجد ألف ألف ألف غواية كي يحافظ على ذهابه ابعد من ميلاده، وابعد من موته. فهو وحده الذي لا يموت!
ـ ها أنت ملأت روحي بالمسرة....!
ـ آمل لها أن تدوم...، رغم إنني بدأت استنشق رائحة الشمس!
ـ آ ....، تلك حكاية أخرى...
ـ لا...، إنها الحكاية ذاتها، لكن لا خاتمة لها! لأن المنتصر وحده لا يجيد إلا إخفاء هزيمته...
ـ ها أنت تؤكد: لا جديد تحت الشمس؟
ـ ولكن ، حتى بحدود عقل حمار يفكر، أقول لك ِ: لو دام القديم أكثر من مداه...، فما أقسى أن تغوينا المسرات بخاتمتها؟!
ـ آ ....،  أصبحت اجهل أولدت أبنا ً أم أبنا ً ولدني؟!
ـ الحفيد... يلد جده...، وهذا هو لغز الحكاية، لأن الجد هو ذاته ابن حفيده...، لأن المعضلة التي لا حل لها ليست معضلة، وهكذا: أنا ولدت أمي، لأنها هي من ولدت أسلافي، وهذا هو لغز المسرة، تفترس موتاها، لتلد الذي يحتفل بالميلاد!
1/2/2016
 اللوحة للفنانة المصرية: اميمة رشاد

ليست هناك تعليقات: