بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الثلاثاء، 11 أكتوبر 2016

المحـــرقـــــة-فرج ياسين


قصة قصيرة
المحـــرقـــــة


   
(ذا كان القلبُ مرتاباً، فإن الكلمات لا تُجدي نفعاً)
((مسلسل الحسناء والوحش))
حين شددتُ قامتي متوازناً فوق المنضدة. كانت حافة النافذة تمس سرتي، ويكاد حرفها العلوي يقع تحت أرنبة أنفي، الأمر الذي لم يتح لي النظر إلى داخل الفجوة العميقة السوداء . ثم تسلقت إلى مسامعي نبرة أبي الجافة الآمرة .
- رويدا ، رويدا . انحني الآن وأسند مؤخرتك إلى الحائط. أشد ما كان يخيفني علوق شباك العناكب في أصابعي نسيجها اللزج، واحتمال وجود بيضها أو صغارها الميتة، ودوت في رأسي أصوات انسحاق بطونها الجوف اليابسة بين أناملي . لكنني انحنيت وأسندت مؤخرتي متوازناً في قتام رجفة ، أخذت بجماع جسدي قلت : أنني مستعد يا أبتي .
كانت الساعة قد جاوزت الثامنة ، والعتمة حشت كل مرافق البيت وزواياه. وقد ظل أبي يتصبب عرقاً منذ الساعة الثالثة ظهراً تحت شمس تموز اللاهبة، جاثياً أمام المحرقة التي صنعها بنفسه .
نصف برميل مثقب الجوانب في خطوط متوازية شديدة القرب من بعضها ، تنفث الدخان موجات رصاصية سريعة، تحت ربوة متأرجحة من اللهب المستمر. عشرات الكتب، ورزم الأوراق الصغيرة والمجلات والصحف، ألقى بها في ذلك الأتون . وكنت أحمل إليه صناديق الكارتون المملوءة ، وأضعها بين يديه وهو يجلس في ظل رفرف النافذة في الممر العريض، أمام الحديقة. جيب دشداشته المفتوح، يكشف عن صدره الكثيف الشعر وطيات بطنه الأسمر المغضن الجلد. ومن وراء زجاج نظارته، جعلت فقاعات العرق تنفجر وتنسرب حول زاويتي عينيه، وفي الغضون الشائكة في وجنتيه.
كم فكرت بأن ذلك الماء البراق يختلط بعصارة من نوع مختلف، ينبجس من أعماق تكتظ بالندم والأسى! دأبت على مراقبته ، وهو يقلب الأوراق. ويتصفح الكتب والمجلات التي كنت أدفع بها إليه. متجرءاً في محاولتين أو ثلاث، إقحام عيني من وراء رأسه فأفلح في قراءة عدد من العناوين، أو مشاهدة تلك السطور التي وضع تحتها خطوطاً مختلفة الطول. بقلم الرصاص، ولسبب لا أعرف كنهه، ما كنت لأمتلك الجرأة على النظر الصريح إلى أي من هذه الأوراق ، أو الكتب، كان إحساساً عميقاً بالخجل تسربلت به كل هبة في نفسي! مم كنت خجلاً ؟ وقد زين صمته الجريح لنفسي أن تغلف هجسها الحزين ، بالانقياد الآلي إلى تنفيذ ما يريده مني . وتخفي كل ذلك وراء غبار صمت يفهق ببلاغة دقائقه .
في الساعة الثامنة ، وبعد رفض دعوتين للوالدة من أجل الدخول ، وتناول شيء من الطعام أو الشراب ، طرح نظارته وجفف عرق جبهته ، وجعل ينظر في وجهي لأول مرة منذ الساعة الواحدة . وقد خيل إلي أن شيئاً ما جعل يطوف حول وجهه تلك اللحظة . لم يكن ابتسامة - على كل حال - بل شيء يشبه كلمة شكراً إذا قيلت بطريقة تجعلها مصممة ليس من أجل أحد ، بل من أجل كل شيء .
ثم دخل البيت صامتاً فدرجت خلفه ، وتوقفت أمام الثلاجة في المطبخ ، تناولت قنينة ماء مبرد ، فساورني برهة أن أذهب بها إليه . ألم يكن ضامئاً ؟ بيد أنني فشلت في احتراق قلقي ، فأوثقت خطوتي في مكانها ، واكتفيت بالشرب .
أعدت القنينة إلى مكانها ثم ذهبت خلفه . فرأيته وهو يقف في الفسحة المربعة التي في وسط السلم ، يستل نظارته ثم يضعها فوق انفه . التفت إلي غير انه لم يقل شيئاً . بعد ذلك بقليل عاد أدراجه ، فتراجعت نزلاً حتى أتيحت لي رؤيته وهو يتم طي منضدة أحضرها من إحدى الحجرات . ثم عاد إلى مكانه في صحن السلم فنصب المنضدة . ثم نقر على الحائط بأنامله . تسمع خاشعاً لكأنه يتوقع وجود من سيبادر للإجابة على إشارته ، وكنت أراقب لاهثاً حين بصرت به ، وهو يرمي الجدار بسلسلة من الضربات بجمع كفه . حتى تشققت صفحة الجدار في خطوط رقيقة . أول الأمر راسمة مستيطلاً كبيراً ، لم يصمد أمام الضربات الجديدة ، فتقصفت أطرافه كلها ، ولم يزل كذلك حتى خيل إلي أن الجدار قد تهاوى . لكنه استقبل اللوح الخشبي المنتزع بكفيه وأمسك بحاشيته السفلى ، ثم أدناه إلى صدره فأحتضنه واركنه في طرف من المكان .
قال : هيا يا بني أعتل هذه المنضدة ؟
ليس ثمة غير الظلمة الحالكة في عمق الفجوة أما شباك العناكب ، فمن غير المعقول أنها ستكون هناك - قلت لنفسي - لأن المكان محكم الغلق ، ما شككت به مرة قط .. لذلك فقد كانت الظلمة هي الهاجس الوحيد الذي بات يحرك مخاوفي . ولم أمتلك الجرأة لأطلب إليه الذهاب حتى نهاية السلم ، والضغط على زر النور الذي يوجد هناك. لذلك اكتفيت بإرسال بصري في عمق الحلكة . لقد عز علي أن أخيب ظنه ، فلم أقل له أنني لا أرى الرزمة . بل عزمت على إطلاق يدي في الفجوة ، حقاً لقد كنت وجلاً ومروعاً . بيد أن الأمر لا يحتمل التأخير . أنه الفصل الأخير في يوم يضج بالمفارقة، فأغمضت عيني وأطلقت كفي في الفراغ مستقرئاً بأناملي ما وراء الحافة الدنيا . ثمة مس مكهرب لزج تسرب من ذرات التراب اللازبة هناك في القاع ، وعام فوق زغب جلدي . فهجست رفيف الشعيرات الصاعق المروع ، لكن ابي كان يفكر - لا بد - بأمر مختلف تماماً . إنها تلك الرزمة ! ولا يريد إلا أن يتم كل ذلك بسرعة ودقة . فالمحرقة ما زالت تنتظر في الحديقة وهو جاد في القضاء على كل الكلمات التي أحبها ، وأعتنقها ذات يوم ، والتي خاب بها أيضاً . وما كنت سأنقل أناملي إلى أبعد من ذلك لولا أن ذلك المس اللزج قد أفرغ سورته برمتها وانقشع مفسحاً لشيمتي التي شحذها الامتحان السبيل أمام خطوة جديدة .
وفعلت . كانت قوائم المنضدة تزق تحت قدمي ، بينما انتهزت بقعة بحجم الدرهم من شمس الغروب المحتضرة ، وجود ثغرة في الستارة المزاحة قليلاً ، فتسللت وانسكبت فوق جبهتي وكانت ستنهمر في عيني حال لمسي لرباط الرزمة . فهتفت :
- ها هي الرزمة يا أبي .
لم يجب . فسحبت الرزمة . كانت كبيرة جداً ، فاستعنت بيدي الأخرى ، وأدنيتها فشممت رائحة وخمة ، إنها رائحة الفراغ والعطن . ثم نفثت زفيراً حاراً عميقاً ، ولعل أبي فطن إلى سعادتي بذلك النجاح الصغير ، حين سارع إلى إغماد ابتسامة سريعة حاول برهة انتزاعها
من بين شفتيه .
قال : والآن أسقط هذه الرزمة .
فأزحتها بيدي ، وسمعت صوت ارتطامها بحرف المنضدة ، ولما نظرت إلى تحت رأيت ظل حركة تدحرجها على درجات السلم . وكانت الوالدة في المطبخ فقالت : هل حصل شيء ؟ لكن أبي أجابها : لا . أبداً ، ثمة رزمة كبيرة فقط .
ثم هبط السلم مقتفياً أثر الرزمة فألتقطها وأحتضنها ملتفتاً إلي .
- أما أنت فأهبط بسلام . ودع المنضدة في مكانها الآن .
وجعلت أهبط راعش الركبتين ، حتى تم لي ثني ساقي ، ثم تشبثت بحاجز السلم المعدني ، وقفزت وراء المنضدة نافضاً ثوبي ، وأسرعت في النزول ، ثم انفلت خارجاً إلى الحديقة .
كان أبي قد فك أربطة الرزمة ، ونشر محتوياتها من الصحف والمجلات والأوراق ، وأمسك بواحدة من تلك الصحف القديمة ، ثم أغرق في قراءتها ، ولسبب ما لم أجرؤ على الاقتراب منه هذه المرة . لقد تراجعت ووقفت تحت سقف الطارمة ، وبقيت كذلك حتى امتصت الظلمة السنة النار التي أججها أبي من جديد .

* من مجموعة (واجهات براقة)  


ليست هناك تعليقات: