بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الخميس، 9 يونيو 2016

قصة قصيرة الذئب فائضا ً-عادل كامل

قصة قصيرة

الذئب  فائضا ً


عادل كامل
     أفاق عند ضفة البركة، فوجدها كدرة، متموجة، فلم يفلح في معرفة من يكون. لم ير ملامح وجهه، فعاد يسأل نفسه اذا لم يكن يعرف من يكون، فما الذي  كان عليه...، وما الذي سيكون عليه، لو مكث يجهل أكان هو الذي يحاور نفسه أم نفسه هي التي تحاوره، أم لا احد منهما يحاور الآخر، وإنما هذا هو تحديدا ً ما يستحق المعرفة.
    لم يقدر على استدراج طرفة خطرت بباله، حول الحمل الذي فلت من أنياب الأسد وقد استحال إلى فأر، وراح يهتف: ما أحلى النصر، ما أجمله...، كما فشل في استذكار حادث مؤلم للحمل ذاته وقد اسر أسدا ً وراح يبول عليه...، فوجد انه لا يتذكر شيئا ً مسليا ً ولا شيئا ً كدرا ً بعد ان أحس انه أصبح فائضا ً عن نفسه، ونفسه أصبحت غريبة عليه.
   فانا ـ دار بخلده ـ لا اقدر على الضحك، ولا على البكاء، ولا على فتح فمي. فترك رأسه يستدرج جسده للزحف باتجاه صخرة شعر إنها ليست غريبة عن بصره...، وما ان لمسها حتى أدرك إنها ليست نباتا ً شوكيا ً، ولا قنفذا ً، وإنها ليست شبحا ً تحول إلى تمثال، فترك رأسه يستقر فوقها، للحظات، ولم يبتعد عنها إلا عندما اختلطت عليه الصوّر بالأصوات فخاف منها مبتعدا ً ليقف في العراء.
    متى خرجت من القفص، والى أين ذهبت، ماذا جرى لي كي استيقظ واجد نفسي أمام ضفة البركة تحت سماء رمادية، ولا اعرف من أنا، متابعا ً يسأل نفسه، كأن احدهم كان يتسلى بي، أو كأنه كان يحاول استنطاقي، فقلت: أنا لا امتلك إلا ان ألبي لك ما تريد، فليس لدي ّ ما اخسره، وليس لديك ما تربحه مني!  لا...، لا، لا ...، أنا لا أتذكر إنني فتحت فمي، وأضاف بشرود، وأنا لم أغلقه أيضا ً.
     لمحه غزال جاء إلى البركة، عند الفجر، فاقترب الغزال منه وسأله:
ـ ما الذي حل بك، يا سيدي، ماذا حصل لك...؟
انتبه إلى الصوت، فهز رأسه:
ـ أتتكلم معي...؟
فقال الغزال:
ـ لا احد غيرك يوجد هنا في هذا الركن من الحديقة.
   اقترب من الغزال ببطء شديد، وسأله:
ـ من أنا..؟
فز الغزال، وكاد يضحك:
ـ آ ....، لو كنت استطيع ان اعرف فهل تراني فكرت ان أسألك ما الذي جرى لك ..؟
ـ آ ....، إذا ً جرى لي  ...، ما لا استطيع معرفته.
ابتسم الغزال بشرود:
ـ إذا كنت أنت لا تعرف ماذا جرى لك، فهل تعتقد إنني اعرف ما لا تعرفه؟
ـ صحيح، أنت على حق!
     وعاد لا يرى أحدا ً سوى غمامة رمادية تلاشت أمامه مندمجة بمساحة لا يعرف أكانت تقترب منه أم كانت تبتعد عنه.
    سمع صوت طائر فلم يميزه ...، اقتربت حمامة، وحطت بجواره:
ـ من أنت...؟
ـ غريب...، قبل قليل سمعت من يسألني السؤال نفسه.
ـ إذا ً فأنت لا تعرف ما الذي قادك إلى هذا الوضع.
ـ وضع؟ أنا في وضع...؟
     اقتربت الحمامة كثيرا ً منه، وهمست بصوت مرتبك:
ـ سأستدعي الغراب...، فهو افهم مني، وإذا تطلب الأمر فسأبحث عن البوم، احكم الحكماء، لنجدك ..!
ـ ومن هو الغراب...، ومن هو احكم الحكماء ...، وأنا نفسي لا اعرف ماذا حصل لي...؟
    طارت الحمامة وعادت ومعها الغراب. صدم الأخير وهو يتأمله، فخاطبه:
ـ لا تخف ...، ما عليك إلا ان تخبرنا ماذا حصل لك قبل ان نذهب بك إلى الطبيب..
، هل تعتقد إنني اشعر بالخوف...؟ ما الخوف...، ولماذا ينبغي ان أحس به...؟
ـ حسنا ً..، ألا تشعر بالبرد...؟
ـ ماذا تقصد بالبرد...؟
ـ حسنا ً...، ألا ترغب ان تنام...؟
ـ وهل أنا مستيقظ...؟
ـ ألا ترغب بالراحة..؟
ـ هل أنا متعب....؟
    طار الغراب ليأتي بالسيد البوم. فاقترب الأخير منه، وسأله:
ـ أأنت مريض...؟
فتح فمه بصعوبة:
ـ اخبرني أولا ً من أنا...، لو سمحت..؟
عاد الغراب وسأله:
ـ ألا تشعر بالبرد..؟
ـ ما المقصود بالبرد، كي اشعر به...؟
ـ آ   ...
   أومأ البوم له ان لا يضطرب، وخاطب البوم الغراب والحمامة:
ـ ربما يكون شرب من ماء البركة، أو تنفس هواء ً فاسدا ً، أو أسرف في الطعام...؟
     اقتربت الغزال منهم:
ـ أنا لمحته هكذا لا يعرف من يكون...، حتى انه سألني: من أنت ِ..؟ فاضطربت وفضلت ألا ادخل في هذه المعمعة.
سألها البوم:
ـ أنت ِ إذا ً أول من شاهده عند البركة ..؟
     صدمت، فأجابت مرتبكة:
ـ من الصعب علي ّ الاعتراف بأنني هي أول من رآه، فهناك الطيور...، وهناك البعوض، وهناك تلك الكاميرات اللعينة التي تراقب ذبذبات عقولنا، ونبضات ضمائرنا.....؟
تدخل الغراب:
ـ حقا ً إنها قضية مثيرة للجدل...، فما دام ـ هو ـ لا يعرف من يكون، فهل يحق لنا تحديد هويته، خاصة إنكم تتذكرون الفأر الذي زعم انه تحول إلى نمر، والأرنب الذي استحال إلى تمساح، والقنفذ الذي راح يغرد مثل البلابل!
   رفع الآخر رأسه قليلا ً:
ـ أنا سأخبركم بكل ما اعرفه عن الحظائر، والزرائب، ولن اخفي شيئا ً عما جرى في جناح الخنازير، والقرود، والأفاعي...، حتى إنني أبديت استعدادا ً تاما ً للتعاون معكم من اجل سلامة حديقتنا...، فأين نذهب إذا هدموها علينا، وخربوها، بعد ان طردونا من البراري ...؟!
   شرد ذهن الغراب، يخاطب الحمامة:
ـ إنها الحمى! حمى البعوض، فهي تؤدي إلى التشوش، فتختلط الحواس في عملها، تصبح السماء أرضا ً، والأرض سماء ً...، يصير البغل ضبعا ً، والقط ثورا ً...! آ ...، عندما تنعدم الحواس يفقد العقل توازنه داخل هذا الرأس!
   قال يخاطب الغراب بصوت خفيض:
ـ أرجوك ...،  لا تسلخ الطبقة الأخيرة من لحمي...، كفى حرقا ً حتى الطبقة الرابعة، ودع عظامي آمنة! فلا جدوى فانا أخبرتكم بما جرى في قاع البركة، وفي جناح القمل...!
   همس البوم في آذن الغزال:
ـ هذا هو ما جرى لك ِ ذات مرة...!
   انتفضت مذعورة وهي تبتعد:
ـ لا، لا، لا، لا أنا لم استجوب...، ولم اختطف، ولم أصبح رهينة، ولا احد دفع الفدية، كل ما حدث هو شكوك فندتها في الحال، فالأسد الذي حاول إغوائي، ولا أقول حاول افتراسي، ندم، وتأسف، وأعلن براءته...، وعاد وأكد انه ود لو عملت معه في السيرك، فقلت لسيادته: أنا أفضل ان تفترسني على ان تصنع مني لاعبة على الحبال، فهذا عيب، ومخل بالكرامة..، وتقدمت منه وصرخت: افترسني! لكن سيادته فتح فمه...، كم كان معطرا ً برائحة الورد الميت، وقال لي: ها أنت تثيرين البلبلة...! فهددته إنني سأذهب إلى القائد واعترف بالحقيقة، صعق، وتأسف انه تحرش بأحد أتباع سيدتنا الببغاء!
    ابتعد كثيرا ً، وتبعها البوم، مهرولا ً خلفها، وكلما أسرعت أسرع أيضا ً، حتى وجد الغزال تجلس القرفصاء تولول، فصاحت فيه:
ـ ماذا تريد مني...؟

 اضطرب للحظات، ثم استدرك وسألها:  
ـ من سمح لك بالخروج في هذا الفجر البارد...؟
صاحت:
ـ اقسم لك أنا بريئة...، ولم أكلف بعمل خارج التكليف...، فأنت تعرف إننا نعمل وفق الزمن الخالد، فلا نخلط بين المشاعر والعقل، ولا بين الممكن والمستحيل!
ـ أنا لم انو استجوابك...، فلا تخافي.
ـ ماذا تريد مني أيها الطيف الناعم...، مع انك لا تراني إلا شبحا ً...؟
ـ سلامتك! فقط كنت أريد ان اعرف من رأى بقايا هذا المخلوق ....؟
فقالت حالا ً:
ـ الحمامات، الغربان، البعوض، الأشجار، والأرض أحصت خطاه ...، ومن المؤكد ان الغيوم راقبته وهو يقترب من البركة.....؟
ـ معلومات قيمة، ذات أهمية نادرة ...، ولكن لم  أنت خائفة وترتجفين...، وأنت واحدة منا في هذا الجناح المختلط الكبير...؟
   سأل الغراب الآخر:
ـ هل أفقت....؟
ـ لك الحق ان تقول ما تراه صائبا ً...، فهذه ليست صلاحيتي للبت ما إذا كنت أتجول نائما ً أو إنني غادرت الحلم...؟
ـ إذا كنت لا تساعدني، فكيف استطيع ان أمد لك يد العون...؟
    بصعوبة فتح فمه ونطق:
ـ أنا لم اطلب منك هذه المساعدة..
ـ آ ....، جيد، إذا ً دعنا نقول انك كنت تتنزه...؟
ـ أرجوك...، لا تشوش علي ّ، فانا كدت اعثر على دليل ...، يفضي...إلى... معرفة من أكون...؟
ـ جيد...، جيد.
    عاد البوم ملوحا ً بالعثور على معلومات، فاقترب من الغراب، وهمس في آذنه:
ـ الغزالة ذاتها تعاني من العصاب ذاته، فالأسد كاد يفترسها بحجة إلحاقها بالسيرك!
ـ لا تربكني...، دعني أفكر، فانا أيضا ً كدت اعرف من يكون...، لولا إنهم لم يتركوا له أثرا ً دالا ً عليه.
   فسأل البوم الغراب وهو يراقب شاة كانت تقترب منهم:
ـ تعالي...، تعالي.
   اقتربت:
ـ ماذا تفعلين هنا...، في هذا الفجر...؟
ـ لا اعرف ...،  ربما طلبني السيد الذئب!
ـ أي ذئب؟
   وأضاف البوم يسألها:
ـ أين هو هذا الذئب...؟
  ردت الشاة بصوت متلعثم:
ـ هذا هو سيدي الموقر ذاته الذي ...
     قال الغراب يخاطب نفسه:
ـ الآن بدأنا نمسك بالخيط....!
    سأله البوم:
ـ أي خيط، والذئب استحال إلى نبات!
ـ لا...، لا.
  صاحت الشاة:
ـ انه يكاد يشبه حفيدي!
   صاحت الحمامة وهي تحلق عاليا ً:
ـ لم ننته من أسلافنا بعد، وها هم يتحدثون عن الأحفاد...؟
    تمتم الذئب مع نفسه بصوت خفيض:
ـ ها أنا بدأت اعرف من أكون...!
   لكن الصور اختلط عليه، وتداخلت الأصوات، ولم يعد يرى سوى ومضات مشوشة تقترب منه:
ـ كل ما اعرفه إنني ...، كنت أتجول وحيدا ً....، وحيدا ً...، أو من غير نفسي!
  اقتربت الشاة من الذئب وصاحت تخاطب الغراب:
ـ لا...، أنا لم أر هذا من قبل...، مع إنني كنت رأيت شبيهه، أو ربما طيفه!
قال الذئب:
ـ آ ...، أنا بدأت استعيد ذاكرتي، بل بدأت أفكر!
صاح البوم:
ـ مع ان الغيوم حجبت أشعة الشمس، إلا انك تستطيع الدفاع عن نفسك!
ضحك الغراب:
ـ ما علاقة هذا بتحديد الهوية...؟
قالت الشاة:
ـ اسمحوا لي بتقديم خالص عزائي!
ـ على م َ ...؟
سألها البوم، فأجابت بتردد:
ـ كان علينا ان ننقله إلى الطبيب، بدل إضاعة الوقت.
أجاب الذئب:
ـ أرجوكم ...، اخبروني، هل عرفتم من أنا... ؟
أجاب البوم:
ـ سيساعدنا الطبيب ..فهو المخول الوحيد بالحديث.
   وجد جسده يتمايل، ولا يقو على المشي، فبرك فوق العشب. فاقترب الغراب من البوم:
ـ حماقة ...، ألا تعتقد إننا نغامر بمصائرنا...؟
   أومأ البوم برأسه موافقا ً، وحلق عاليا ً، فتبعه الغراب.
    أفاق مجددا ً، وسأل نفسه:
ـ ما الذي حدث تماما ً...؟
   تقدم من البركة، ومد ساقه متلمسا ً الماء، كان باردا ً جدا ً:
ـ ربما كنت خرجت من البركة...؟!
   لم يستمع إلى الرد، بل إلى صدى فتخّيل انه سمع، فأصغى:
ـ فأنت لم تعد وحيدا ً، ولم تعد مع احد...، كأنك بعيد عن المراقبة، والرقابة، والرصد...، فلا احد هناك، لأنك  بعد الآن لن تستطيع ان تعرف انك أصبحت وحيدا ً، أو انك مع لا احد...!
1/6/2016

ليست هناك تعليقات: