بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 29 أكتوبر 2016

مدني صالح مقاربات في رؤيته التشكيلية والجمالية-عادل كامل



مدني صالح
مقاربات في رؤيته التشكيلية والجمالية


عادل كامل

     في استفتاء كنت أجريته لمجلة (ألف باء) قبل ثلاثين سنة، تضمن السؤال التالي: من هو ـ في تصورك ـ الناقد التشكيلي، الذي تضعه في المرتبة الأولى؟  فكانت هناك إجابة، من بين الإجابات، لفتت نظري، إذ تم اختيار الأستاذ مدني صالح ناقدا ً تشكيليا ً! فسألت مدني صالح، عن رأيه..؟  لا أتذكر الإجابة الآن، لأنني كنت لا أريد أن أقيده في حقل أخير، أو محدد، خاصة انه كان يكتب في الفلسفة، والنقد الأدبي، ويكتب القصة، والمقامة، والرواية ... فهل كان أستاذ الفلسفة في جامعة بغداد، الذي سمح  للفلسفة أن تغادر جدران الدرس الجامعي، لتعمل في الصفحات الثقافية، في مخاطبة اكبر عدد من القراء، وليس لبضعة طلبة دفعهم الحظ العاثر لاختيار حب الحكمة،في عصر: موتها! ناقدا ً تشكيليا ً؟
     لم تكن ثمة إجابة بنعم أو بلا، فقد كنت كتبت في عام 1985، بعد مقدمة توضح أن مدني صالح من أكثر المنشغلين بالتهذيب، تحديدا ً: بالرقي، وانه لم يذهب إلى السينما، أو المسرح، منذ عشرين سنة! أي منذ أواسط ستينيات القرن الماضي.. وانه زار معرضا ً تشكيليا ً في الجزائر عام 1972، ولم يجد غير الرسام في القاعة! على حد اعتراف مدني صالح لي .. ولكن أستاذ الفلسفة، المنحدر من بيئة تقع في عمق الصحراء، تنتسب إلى موروثات الحقب الحضارية المتأخرة للدولة البابلية ـ الأشورية، والذي نشر في بغداد،  في عام 1955 كتابه الأول [ الوجود ـ في الفلسفة الإسلامية ـ مقارنة ونقد] مع كتاب آخر نشره بعد عام واحد، حمل عنوان [أشكال وألوان] ومن ثم الدراسة في لندن، في جامعة كامبردج، والعودة إلى بغداد، بعد حادث غامض لم يفصح عنه الأستاذ صالح، ألا وهو انه أنجز كتابة الدكتوراه، بإشراف المستشرق (آر بري) ولم يناقشها، بل قيل انه رفض مناقشتها، لأسباب اجهلها!
    هذا كله دفع مدني صالح إلى: فن الكتابة. وفي الوقت نفسه، أمضى سنوات طويلة في كلية الفنون الجميلة، واشرف على رسائل واطاريح للماجستير والدكتوراه، في حقل: فلسفة الفن، وعلم الجمال. أي الحقول القريبة إلى الرؤية في النقد التشكيلي.
     وإذ ْ لم ينشر  الأستاذ صالح دراسة في هذا الحقل، يوضح فيها آراءه في التشكيل، وفي الفن التشكيلي العراقي، فان ثمة إشارات ومقاربات كثيرة متناثرة في كتبه حول الفارابي وخراب الفلسفة والسياب والبياتي وابن طفيل وفي ما بعد الطوفان وفي مقاماته الأدبية والروائية تسمح لنا بتتبع والتقاط شذرات من رؤيته الفلسفية والجمالية بالدرجة الأولى، كرؤية تبلورت بنقد مظاهر الاستنساخ، والاستعارة، والمحاكاة، حيث ظهر ذلك في نقده المتواصل للمتحدثين (المتشدقين) بالحداثة! في الوقت الذي كنت أتقاطع معه ـ بعيدا ً عن الهزل ـ في أحكامه إذ ْ كنت لا أرى أكثر انغلاقا ً من رؤيتنا التقليدية وتحجرا ً إزاء انفتاح العالم وحداثته، الأمر الذي جعلنا نضع الحواجز أمام ابتكاراتها، فلم يعترض علي ّ إلا بنشر مقالة حول مخطوطة لي اختار ـ هو ـ عنوانا ًلها، وأطراها وفق وعيه للحداثة، بصفتها ليست قناعا ً أو انتحالا ً، بل إنباتا ً.  وكانت مقالته بمثابة مقدمة لهذا النص [ ألفية الولد الخجول] الذي فسر الحداثة على نحو مغاير لأكثر مستخدميها تزمتا ً، وادعاءً:  على انه لم يكن واضحا ً إلا بدرجة الغموض، ولم يكن غامضا ً إلا في وضوحه، بصدد موقفه من (الحداثة)! لكنه، كما كتب: " إن شاء الحظ وصدت النية، مع التطوريين ومع أنصار التجديد."  الأمر الذي يوضح منهجه في محاضراته في كلية الفنون الجميلة. فليس مفهوم (التجديد) و (التطور) إلا مدخلا ً لرؤيته في تعريف لا يزيد التعقيد تعقيدا ً، مثلما كان يوصي بتجنب تعقيد الواضح السهل.  فما هو (التجديد) وما هي رؤيته للتطور، في الفنون الجميلة..؟ لم أجد إجابة أكثر صراحة، وضوحا ً، من قوله ـ والحديث كان يدور حول سر جماليات الشعر الجاهلي: " إنها حتما ً كذلك. إنها العادات..إنها الطقوس، إنها التقاليد . انه المعتقد.. انه يحمل مرآة الثقافة التي لم تكن إلا مجمل مرآة الحضارة التي لم تكن إلا مجمل تطورات أطوار (عاد) و (ثمود) و (طسم) و (جدس) و (تهامة) و (نجد) و (الحجاز) والربع الذي لم يخل قط من آيات المجد الحضاري الرصين ..." وقد شخص لي، بعد أن استذكر (عبلة) و (هريرة) و (خولة) و (عنيزة) و (مية) حساسية  المعالجة وجماليتها الفنية، بقوله " إنها التي يكاد فضيض الماء يخدش جلدها إذا اغتسلت بالماء من رقة الجلد، وإنها (فينوس) في (خولة) و (عنيزة) في (عشتروت) وظاهر أمر الأسطورة في باطن أمر الفلسفة، وباطن أمر الفلسفة في ظاهر أمر الأساطير. "
    هذا الديالكتيك، في الرؤية التطورية، يسمح للمبدع، كي يكون مجددا ً، أن: يكون متحررا ً من القيود التي تكبل رؤيته. وان يكون التحرر قائما ً على وعي بالحرية في تقنياتها، وان لا يكون ثمن (التجديد) تكسبا ً إلا في حدود الكسب الحلال، وان تكون فلسفة التجديد قائمة على إعادة التوازن:
ـ بين الإنسان ونفسه
ـ وبين الإنسان ومجتمعه
ـ وبين الإنسان فردا ً ومجتمعا ً من جهة والتاريخ كل التاريخ منذ بداية وعي الإنسان من الجهة الأخرى ضمن حدود اعتماد (الفن) وسيلة لاقتلاع الإنسان من موقع وزرعه في موقع أفضل: داخل دائرة اعتماد الإنسان غاية وقيمة عليا، مستندا ً إلى قانون: إن الوظيفة تبرر الوجود، وإنها السبب إليه، والدليل عليه، والعكس صحيح.
     وثمة مثال اخر ذكره مدني صالح، والحديث يدور عن مقارنة بين الفنون التي انجزها الفنان قبل الاسلام، كالعمارة، والخط العربي، والزخرفة، وباقي الفنون، قياسا ً بالشعر، فذكر: " كانت للجاهلية تماثيل من عمل النحاتين الجاهليين .. لكن هذه تماثيل صار اسمها اصناما ً ولم يبلغنا من خبرها الا انها كانت من الباطل الذي زهق حين ظهر الحق فلم تكن منه التماثيل ولم يكن منه النحت .. لكنك تستطيع ان تقدر انهم كانوا يصنعون التمايل حتى من التمر!"
     لكن الأستاذ مدني صالح، في مجال فن النحت، يرجعنا إلى أصول أقدم، حيث كن النحت الشرقي عامة (والبابلي خاصة) أرقى من النحت الإغريقي ومن النحت المسيحي .. وذلك لأنه  لامتناه بناء على رمزيته. وان الشعر، والنحت الشرقي: " كالرسم، وكالنحت، وكأي من وسائل الأداء لا يصير لامتناهيا ً إلا حين يكون رمزيا ً. والخلاصة أن هناك فنونا ًرمزية وأخرى مباشرة. فإذا كان تمثال (فينوس) يتمتع بالوضوح والواقعية والمباشرة، فان تمثال (أسد بابل) يقول الأستاذ مدني صالح: يدوخ الأفلاك! ثم يتساءل: أرأيت أن أحدا ً رأى أسد بابل، وقال انه صورة من صور تدجين (شمشون) و (هرقل) و (انكيدو) في صورة أسد! فما تحقق في (المعلقات) تحقق في سد مأرب.. وفي العمران ..والجسور وتنظيم القناطر .. وكلها قد بلغت أوجها قبل الإسلام. وان (حداثتنا) لم ترتق بعد إلى جماليات تلك المنجزات. حتى انه، وأنا أسأله عن الحداثة، قال بالنص "أنا لا أتداول مثل هذه الكلمات، ومثل هذه المصطلحات .. حداثة.. قدامة ..عصارة.. عصرنة" ثم قال " أني أولا ً ـ في سؤال حول التجديد " اني أولا ً أتداول كلمات نافعة في الحكم النقدي ومنها صح .. خطأ .. صواب .. جميل ..قبيح .. نافع .. ضار .. عادل ..ظالم .. مشرق .. معتم .. الخ لا حداثة عصرنة .. وعصرانية.. وتحديث التقصير في المعاصر الحداثانية!! " ذلك، في رؤية مدني صالح، أن الفن ليس فنا ً ما لم يكن جميلا ً. والفن لا يكون جميلا ً ما لم يكن عدلا ً عادلا ً. والعدل أساس الجمال والأدب والفن والعلم والحضارة والثقافة، وتاريخ البناء، في الماضي وفي الحاضر وفي المستقبل.  فالجمال، ليس بالمعتقد أو باللغة أو بالملايين، ولا بالدنيا كلها، إنما بالإنسان: الصادق العادل الجميل!
     وإذ ْ كنت أشرت، في (جريدة العراق 10/3/ 1988) أن الأستاذ مدني صالح، يبشر بجمالية نقدية، إحيائية، تنتمي إلى الأرض والتاريخ والأصول .. فقد قال لي  انه قد أنجز نظرية (الأوساط والتمدد) في التشكيل وفي التصميم. وهي تلخص حصيلة دراساته وتأملاته، في علاقة الوظيفة بالأشكال، والأشكال بالوظائف: إنها بلا مستقبل إن لم تكون قادرة على التكيف والمعاصرة بما هو نافع في مجال الانتقال من الجميل إلى الأجمل، على غرار قاعدة من قواعد سنن الحياة الطبيعية ومجرى سير التاريخ.


ليست هناك تعليقات: