بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الجمعة، 17 يونيو 2016

قصص ليست قصيرة جدا ً- عادل كامل

قصص ليست قصيرة جدا ً




عادل كامل
[1] عفن
   قالت الدودة التي أخرجت رأسها المدبب من عفن لحم الحمار الميت، منذ أسبوعين، تخاطب زميلتها، وهي تتنفس الهواء:
ـ ما أقساه، حتى إن رائحة الزنابق، لم تعد تحتمل، ولا رائحة الشمس!
  فقالت لها زميلتها:
ـ إن عطر لحم حمارنا الميت، لا يمكن استبداله حتى بهواء الفجر، فكيف وقد امتزجت به رائحة الورود، والنهار!
فقالت الأخرى بصوت حزين:
ـ ما هذا التشاؤم...؟
ـ حرت معك...!
   فقالت لها، وهي تعيد دفن رأسها وتخفيه، بصوت خفيض:
ـ  لو لم نستنشق هذا الهواء، ونتذوق مرارته، لما استسغنا عطر عفن لحم حمارنا المسكين!


[2] ابتلاء
    ابتلى الثور ببقرة لم يفلح بالخلاص منها، أو التواري عنها، كما لم يستطع أن يستدرجها، أو يرغمها، لتجد ثورا ً آخر سواه، على مدى سنين طويلة، لتتخلص منه، أو يتخلص منها، فاعتكف وحيدا ً منزويا ًفي ركن مهمل من أركان الزريبة، يطل على الصحراء، فهزل، حتى كاد المشرف على الزرائب، أن يرسله إلى المسلخ، أو يرسله طعاما ً للمفترسات، في المحمية، مرات ومرات، لولا تحوله إلى جلد لا توجد فيه إلا كومة عظام لا تصلح لشيء، فترك الثور، وفاء ً للأدوار التي  قام بها قبيل اقترانه، وزواجه، في أيام الفتوة، والشباب، وها هو الآن أصبح لا يصلح للحرث، ولا للرقص في السيرك، ولا لإخصاب الأبقار الأكثر فتنة، ورغبة بمواصلة الحياة...، فقد تحول ـ كما دار بباله ـ: إلى ظل متنقل حتى وإن لم يذهب ابعد من حدوده! فصار لا يلفت النظر، ولا هو نظر بأسف لحياته، مادامت ـ في النهاية ـ كأنها حبة رمل تحملها الريح في بيداء بلا حدود، لولا إن (الموت) شاهده، ذات مرة، في إحدى جولاته التفقدية، ودنا منه، بفضول، لم يخل من ريبة، ليراه يلوك علفا ً ثم يتقيأه، وينام، بمعدة خاوية، ليستيقظ، ويكرر العمل ذاته، من غير أن يدفع الطعام إلى معدته الجوفاء، فظنه اجتاز عتبة هوس الثيران بطلب المزيد من حياة معناها يأتي بعد زوالها، أو ربما يكون معناها عصيا ً على الفهم، أو من غير معنى بالمرة....، وانه يستدرجه كي يضع نهاية لأمر خاتمته شبيهة بمقدماته، حتى لو تكررت إلى ما لا يحصى من المرات.  لكن الثور الذي استنشق رائحة حضور (الموت)  لم يكترث له...، فان جاء أو لم يأت فالثور لم يستبعد حضوره حتى لو تستر بالغياب...، فكر مع نفسه، وهو يدور حول ما تبقى من جسده، كما تفعل ثيران النواعير، مظهرا ً أسى شفيف انه جرجر إلى المحمية، لطلعته، ومهاراته، جرا ً، وانه لم يرسل إلى الذبح، أو ليصبح طعاما ً للضواري، والمفترسات، لأسباب لم تعد تشغله، ولم تعد تقلقه، أو تعنيه.
      فاستغرب (الموت) أن يرى ثورا ً ربما كان يخفي لوعة ما تجاوزت قضاياه الشخصية، حتى ظنه كان يفكر...، أو ربما تكون حرفة التفكير قد أدركته....، لكن الثور راح يخط بحافره الحاد المتآكل إشارات فهم منها الآخر انه بريء من أية تهمة، أو ظن، وانه لم يتورط بارتكاب هفوة، أو إثما ً، أو معصية من المعاصي...، فهو ـ خاطب الموت من غير كلمات ـ ود لو عثر على ظل ومشى خلفه، أراح واستراح، ولكنه في الوقت نفسه طالما رغب أن لا يجد هذا الظل فلا يشغله، ولا ينشغل به...
فقرب الموت رأسه منه هامسا ً:
ـ كأنك تكتم لعنتك على الزمان؟
   هاج الثور، رغم هزاله، متضرعا ً:
ـ لا تورطني بما لم افعل...، فالعلف وفير، والهواء شفاف، والماء صاف...، والزمان خير زمان!
مسرعا ً في الدفاع عن نفسه:
ـ فحياتي شبيهة بهذا الماء الذي نزل مدرارا ً من السماء ثم يصعد إليها  بسلاسة ومن غير شوائب!
   صفن الموت قليلا ً، وسأله:
ـ ما ـ هي ـ مشكلتك إذا ً...؟
فقال بلا خوف أو حذر:
ـ  لقد ابتلت بقرة بثور أحمق!
فقال الموت:
ـ تقصد انك ابتليت ببقرة حمقاء؟
ـ ما أدراك....، وأنا لم أتقدم بشكوى، وما بحت لأحد بهذا السر، فقد كتمته بأشد الكتمانات كتمانا ً، حتى أنني دفنته قبل أن يكون له وجود! فصار هو والعدم سواء بسواء!
   رق قلب الموت، فقال له:
ـ سأخلصك منها، فتستريح!
فصرخ بصوت مبعثر:
ـ ماذا تفعل بها؟
ـ سأرسلها إلى المكان الذي لا عودة منه!
   تكّوم الثور قدامه، وهو يتمرغ، متضرعا ً:
ـ لا تفعل ذلك... سيدي، لا تفعل ذلك!
ـ سأخلصك منها، ومن حماقاتها أيضا ً..لتعاقب بما فعلت!
ـ لا تفعل هذا .. أرجوك... لا تفعل هذا...!
ـ وسأنزل فيها اشد العذاب الذي سببته لك ..
ـ أرجوك، سيدي، لا تفعل ... لا تفعل...
ـ وادعها تأتيك تطلب العفو... والمغفرة...، بل حتى اجعلها تستنجد برحمتك!
ـ أرجوك ... لا تفعل ... لا تفعل...
   فقرب الموت رأسه منه، وسأله باستغراب:
ـ ما ـ هو ـ سرك..أيها الثور الغريب...، حتى وكأنك صرت تشفق عليها؟
ـ ...
ـ بل وكأن قلبك مازال يكن لها الود...، أو كأنك مازلت مولعا ً بها؟
ـ ....
ـ أم إن لقلبك رحمة اجهل مداها...؟
ـ لا... لا يا سيدي...
صمت برهة، ثم أضاف الثور مرتبكا ً:
ـ أنا أخشى أن ترسلها إلى العالم الذي لا عودة منه، كي تجد من تنزل فيه الحماقات التي فعلتها بي...، فلا تخرج أبدا ً من العالم الذي لا عودة منه، فيمتلئ بالرزايا، والخطايا، والحماقات!
ـ ماذا تقصد؟
ـ اقصد... سيدي الموقر، إنها قد تجد من تغويه، ثم ترسله إلينا، أو ترسل عجولا ً يافعة، فتزدهر الحماقات في محميتنا الآمنة، مرة ثانية!
ـ لن تقدر...، مادمت أنا هو حارس بوابات الجحيم، والظلمات التي لا عودة منها!
ضحك الثور، متمرغا ً بالروث، فاقدا ً آخر قدرة له على الحركة، وعلى الكلام، إنما ردد من غير صوت، ومن غير كلمات:
ـ  لو كنت تمتلك هذه القدرة، وهذا الصدق، لكنت منعتها من مغادرة العالم الذي لا تزدهر فيه إلا الظلمات، والذي لا عوده منه أبدا ً؟
فقال له غاضبا ً:
ـ الآن....، سأدعك تبحث عني فلا تجدني، وتطلبني فلا تراني!
  أأنت بقرة، لكنه لم يقلها، بل قال متندرا ً، وبلا مبالاة:
ـ مرة ثانية، لم تكن صادقا ً، لا معي، ولا مع نفسك!
ـ ماذا قلت، أيها الثور الأحمق؟
ـ لأنك ـ يا سيدي ـ لا تمتلك إرادة إنزال العذاب في ّ والى الأبد!


[3] خلود
   وهو يراقبهم يفرون، يجتازون السواتر، والحدود، تسمر في عشه، مع انه كان يرى الإعصار يضرب أعالي الأشجار، ويسمع صوت الرعد مدويا ً، فيما سيول الطوفان قد اجتازت حافات الحديقة، وأغرقتها...
    عاد يتأملهم: يغيبون....، بعيدا ً عن العاصفة، والأمطار، فراح يقهقه، مع نفسه...، لأنه  كان قد أصبح وحيدا ً، فلم يجد من يعترض عليه...، أو يؤنبه، فقال مع لنفسه: حتى لو نجوا من الهلاك ... اليوم...، فهل سيحصلون على الخلود؟  ذلك لأنه طالما حثهم للقيام بأعمال تصد الأمواج، وتسيطر عليها، وببناء سواتر لا تقتلع الجدران، إنما...، وقد تخيل المشهد بجلاء، لم يجد أحدا ً يصغي إليه، لأنهم كانوا يمضون الوقت بالبحث على دروب تقودهم لنيل الخلود!

[4] عودة
   بعد أن عاد من سفره البعيد، إلى مدينته، استقبل بحفاوة، من لدن أحفاده، وأبناءه، وهو لم يرهم، بعد غياب امتد قرون طويلة، كما لم ير شيئا ً تغير في المدينة، فحزن، ولم يخبرهم بأسباب عودته. فسأله احدهم: هل أمضيت حياة سعيدة حقا ً بعيدا ً عنا...؟
فقال بصوت خفيض جدا ً:
ـ لا... لكنها كانت محتملة؟
فضحك احدهم وسأله:
ـ ولكن لماذا عدت...ـ ما دامت الحياة غير محتملة في مدينتنا...؟
ـ لم أجد مكانا ً يصلح للموت، أفضل من هذه المدينة...!

[5] شفافية
    قال لزميله، وهو يشاهد ـ عبر شاشة الحديقة العملاقة ـ ارتفاع نافورات من الوهج والشظايا، ممتزجة بأعمدة بيضاء من الدخان والغبار، ترتفع إلى الأعالي، لتبلغ حافات السماء:
ـ لم يعد هناك بشر، لا حيوان، ولا نبات، بإيجاز: لم تعد هناك مدينة، وهذا كل ما في الأمر!
فقال له بصوت هادئ:
ـ أنا لا أفكر بالمدينة، لا بناسها أو بحيواناتها أو بنباتها، وقد غابوا عن الوجود، بل أنا أفكر...
وصمت، فقال له الآخر:
ـ تكلم.
ـ أنا أفكر: من ذا سيمحو المدينة التي لم تشيد بعد، بنباتها وحيوانها وبشرها، فوق هذا البياض الشفاف؟

[6] رؤية
ـ لا تضحك ..، فلم يتركوا لنا دابة لم يغتصبوها، لم يتركوا حجرا ً فوق حجر، لم يتركوا ممرا ً لم يلوث، فما الذي يثيرك ويدعوك إلى القهقهة تارة، والى الهتاف تارة ثانية، والى الرقص طوال الوقت...؟
ـ سيدي...، انظر؟
ـ أنا لا أراك!
ـ كيف تتهمني بالباطل إذا ً...، وأنا لم اعد إلا حافات غبار تتناثر ذراته عبر الفراغات...؟
ـ ...
ـ والآن لماذا بدأت تنوح تارة،  وتبكي تارة ثانية، وأنت لا تقدر على كتمان أساك؟
ـ أين أنت...؟
ـ ألا تراني...؟
ـ لا..!
ـ إذا ً....، انظر إلى ما تبقى منك، انظر جيدا ً إلى ما تبقى مني، كي لا أراك، وكي لا تراني!

[7] أصداء
ـ سيدي...، لم يبق أحدا ً في الحديقة...، فالتصفية جرت بهدوء، من غير صخب، ومن غير عنف!
فسأل مساعده:
ـ  لكني مازلت اسمع عويلا ً يخرج من الحفر...، من الشقوق، ومن الآبار....
ـ لقد ردمت جميعا ً...، البيوت والمغارات والمرتفعات، وصارت جميعها مثل سطح ورقة بيضاء!
ـ ولكن ما الذي اسمعه...؟
ـ هذه، سيدي،  بقايا أحلام كائنات انقرضت قبل أن نباشر بالتحرير!
ـ انه يكاد يربك سكينتي!
ـ سيدي ...، هذه ـ هي ـ أصداء حروف كلماتك وأنت تنقش علاماتها فوق ما تم محوه!


[8] عمل
ـ ماذا تجيد، وأنت تتقدم للعمل في مؤسستنا..؟
ـ سيدي، صنع الجثث!
ـ وأنت؟
ـ توزيعها على الممرات، والدروب، والحدائق.
ـ وأنت؟
ـ  أنا أجيد إعادة رسم ملامحها، وإعادة نقشها، وحذف الزوائد منها، وإضافة إشارات تجعلها أكثر جاذبية، دهشة، ولفتا ً للنظر..
ـ وأنت؟
ـ سيدي، أنا اختصاصي هو: الشفافية!
ـ وأنت؟
ـ سيدي، أنا لم يتركوا لي عملا ً..، فانا أصبحت بعداد العاطلين عن العمل!
ـ ها، ها، أصغ إلي ّ: أنت ستقوم بالعمل الأخير...!
ـ هل أعيدها إلى الحياة؟
ـ لا ... يا أحمق، أنت ستقوم  بمحوها!


[9] أصل
ـ تعال  يا حمار...، ما هي مشكلتك؟
ـ سيدي، أنا لم اعد حمارا ً!
ـ آ ...، أيها الثور..
ـ ولم اعد ثورا ً أيضا ً...
ـ آ ...، أيها الدب، أيها السبع، أيها الخنزير، أيها الديناصور...، أيها المفكر....؟
ـ سيدي، أنا لم اعد اعرف إلى أي الفصائل انتمي!
ـ ها، ها، ها، فأنت إذا ً النموذج الذي كنا نعمل على استحداثه: أنت الآن خارج هذه الأنواع، خارج هذه الصنوف، فأنت لا مثيل لك، ولا شبيه!
ـ ولكني لم افعل شيئا ً، سيدي، فلماذا اقتل؟
ـ  ها أنت رجعت إلى أصلك، وصرت تبحث عن الأبدية!


[10] ثمن
   نظرت النعجة إلى قطيع الماشية، وقالت مع نفسها:
ـ كلي فالعشب وفير، تنفسي فالهواء عليل، ارتوي فالماء زلال...، واسمني ...، استعدادا ً للذبح!
   سمعها كلب الراعي، فقال لها:
ـ هذا أفضل من أن تفترسك أنياب الذئاب...، أو تفطسين في ارض لا ماء ولا عشب ولا هواء فيها!
فقالت له:
ـ تلك حكاية أخرى، سيدي...، فانا لا أتحدث عن أحوال الجحيم، بل عن الذين يدفعون ثمن ولادتهم في هذا الفردوس!

[11] الواجب!
    نظر الطير إلى زميله القابع داخل ثقب تحت الأرض، في الطريق العام، يسحق، تحت الأقدام، من غير أن يرفع رأسه خشية أن يصاب بالمزيد من الأذى.  فبعد أن مر قطيع الجاموس، تبعه فصيل الفيلة، من ثم مرت قطعان التيوس، والجمال، والخراف.
   شاهده يرفع رأسه قليلا ً لعل الدرب فرغ من مرور الدواب، والمواشي، والمفترسات، إلا انه سرعان ما استنشق رائحة عفن الخنازير يقترب، يدك الأرض بحوافره الحادة، دكا ً، فأخفى رأسه تحت الأرض، حتى كاد لا يكون مرئيا ً.
    انتظر...، وهو يراقب من موقعه في أعلى الشجرة..، ليدرك انه لا يمتلك أية قدرة على مد المساعدة لزميلة، أو إنقاذه، أو مساعدته على الطيران...، لأنه وجد قراره بالاختباء في ثقب عثر عليه في وسط الطريق، أمرا ً أنقذ حياته من الهلاك، والموت المؤكد....، فبعد أن مر قطيع الثيران، تبعه قطيع البرمائيات، بمختلف أنواعها، وصنوفها، جاء دور الزواحف العملاقة، تزحف، تتبعها الإبل ذات الرؤوس المركبة، بعدها كانت النمور تهرول راقصة، منتشية بالاستعراض....، من ثم مرت أفراس النهر، والضفادع المرقطة، والديناصورات البيضاء ....، حتى كاد يسمع أنين زميله يأتيه، ممتزجا ً بالأصوات، والغبار، والروائح النتنة، من غير أمل أن يتوقف زحف المواشي، والطيور العملاقة، ذات الأجنحة الفولاذية، تستعرض فرقها استعدادا ً لأداء الواجب.
     هو الآخر، في أعلى الشجرة، فزع لعدم قدرته على مد المساعدة، أو الاحتجاج، أو حتى التذمر، مكتفيا ً بدعاء صامت أن يخلو الدرب من مرور باقي الصنوف الزاحفة، كي يساعد زميله بالهرولة نحو الدغل، والاختباء في الأحراش، بعد أن فقد قدرته على الطيران.
     أخيرا ً ....، مرت السحالي، والزرافات، والقواقع الحلزونية، مشت خلفها الأبقار السمان، تدك الأرض، حتى ظنها تسحق رأسه، هو، فما الذي كان يحدث لزميله، الذي وجد نفسه تحت الأقدام...؟
     تنفس الصعداء...، فقد فرغ الدرب، ليرى زميله يرفع رأسه، بهدوء حذر، مبتعدا ً عن الثقب، متتبعا ً بخطوات ثابتة الآثار التي حفرت أثرها عميقا ً في الدرب.
ـ إلى أين...؟
   لا يعرف إن كان الآخر سمع صوته، أو كان قد اصدر صوتا ً أصلا ً...، فقد شاهده يغادر الثقب، ينتفض، ويرج جسده...، من ثم راح يتتبع خطى القطعان الزاحفة المتجهة صوب الساحة الكبرى، بانتظار أن لا يكون بعداد المتخاذلين، أو الهاربين عن أداء الواجب....!

[12] النصر
   مكث الغراب يراقب كيف انقسمت الجرذان إلى فصائل، تدمر بعضها البعض الآخر، حتى لم يعد يرى سوى أشلاء آلاف الجرذان متناثرة، وجثثها تغطي الأرض...، فسأل زميله، وهما يقفان في أعلى غصن إحدى الأشجار:
ـ ماذا تقول...؟
ـ ليس لدي ّ عقل يستطيع العثور على رد، أو إجابة صحيحة...
ـ ألا ترى انه الغباء؟
ـ ربما هو الجنون، أو فقدان العقل...
ـ ولكن هل يدفع الغباء، أو فقدان العقل، إلى الحرب...، أم هو ...
ـ أخبرتك أن عقلي غير قادر على معرفة الأسباب، ولا حتى معرفة الأسباب التي أدت إلى نشوب مثل هذه الصراعات، والمعممات، والحروب...، فأنت تتذكر كيف حصلت المعارك بين فصائل الأرانب، وانتهت بزوالها تماما ً، ثم وقعت حروب النمل مع النمل، وحروب الماعز السود، والخرفان البيضاء، أعقبتها صولات الضباع ضد الضباع، والبعوض ضد الماشية، والعبيد ضد العبيد، ثم معارك الفقراء ضد الفقراء، ومعارك أخرى لا تحصى....
ـ آ ....، كأنك تكتم علي ّ ما تعرفه...؟
ـ لو كنت اعرف، يا رفيقي، لكنت غادرت هذه الحديقة منذ زمن بعيد.....، بدل الاستمتاع بمراقبة مشاهد سفك الدماء، وتناثر أشلاء الأجساد...!
   تساءل بدهشة:
ـ غريب...، وأنا أيضا ً اشعر بلذّة غامضة في المراقبة..، حد الاستمتاع!
ـ أرجوك...، لا تدعنا نختلف!
ـ لم اقصد هذا ...، بل قصدت: إذا  لم يكن الغباء، أو غياب العقل، أو ...، فما ـ هي ـ الأسباب التي تدعوا إلى مثل هذه الأفعال الشنيعة: حيث النصر، في نهاية المطاف، لا يحرزه إلا الموت! وإلا ما هو مصير من نشأ وتكون في عفن المستنقعات، أتراه يغادر الوحل الذي ولد فيه...؟
ـ لابد من حكمة ما غابت عن عقلك، وغابت عن عقلي!
ـ دعنا ـ إذا ً ـ نبحث عنها!
ـ صديقي العزيز...، لو كان لدينا عقل...، كما قلت لك، ما كنا ننشغل بمراقبة أقسى الأفعال الخالية من العقل، ومن الرحمة، ومن الشرف!
ـ آه ...إذا ً .. دعنا نبحث عن بلاد خالية من الحروب القذرة!
ـ صديقي، عندما لم تحصل على السلام في حديقتك، فمن ذا يتبرع بمنحك هذا السلام من غير ثمن؟!
ـ ها أنت بدأت تفكر! أي مازالت تمتلك عقلا ً...؟
ـ هذا ليس عقلا ً، يا صديقي، هذا هو السبب الذي يدعوني لطردك!
ـ لن تقدر...، فانا هو الأحق بهذه الشجرة...
ـ أنا هو الأحق بها، فانا هو الأقوى..
    ولم يترك احدهما الآخر، إلا وهما يتمرغان فوق التراب، وقد اختلطت دمائهما بجوار جثث هامدة للجرذان.

[13] محنة
    اقترب الغزال من قفص البلبل؛ تأمله، وكاد لا يفتح فمه، إلا بعد أن قرأ في صمت الآخر، لوعة طالما شعر بها الغزال، وعذبته. فسأله:
ـ لم تعد تغرد...، يا صديقي؟
     لم يجب، إنما راح البلبل يتأمل الغزال بشرود. تساءل الغزال مع نفسه، بصوت مسموع:
ـ أكاد اعرف محنتك..، يا صديقي، فأنت أسير هذه القضبان، مثلي، داخل هذه الحظيرة، مع باقي الدواب، وباقي الماشية...
ضحك البلبل:
ـ لقد أمضيت حياتي أغرد...، فكانوا يبتهجون بما افعل، ويقولون:  يا للصوت العذب...، بينما كنت أنوح، وأتعذب، وأنا أطالب بالعودة إلى وطني في الغابة!
   ابتسم الغزال ولم يجب. فقال البلبل:
ـ اعرف ما دار برأسك، يا صديقي...، لقد قلت مع نفسك: وماذا افعل عندما لا تكون للقفص حافات؟
رد الغزال بأسى عميق:
ـ عندما كنت طليقا ً، في البرية، قبل  أن أقع في الأسر...، كنت منشغلا ً بالهرب من المفترسات، ومن الضواري، ومن البشر عديمي الرحمة....، والآن، هنا، أصبحت لا اعرف هل ابتهج أم أنوح...؟
 غرد البلبل فجأة، فقال الغزال:
ـ كأنك تقول: عندما تأتي الحرية..، لا تجد أحدا ً يرحب بها!
    كف البلبل عن التغريد، هامسا ً بلوعة:
ـ هل عرفت الآن لماذا لا أرحب بالحرية!
هز الغزال رأسه:
ـ لا افجع من هذه الفجيعة...، ليس لأننا أصبحنا نحلم بها، بل لأنها أصبحت، هي الأخرى،  لا وجود لها!
   فراح البلبل يغرد مرة أخرى. فقال له الغزال:
ـ  أنت تستطيع أن تنوح، وتولول، بصوتك هذا الشجي...، أما أنا فلا احد كلف نفسه وأصغى إلى صمتي!

[14] قضبان

    شاهد العصفور الصواريخ تسقط في الجانب الآخر من الحديقة، تاركة أزيزا ً حادا ً، فسأل حمامة كانت تقف بجواره شاردة الذهن وهي تجهل ما كان يحدث في الفجر:
ـ   أخبريني، أيتها الحمامة، ماذا فعلت الأشجار كي تُحرق بهذه الصواريخ...؟
ضحكت الحمامة:
ـ إنهم لا يقصدون حرق الأشجار، بل يقصدون الدواب، المواشي، البهائم، الزواحف، والقوارض التي في الحديقة!
صاح العصفور:
ـ  أنا أيضا ً لا يعنيني أمر تلك المخلوقات....، فلا أنا مسؤول عنها ولا هي مسولة عني،  أنا سألتك ماذا فعلت الأشجار كي تُحرق...؟ هل ارتكبت الخطيئة...؟
ـ آ ....، لا....، رغم إنها ليست بريئة تماما ً، إلا أن الأشياء لم توجد كي تبقى إلى الأبد...، فان لم تجد من يدمرها، ويرسلها إلى المجهول، ستدمر هي نفسها بنفسها وتغادر وكأنها برهنت أن حضورها وجد بالعبور!
   قرب العصفور رأسه كثيرا ً من الحمامة:
ـ كأن الأمر لا يعنيك أبدا ً!
ـ وماذا افعل....، ولهب نيران الحرائق سيحول حديقتنا إلى تل من الرماد..!
ـ يا للجنون...، حتى انك لم تفكري بالغضب، ولا الاحتجاج، ولا حتى بالهرب!
ـ آ ....، فكرت طويلا ً ....، ولكن ألا ترى إنني لا امتلك قدرة الطيران، فانا ـ مثلك ـ  أراقب وأتحدث من وراء القضبان!

[15] مرور
ـ الكل يولول، الكل ينوح...، على ما يحدث في هذه الغابة، إلا أنت ِ ؟
أجابت الحمامة بهدوء:
ـ  لا تتعجل، أيها العصفور، فبعد أن يكلوا من البكاء، ويتعبوا من العويل، يصمتون...، آنذاك يأتي دوري، ويأتي دورك أنت أيضا ً!
ـ آ ....، هذا يعني إن الكل إلى زوال، عدا المعضلة وحدها هي التي لا تهرم ولا تزول!
ـ من يدري..، من يعلم..، هل تولول النار أم تغرد، وهي تشتعل، أم أن صمت الرماد وحده يعرف كيف يكتم لوعته، ومباهجه، فلا يترك أثرا ً يخبرنا عما حصل له، أو ما حصل لنا، في نهاية المطاف! أم أن هناك لغزا ً ما بينهما لم يسمح لنا إلا برؤية هذا المرور...؟
6/6/2016

ليست هناك تعليقات: