بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

الاثنين، 31 أكتوبر 2016

قصة قصيرة-عادل كامل

 


قصة قصيرة
تقرير غير مؤكد حول العدم

"لأنك تتصوّر أني أتكلم في الغوامض والأسرار، بينما أنا أقول بكل بساطة أن الكذب، أو كون المرء فريسة الكذب، وخلو عقله من المعرفة في ما هو من اثبت اليقينيات، أن يسكت عن تسرّب الكذب إلى نفسه، هو ابعد ما يرضاه عاقل لأن كل الناس يكرهون الباطل في النفس كل الكره"
سقراط
"كثيرا ً ما نفعل الخير لنتمكن من فعل الشر دونما عقاب"
"إن فضائلنا تكون في معظم الأحيان عيوبا ً مموهة"
لاروشفوكو
[...وها أنت تجدني اكتوي باليقين أكثر من عذاب ارتكاب المعاصي! ]    

عادل كامل

    تساءل بشرود تام، إن كان أصيب بالمرض، استنادا ً لأقوال أسلافه بان اللعنة ما أن تصيب احدهم فلا مناص على المصاب أن لا يرفع صوته، أن لا يحزن، وان لا يتذمر، وان لا يقنط، تساءل إن كانت محض مصادفة، أو وفق خطة ما تضمنت استحالة نفيها، فهو ـ تابع يخاطب نفسه، في الحالتين، ليس لديه ما يعترض عليه، مثلما أن صمته لا يمثل أكثر من مسار الأسباب ذاتها التي توارت فيها الأسباب. فالعلة تامة، منذ البدء، لكنه انتفض: لو كانت في ذاتها، فلماذا أصبت بها كأنها تحولت إلى ذنب؟ تخيل أسلافه اخفوا لغز الأمر، من غير قصد، أو باليات محكمة تطلبت ذلك، ولم يتركوا له إلا طيفها: المفتاح بلا باب، والقفل بلا ثقب.
   كاد يبتهج، ليس بسبب نشوة ملغزة غمرته، من غير سبب، بل لضرب من اللامبالاة اعتاد أن يجعلها عرفا ً شخصيا ً له، معترفا ً أن مرضه، ليس من الأمراض النادرة، الاستثنائية، أو العصية على الفهم، بل: من أكثرها انتشارا ً حد انك لا تعثر عليها إلا لتتجاهلها، وإنما أيضا ً لا تستطيع أن تتجاهلها إلا وقد وجد المرض مخبأه بعيدا ً في المناطق القصية، النائية، كأنك تحولت إلى ممر أو صرت مثل جسر مهمته السماح للقطيعة أن تبقى تعمل وكأنها هي العبور نفسه.
   إنما أخفى بمناورة  ـ مع ذاته ـ انه كان يحدث نفسه، أو كان يسعى للعثور على آخر يستأنس بالحوار معه حول المرض. فقد أكد أن الأمر لا يتطلب فضيحة، أو إثارة غبار، في قضية: لا وجود لها بعد أن اخفت عللها، ولم تترك إلا خيوطا ً وهمية، شبيهة بحافات مجرات اندرست منذ زمن بعيد.
    وشرد ذهنه، مرة ثانية،  متندرا ً بمناورة أخفاها على نفسه، معترفا ً انه غير مقيد إلا بما تحول إلى عادات طالما أنتجتها شطحاتها وما كان يجعله يعمل بمعيتها، من غير قصد، على إنها كانت تتيح له الطيران والابتعاد عن لزوجة الجاذبية، وتأثيراتها، حتى انه كان يستسلم لحالات يغدو فيها شبيها ً بمن فقد كيانه طواعية، ومن غير إرغام، أو تعنت. فكل ما كان عليه عمله هو إظهار مهارات واضحة، كتحديد موقعه في اللا مكان حيث الغياب يكتسب دلالة الحضور التام، بعد أن تلاشى الزمن وتحول إلى صفر ممتد، لا يؤدي دورا ً سلبيا ً أو ايجابيا ً، بل وسيطا ً يعمل بتلاشي قوى الجذب، في الحركة. انه ليس العدم، ولا ما جاوره، ودار بخلده انه أدى كل ما يمكن عمله، بغير شرود، أو انشغالات نادرة، وكتم بقية العبارة.
     ولكنه قال مادام المرض ليس من اختراعه، فانه لا يمتلك قدرة تحديد خصائصه، ومظاهره الدالة عليه، مؤكدا ً انه لم يسهم باستحداثه، أو التنبؤ بولادته، إنما المرض تسلل عابرا ً الحقب والمسافات الطويلة، حتى غدا وجوده لا يدعو إلى القلق، والنكد، فالمرض هو المرض من غير ضرورة لوجود الدلائل، أو البراهين، أو إجراء إثباتات دالة على ذلك. فهو موجود بقوة نفيه لذاته عبر ما لا يحصى من الكائنات، والحقائق، التي دامت وقاومت شتى صنوف الإبادات، والاجتثاث.
      ثم وجد انه يجتاز عقبة الإشارات، وعلاماتها، ليرى انه لم يختر إلا كل ما سعى إلى تقويضه: لا الحفرة التي استبسل بجعلها تبدو لا مرئية، ولا شريكة حياته التي ما عاد يمتلك قدرة على تحديد ماهيتها، إن كانت هابطة من الأعلى، أو جاءت بفعل فاعل. بل انه اضطر لاختراع شكوك راح يجد فيها مبررات للحديث عن مرضه بوصفه انتقل إليه من غير وساطة، بلا لمس، ومن غير قهر.
    ولأن الذبذبات التي اتخذت أشكالها بإرادة وقصد، فلا فائدة من البرهنة على إنها ذات نفع محدد. ودار بباله انه أمضى سنوات طويلة غير مكترث باشتداد حساسيته تجاه ما كان يحدث، حتى شعر، في لحظة التحول، انه سيكون هزأة لو اصدر امرأ ً بمعاقبة نفسه، وقهر إرادته، وإذلالها حد محوها من الوجود. فانا أصلا ً، خاطب نفسه، عملت على ذلك. وفكر للحظة، انه لم يجد ما كان يرغب أن يتعكز عليه، أو يمضي نحوه.
    كيف لم يعد صفرا ً...، تساءل، وهو يراقب الذرات تحولت إلى شظايا لا عدد لها حتى غابت مكونة هالات لها أصوات معتمة سرعان ما تلاشت ممتزجة برائحة دماء جافة. فامتعضت مشاعره بلون مستحدث: غير متوهج ولا يمكن تحديد موقعه في الفراغ. فأحيانا ً كان يتستر على النتائج بوصفها حصلت قبل وجوده، وإنها ستواصل عملها، بعد غيابه، الأمر الذي منحه نشوة كادت توقف ما كان يدور داخل رأسه، قبل أن يراه مفقودا ً.
   ثم عاد يدحض فكرة انه لم يصر صفرا ً، مستندا ً إلى البرمجة التي لا علاقة لها بأية خاتمة ربما تتقاطع مع نواياه وما عمل على انجازه.  فالحفرة ما هي إلا جزء من تجويف اكبر، إلى ما لانهاية، مقعرة، أو منبعجة، أو ممتدة عبر حافاتها...، فما معنى ـ تساءل ـ إن كان هو جزء منها، أو هي جزء منه. فالصفر هو العدد التام عبر تتمات كل سيبقى ممتدا ً.
   كاد يقهقه .. لولا إحساسه بأنه لم يتورط في الإساءة أو يبالغ في ارتكاب الهفوات والأخطاء، بل كان متجانسا ً مع نفسه بشروط ابتكار منافذ مغايرة للمسارات العامة...، وانه حرص للعمل بلا توقعات محددة، تاركا ً الخطة تستكمل كل ما يجعل نهاياتها شبيهة بالصفر التام وقد انصهرت فيه الأعداد. فالخطة نائية ومن المستحيل الاقتراب من حدودها، أو حتى ملامسة أطيافها، ليس لأن العدم جزء منها، بل لأنهما ـ دار بخلده بذعر مكتوم ـ يمثلان مسارا ً لن يترك أثرا ً دالا ً عليهما أيضا ً. فالقضية كأنها حدثت قبل حدوثها. ألا أبدو أني أثير شغبا ً حول قضية ربما لن تحدث حتى لو كان وقوعها بحكم اليقين؟ مثل وجودي غدا يمتد خارج مركزة ليفقد موقعه هنا أو في أي مكان محتمل آخر، مادمت لم أر إلا ما عملت على محوه.
    هز رأسه وهو يراقبها تحك جلدها بجذع نخلة، ثم تبتعد، لتتوارى وراء جدار الإسطبل. متندرا ً بان مرضه ـ كما استعاد كلمات الطبيب ـ لم يعد بالإمكان استئصاله، أو توقع الشفاء منه، فالانتظار لا علاقة له باحتمال الخلاص، بل بما يشبه المصالحة مع عدو وجد كي يخفي أسباب وجوده، ولا يعلن إلا عن مرافقته، وعدم التفكير بالتخلص منه، أو الحد من أسباب حضوره، فليس ثمة عقار مناسب لهذه العلة، ـ سمع صوت الطبيب يرن داخل فراغات راحت تتسع ـ: فالعلة ليست مستحدثة، أو ذات تاريخ، أو أسباب، وليست قدرا ً للتذمر أيضا ً...، بل إنها، أي مرضك: شبيهة بهذا الذي يمتلك أسباب عدم تحديد ماهيته، لا في الولادة، ولا في الموت.
    ما الذي ينفي حقيقة إنني تحولت إلى محض ظل..، إلى محض طيف، إن لم أكن صرت شبحا ً، أو روحا ً تعرضت للاضطراب، والتصدع...، فراحت هذه الروح تتمايل، ثملة، تتسرب نحو مديات ابعد، فانا ربما أكون معاقبا ً بضرورة سبر هذا المرض المجهول الذي أنتج أعراضه...، وان مصيري برمته غدا منفصلا ً عني، بالحتمية ذاتها التي تجعلني منفصلا ً عنه، حد استحالة تشخيص البدايات، أو احتمال  وجود نهاية ما مناسبة له.
   إنما ردد، بصمت تام، انه لم يعد يشعر قط بالمسافة تمتد وتمتد إلى ما لا نهاية، كما أحس بها، وهو يرى الحياة برمتها ليست عبئا ً، ولا كدرا ً، فهي لا تمتلك غاية محددة، مثلما وسائلها متنوعة درجة إنها تعمل بطلاقة، وبمصادفات منتشية بعواملها الفردية ...، لكن مشاعره سرعان ما تجمدت، فقال أن جرثومة ما لا يمكن فك مغاليق أبوابها راحت تعمل بعناد أفضى بها لتجد سكنها في مكان منحها اختراع الشغف الفائض بكل ما كان رآه لا يستحق إلا أن يأخذ مجراه نحو التلاشي، والزوال.
فهؤلاء: الرؤوس....، وهي لا تتميز إلا  برائحة حيوان يحتضر...
   وتخيلها تتدحرج، بعد أن اختبأت خلف الجدار، ثم توارت، كأنها وهم فند وهمه، فيتشبث باختراع حلم ليجدها تحولت إلى دمية، وليس إلى أتان، أو إلى أنثى كركدن. دمية شبيهة بكيس بطاطا، منتفخ، زاخر بالنتواءات، والزوائد، وبإبر حادة، وأشواك ذات رؤوس مدببة، عمياء، هابطة إلى الأسفل، توخز بغواية وتخفي كمائنها، خالية من الملامح، وكأنه لم يرها ذات يوم تشع بلورا ً بلون الفجر..!
   أكانت بمثابة خطة بالغة الحنكة، محكمة، حد انه كلما عمل على مقاومتها انتابه إحساس  برغبة التوغل في مناطقها التي بدت له ممحوة الملامح...، طالما تتبعها عبر الأدغال، والضفاف، والمنحدرات، مستنشقا ً عطرها، وها  هو الآن لا يعثر إلا على اثر يمحو آخر ما تبقى من ملامحها  المندثرة.
ـ كأنها أطلال مدينة أنهكها الجذام...، ففقدت ذكرى براءتها!
     أم إنها مشاعر ما تحمل نسق التنبؤ بشفاء محتمل من العلة...، ذلك لأنه لمح بصره يشرد عنه، فكرر ربما إنها ليست نبوءة، ولا إشارات تحذير...، بل هي اللعنة ذاتها التي عبرت من الماضي السحيق لتذهب ابعد من أي أمل بالإمكان أن يعدل انحداره العنيد...
    إنما شاهدها تتجمع...، تتكوم، مرئية رغم غياب الضوء، فانتابه إحساس بوجود حيز تتضافر فيه الفواصل، والمخلفات...، مثل موقد خمدت ناره، ورماده وحده يكتم كل ما كان يود البوح به.
   مع من أتكلم؟ اطمأن انه مازال يتنفس، فالحياة لم تقدر بجبروتها أن تسلب منه هذا الذي صار يرعاه كبذرة وجدت للخروج من مدافنها ...، الهواء، وهو يستطيع أن يتنفس، متسائلا ً: فمن منا  غدا علة لديمومة الآخر...، أم إن المرض وحده  غدا فائق البراءة، ومنزه عن الشبهات...؟
    انتفض للتخلي من ورطة الاسترجاع، والاستعادة، والتذكر. فمادام اللا متوقع ـ تمتم مع نفسه ـ لا يمتلك قدرة الإجابة على أيهما وجد علة للآخر فان أحدا ً ما من اللا عدد الهائل للمخلوقات فوق هذا الكوكب الظريف لا يعنيه الأمر...، ولا يكترث له...، فكما أنا نفسي اجهل ماذا حدث، وماذا يحدث، للمجرات بعد تحولها إلى إشعاعات، وذبذبات، وأثير كوني، أو لأي آخر لا يجد من يمنحه نسمه هواء، أو قطرة ماء، أجد إنني لا اختلف بالبراءة ذاتها وقد أغوتنا  بالذهاب بعيدا ً في التوغل من غير تردد، أو مخاوف العقاب.
     ترك رأسه يستقر فوق صخرة، ليرفعه قليلا ً، فماذا يفعل المحتضر وهو يجهل فك لغز لعبة الموت، سوى إيقاف النزيف داخل ذاكرة تتوهج بالمنبهات،والظلمات، مستعيدا ً السنوات التي مضت مثل وهم تداخلت صوره بالرموز وصارت طلسمات خالية من المفاتيح، والعلامات. فقد أدرك انه لم يختر شريكة حياته، ولم يختر انفه، ولا ذيله، ولا عدد خلايا الدماغ، ولا مخبآت نظام الموروثات، لكنه اختارها هي تحديدا ً وليس سواها، لأنه لم يقدر إلا أن يجد نفسه اختارها، ليس لأنه ذاق مرارات الإحباط، والمنع، والفشل، بل لأنه وجد تيارا ً لم يترك له إلا أن يختار ممراته ليجد انه كلما بلغ نهايته، يبتكر تدشينات فائقة الغواية، بالانجذاب، وبالعودة لتتبع مساراته العنيدة.
    لو حقا ً لم ْ اختر إلا الذي كنت لا أريد ـ ولم أكن أفكر في ـ اختياره، فانا يقينا ً اخترت الذي كان علي ّ أن اختاره...، متندرا ً، لكنها ليست لعبة، نزوة، ولا مراوغة.
   متخيلا ً المساحة اللا محدودة للحديقة بأجنحتها، أقسامها، معابدها، مصحاتها، مستنقعاتها، وأقفاصها...؛ فلولا الأخيرة، لولا القضبان الحديدية، والأبواب المحكمة، والأقفال، والحرس...، لكان وجود الحديقة وعدمه سواء: برية تمتد برمالها ولا تجاور إلا البراري الأخرى. فانا في الأخير، لا امتلك إلا أن ارضخ لهلاكي!
ـ وهل كنت حقا ً تحلم بحياة دائمة لا تتوقف عند الوهن، والموت؟
ـ لا!
ـ بماذا كنت تحلم إذا ً...؟
   دار بخلده، وهل كنت استطيع عزل الحلم عن القيود...، والضرورات، والضواري؟
ـ كنت احلم أن لا اعتدي على حدود احد...، وأن احصل على الحلم لأرسم له مداه ...، ومادام كل منا ـ هي وأنا ـ تنقصه الدقة، ووجد من غير صدق تام، فالصراع غدا شبيها ً بالنار لا تمتد إلا بانعدام ما يغذي لهبها. لهذا كنا نسمع صوت المحرقة يلعلع: لا تهلكوني بالأشرار!
ـ أصبحت تخفي علينا لغز خلافك؟
ـ بل ـ ها أنا ـ أعلنه: استحالة تحديد أن تكون لنا إرادة تحديد مساحة لرغباتنا من غير قوة  اللعنات التي...، اسمها: تلك المخلوقات الهامدة القابعة في المناطق المظلمة. قوة الاختيار....، وقوة اللا مبالاة في نهاية المطاف.
   تراجع إلى الخلف: هل دار المفتاح في القفل ...؟
ورفع صوته:
ـ هو ذا الحلم ذاته يتكرر: حديقة بلا أسوار، بلا أقفاص! لهذا كنت أراها حرة، طليقة تتنزه خارج قيودها، أما أنا، فكنت اخترت المصير الشبيه بمصير غزال طوق بالأعداء من الجهات كلها، فرفعت الغزال رأسها وقالت لخالقها: ها أنا استسلم!
ـ هكذا اخترت أن تحافظ على حلمك بقيود الحلم...؟
   هز رأسه: تلك هي حدود القيد...، حدود من لا حدود له إلا الحدود التي تجعله طليقا !
وأضاف هامسا ً:
ـ لهذا لم أبح بمرضي...، ولا بأعراضه...، إلا عندما  بلغت العزلة ذروتها: صرت طليقا ً، حرا ً. صرت وحيدا ً من غير أعداء ولا أصدقاء، صرت من غير آخر، ومن غير جسد ينذرني بالهرم والموت! بل... من غير الخالق نفسه!
ـ من غير الرب؟
ـ أرجوك لا تفهمني بالمقلوب...، فقد أدركت أن الخالق وحده يمتلك الصواب الذي لا علاقة له بما كنا نتخبط فيه: أوهامنا، عظمتنا، شطحاتنا، مجدنا، رزايانا، عللنا، سفالاتنا، وهننا، وقد بدت ـ لي ـ سيدي، من غير فواصل أو حدود.
ـ إصابتك العزلة في الصميم...، في العقل وفي القلب، فعزلتك تماما ً..؟
ـ بل وحدتني.. حررتني... وطهرتني من الحاجة، والفقر، لقد صرت كالهواء لا يد تتحكم باتجاهاته، ولا أوامر تقيده، أو تدعه يذهب ابعد من نشوته!
   إنما انكمش ليجد انه أضاع حدود الفجوات، والفواصل، والتصوّرات:  فلم يعد يعنيني إنها كانت هي ذاتها الأفعى أو الشيطان...، بعد أن أدركت إن المرض لم يتكون داخل خلايا هذا الرأس...، أو كانت ترى أن الأقفاص ضرورة لرسم حدود كل واحد من تلك البهائم والضواري والمفترسات.
    وتمتم بصوت مبتهج: فلم اعد أرى الحدود...، ولا الجدران،  لا الأسوار ولا الأقفاص...، لا المدراء ولا الحرس...، فقد امتدت الحديقة حيث اللا حدود تمتد بالاتساع ...، لا تمتلك إلا لغز جبروتها إزاء الصفر!
ـ عدمها؟
ـ عدمها الإلهي... عدمها الخلاق! عدمها الموّلد للعدم!
ـ ها هو الخوف يتسلل إليك...؟
ـ تقصد: البرد.. ووهن الذاكرة، الوجع، وذبول الأطراف، وكلل البصر ...، فالحديقة بسعتها صارت بحدود خرم إبرة!
ـ هو ذا مرضك إذا ً..؟
ـ لا!  فالحامل للمرض غدا يعمل بذات الأمر الذي أوقد الروح في الطين!
ـ ها أنت تجدف ...؟
أخبرتك انه المرض وقد بلغ نصره المؤزر...، وها أنت تراني أتجمد...، لا ارقص، لا أهرج، لا اهتف، ولا احتفل!
ـ ها أنت تكف عن الثناء؟
ـ على م َ، على قرار لم اختر منه إلا نفيه، وعلى قرار لم اعمل إلا على تقويضه...؟
ـ وكيف يكون العصيان إذا ً...؟
    طمر رأسه بالتراب، وكف عن التنفس، مستدركا ً: لو كانت للغزالة قدرة قهر الضواري والمفترسات هل تجرأت ورفعت صوتها بالثناء؟ إنما هي استرخت للذّة ذهابها ابعد من أفواه المفترسات والضواري! وها أنت تجدني اكتوي باليقين أكثر من عذاب ارتكاب المعاصي! ذلك لأن الغفران ـ أضاف بلا صوت ـ ولد قبل تذوق شهد الموت وأنت لا تجد مصيرك يذهب ابعد من حدود ثقب الإبرة داخل هذا القفل، في هذه الحديقة، وربما في هذا الكون!
     لكنه ضحك متندرا ً عندما مر بباله مثال طالما رن ولعلع داخل خلايا رأسه:
ـ تلك هي حريتك احرص أن لا تجعلها أكثر من قيد...، لأنك لا تقدر أن تتقدم خطوة، خطوة واحدة، من غيرها!
     تلك هي المعضلة التي راحت تحفر كي تجد قاعها يقودك إلى السطح. ودار بخلده، انك لم تختر إلا الغواية التي عملت على تجنبها، فصرت تجهل هل هي التي أوقعتك في فخها، أم انك أنت كنت كمينها؟
     وسأل نفسه بشرود: أكان عليك أن تجد حديقة أخرى، وتعلن: أصبحت طليقا ً، ولكنك لم تفعل، لأنك كنت قررت: ليست الأرض سوى مجموعات من الثقوب، الصخور، الحشرات، الفيروسات، الأقفاص، الجراثيم، الضواري، التمويهات، وانك لن تجد نفسك إلا في متاهاتها، وكأنك عثرت على المفتاح...، لتدرك، عمليا ً انك أضعته. فالمتاهة لا تعمل إلا على إعادة نسج خيوطها...،  لتدرك أن المرض كان يرافقك أينما وليت، وأينما ذهبت...، فهو سابق في وجوده على وجودك، وسيبقى حيا ً مزدهرا ً بعد موتك، وموتها. فأنت حر بحدود سبر أغوار الظلمات التي رأيتها  تمتد وتتسع لتشمل مساحات البراري والمحيطات والمرتفعات ...، الكل ضد الكل، الكل منشغل بغوايته ضد تمويهات الآخر...، لتدرك، بعد فوات الأوان، انه لم يعد لديك إلا ظلك يترنح بمعزل عنك، بعد أن غدا جسدك ذرات غبار ورماد وعين ماء لا تبصر إلا عزلتها في الكل الأبدي.
   ومع ذلك تهت وتلذذت العبور عبر المنافي...، كان مرضك لا مرئيا ً، فلم تستسلم، لم تهن، فكانت المتاهات تدعوك للذهاب ابعد منها...، وعندما لم تجد متاهة أكثر شناعة من التراخي والرضا ـ لأن المتاهة هي الأخرى ـ رحت تتوحد بظلها، لأنها ـ هي أيضا ً ـ  كانت تعمل كعمل الأسرار ما أن تبدو ظاهرة  حتى يتم دفنها لتولد وكأنها اجتازت عقبة نهايتها الأولى، لتدرك أن حفرت صارت باتساع المنافي وأنت تارة تزداد ضيقا ً، وتارة تدرك انك لست أكثر من ورقة في شجرة، ومن طيف في الظلمات.
ـ كان اختيارك شبيها ً بمن نجا من حرب سوداء...، ومن وباء شامل، وكأنك نجوت أيضا ً من سعادات النمل، ومهرجانات الثعالب، والضباع ...، فأنت حقا ً لم تختر إلا الذي عملت على هدمه. كان معبدك مقبرة وليس مصنعا ً، حفرة وليس مزرعة، سجنا ً وليس فضاء ً،  لتقول إن أعظم الانتصارات لا تنطوي إلا على قاع هزائمها. لكنك لم ْ تهزم ولم تنتصر...، فأدركت تماما ً إن دفاعاتك لا تستحدث إلا ما كنت تراه ينمو.. ويزدهر، كي ترى حفرتك ضاقت بك حتى أوقفت اتساعها معترفا ً أن مرضك وحده لا يمكن دحره، لأنك ستعمل على منحه اللغز ذاته الذي دفنه فيك. لأنك كنت لا تقدر على شطر العدم إلى عدمين، بل منحته سماحة التوحد بعدم واحد يذهب ابعد منك، ومن أطيافه وهي تطوقك كما يدور الحبل حول رقبة الضحية قبل الذبح.
    لكنك لم تذهب مع المشيعين لحضور مراسيم الدفن. أخبرت نفسك انك كنت تراها تتلاشى، تتناثر، كما فعلت بك، وحولتك إلى عدم يترنح بلا عكازات! هكذا لمحت الخطيئة تنجب أبنائها، لاستكمال دورة الأسلاف. كنت تراها حملت جرثومة المرض ولم تترك منه إلا ما كنت تجد نفسك تحرص على حمايته كجنين كنت تراه بعمر التراب، والماء، والأثير.
   كيف تكّون...، بالأحرى: متى اكتشف انه لم ْيتكون بعد...، فالمرض ليس محض خلايا جرثومية غير حميدة ترعرعت داخل عفن تلك المستنقعات الافتراضية، ولكنها التي مازالت تستحدث ما هو اشد منها قدرة على التجدد...، ليس لأنها حملت معها هذا الذي  أراه يعمل خارج قمقمه، بل لأنها تعمل بلغزه العنيد: ثمة مفتاح دار في القفل، لكن المارد غدا واحدا ً منا: مخلوع حد التمتع بالفضائل كاملة. فكر لبرهة وجيزة انه لم يعد طليقا ً، داخل بذرته، ولا مقيدا ً بقيودها: فالديناصورات لم تترك دابة إلا وروضتها، هذبتها، شذبتها حد التقشير، وبرمجتها كي تبلغ النهاية ذاتها: من غير شر ساحق لا معنى لبلوغ ذروته: العدم من غير زوائد، والحياة من غير تمويهات، وباطل.
   معترفا ً انه لم يكن يتباهى بالأوهام لولا انه لم يعمل على رؤية المشهد حتى نهايته: لم اصب بالعدوى...، بل ـ هو ـ من وجد انه لا يمتلك إلا أن يختار جحيمه.
    سمه صوت الطبيب يتندر: وهل هناك أكثر حماقة لم ترتكب إلا بدوافع أقوى منها، كالفضائل، والمجد، والخلود؟
ـ كأنك تبوح بما لم اختبره، وأفتش في مخبآته،، وبما راح يطن داخل رأسي العمر كله وكأنك تغفل أو تتظاهر بالغفلة أني لم اسبر أغواره اللعينة بنفسي، واكتوي بكمائنه: فأنا هو من  فعل ذلك بإرادة لا مجال للبحث عن أعذار لها، ولا تسويات.
   قال الطبيب بصوت ناعم: لا تدع حساسيتك تنشط كخلايا عدوانية  للغطس ابعد من قاع هذا الجحيم.
   تردد في العثور على إجابة، وماذا بعد...،  وهل كان باستطاعتي اختيار المرض بمعزل عن اختيار عقار يعمل عمل الأفيون...، عمل العدم...؟
    وتمتم بصوت مكتوم: فانا  رأيت ابعد من ذلك.
     وما فائدة الشروح، المبررات، والاعتذارات...، بعد أن تكون النهاية برمجت لمنح الخطيئة كل هذه الفضائل؟
ـ أحسنت...، فلولا تلك الخلايا اللا مرئية لكان وجود الديناصورات أمرا ً يتعذر حدوثه...، مما سمح للمسار أن يستحدث دفاعاته العنيدة. الم ْ أخبرك إنها برمجة لا مرئية للمرئيات وقد عملت على محو عللها...؟
   ود لو كان قد اعترف لها: حمار من لم يمش خلف حمار!
    بيد انه لم يقدر على منع نفسه من الانفجار: وكأنني مشيت خلف غزال...؟!
   ـ أين هي المعضلة...؟  وسأله الطبيب:
ـ هل لمحت خيطا ً من خيوطها...، أم استجبت لندم فاق الغوايات سلاسة ونعومة وعمى تجمعت فيه الأنوار كلها..، أم إنها لعبة أضداد، فلولا الحمل لتهدم عرش الذئاب، ولولا العبيد لكان من يقف في أعلى الهرم حزمة أوهام، ولولا  الآلهة لكان الشر قوة كامنة خارج هذا السرد...، ولكان العدم حاضرا ً بسرمدية غيابه؟
ـ عدنا نستنشق عفن المستنقعات...، ونتلذذ بروائح جثثنا الشفافة!
ـ وهل باستطاعتك أن لا ترى جسدك يتفسخ، يتفكك، يتعفن...، أو يصير ذرات رماد، ويرجع أثيرا ً لا مرئيا ً كما في فاتحة دورته....، عندما اللعبة تضمنت لغز تمويهاتها...، فتارة تجرجر إلى المقصلة، وتارة تشرف عليها بوصفك من استحدثها...، الم ْ أخبرك أن هناك تلك العهود والصفقات بينهما...؛ بين الأضداد..، كي تحافظ على بهائها ورونقها والقها أيضا ً...؛ صفقة لم تبح بأكثر من العمل على ديمومتها، ومحو كل من ينوي الدنو من حافاتها؟ فأنت مريض لأنك لم تعمل إلا بخيانة مرضك، للتخلي عنه، وهذه هي النتيجة: أن أحدا ً لم ينتصر...، إلا وقد أجاد التمويه على هزيمته حد البذخ بإقامة أنصاب لها.
    قال من غير صوت:
ـ لكن لا اثر لي...
ـ أنا لا امتلك إلا نية منحك بسالة المواجهة...
ـ بسالة العدم؟
   معترفا ً بصمت تام: أنت تقول الصدق لتمتلك قدرات اكبر على اختراع الغوايات...
ـ لا.. أبدا ً...، فالغوايات ليست من صنع احد...، لأنها، في الأصل، هي العلة المولدة لمسارات نفيها، العلة التامة، بلا علامات قابلة للتأويل، فالذئب لم يخترع قطيع النعاج، ولا الراعي هو من اخترع الذئاب!
ـ ها هو مرضي صار بلا علة، صار تاما ً..! وأنا بعد الآن لست بحاجة إلى الشفاء!
ـ ومن أنبأك بنهاية مغايرة...؟
ـ هو ذا الوهم العنيد الذي منح الكل هذا التدفق...، كأن اللحظات المضافة لزمن المحتضر تقدر على إخفاء لغز الفضيحة؛ لغز المحو؟

ـ لا فضيحة هناك، أو هنا، مادام الأثر  هو وحده لا يعمل إلا على ديمومته الأبعد...،  وإلا هل كنت أحرزت هذا الوهم حد انك لا تعرف إلا أن تمجده، وتدوّن أسفاره؟
ـ هل أنا هو من مجد الوهم وأقام له هذه الأوثان...؟
ـ وإلا لماذا مازلت تتشبث بالخلاص..، مت كأنك حصلت على ولادتك الأبدية!
   هل كنت أفكر...؟  أغلق فمه لعله يؤثر على عمل دماغه، ويضع حدا ً لاضطرابه، فلا معنى للرد بـ: نعم، أو بـ: لا....، ولكنه عاد يكرر: اختر المفتاح الذي تفك به القفل، وإلا ستفقد توقك للعثور على الباب!
باب من..؟ لم يجب، لأنه لم يعد منشغلا لا بالقفل ولا بالمفتاح.
إذا ً فانا لم اعد مصابا ً بأكثر من مسرة نادرة لا يمكن الوثوق بأنها مغايرة للإحساس بالموت. انشغل لبرهة، ليجد أن لسانه يدور داخل تجويف فمه بحركة لولبية. لكن المعضلة لا تكمن في العثور على الأداة...، المفتاح، بل لأن وجود القفل مهمة شبيهة بهذا المرض الذي لم يسمح لأحد إلا باستقباله بشوق مكتوم. أنا لا أهذي....، دار بخلده، فانا بوضع يسمح لي بمغادرة هذا الحيز، هذا الفراغ....، إنما ليس ابعد من مداه، وابعد من جدران هذه الفجوة...؛ حدود المرض ذاته وقد اخبرني الطبيب باني شفيت منه، ولكن علي ّ التمتع بفترة نقاهة ..، فقلت له: سيدي، لا بد أن تكون سلسلة؟ فأجاب بغموض زاد من اطمئناني باني مازالت أتنفس...،  وعلي ّ ألا ادع الكلمات ذاتها تقودني إلى خاتمتها.
   متذكرا ً انه سأل الطبيب أن يشرح له قليلا ً، هل باستطاعته التمتع بالنقاهة ما لم يتم القضاء على أسباب المرض، واجتثاث علله الخفية؟ فشرح له كيف توجد قضايا ومعضلات لا سببية وإنها خالصة من غير أسباب تفضي إلى وجود ظواهر شبيهة بالعوامل المساعدة، أو بحاملي الكفر، تقود إلى الأسباب ولكنها، في النهاية، منفصلة ولا صلة لها بما حدث، وبما سيحدث، بعد أن يكون دورها بلغ نهايته. فأنت  حر تلقائيا ً شرط ألا تدع الأسى يتلاعب بمشاعرك الدفينة. فضحك حد انه أفاق من كابوس غطس فيه وراح يبعث في رأسه دويا ً وطنيا ً متقطعا ً يماثل من تعافى وغدا واحدا ً مثل الجميع. إنما شعر بالخدر يدب، يزحف، مسببا ً له حالة دوار، ورغبة بالذبول والتلاشي. ...، حد انه شعر برغبة لتنفس الهواء الطليق، هواء ً لم يتم استهلاكه ليصبح ثقيلا ً دبقا ً ولا يخلو من لزوجة ذات مرارة خالية من الملامس. ولأن الدخان الرمادي مازال يملأ الفجوات ما بين السماء والأرض، رفع صوته قليلا ً، لكنت نجحت بالبحث عن ممر أتدرب فيه على المشي، فانا أخبرتهم باستحالة الموافقة على استئصال علة لا وجود لها إلا كوجودي نفسه. فأكد الطبيب له أن هناك خلطا ً يشوش عليه قبوله بالشفاء...، والنجاة، بل وحتى بالحصول ما يرتقي إلى درجة: الخلاص. فسأل الطبيب فجأة: كنت تحدثني عن النقاهة، أليس كذلك...؟ فاخبره الطبيب بان مهمته انتهت، ولا ضرورة لإعادة ما تم شرحه بإسهاب.
ـ فأنت تتمتع برؤية استثنائية...، ورهافة نادرة لكنها لا تعد مرضا ً.
   مد أصابعه نحو جسده ليجده باردا ً وقد تصلب كأنه تجمد داخل ثلاجة حفظ الموتى..
ـ جسد من هذا ...؟
   لم ينتظر ردا ً فقد انشغل بالتعرف على كثافة الهواء. قال: هذه هي العلة، الهواء. ولم يدع فمه ينطق بكلمة خشية أن يربك الهدوء الذي منحه رضا ً أنساه  التفكير بجسده.  فوجد جسده يذوب..، ويتسرب، وشاهده يتحول إلى ذرات متطايرة...، تنتشر وتملأ الفضاء، ليردد بصوت لا يخلو من ذعر مكتوم:
ـ ويقول الطبيب انه لا توجد دلالة ما على إصابتي بالمرض.
    ها هي العلة: انك لا تمتلك قدرة على حسم هل لك دور محدد ...، تم اختياره لك أو أنت وجدت نفسك تؤديه، أم عليك أن تمضي عمرك فائضا ً، لأنك، في الأصل، تتوهم أن لك مثل هذا الدور. فأنت تموت للبرهنة على عجزك تماما ً كما هلكت الديناصورات، ومضى زمنها،  وكما يتم اجتثاث الأنواع التي آن لها أن تهلك، وتزول.
   وانشغل يسأل نفسه، بتردد، انه يهبط هكذا تاما ً من مكان مجهول، فثمة أسلاف خلفوا أحفادا ً...، صاروا أسلافا ً لأحفاد مازالوا يدبون، ويزحفون...، رخويات وبكتريا وخلايا أحادية...، قبل أن يكون هناك عفنا ً...، في المستنقعات، وقبل أن يأخذ الصراع قواعده باختراع ما لا يحصى من الإبادات، والانبثاقات...، لم تكن ثمة معضلة تتطلب حلا ً...،  فالموجودات وجدت تامة الأسئلة بتمام الإجابات. بالأحرى: لا تمتلك أن تفتح فمك، لأنك لا تمتلك القدرة ولا الأدوات للبرهنة على موجودات أنت غير فائض فيها. فأنت موجود لعلة لا علاقة لها بهذا الذي تراه يتفسخ، يتعفن، بعيدا ً عنك، وفي أقاصي روحك أيضا ً. فروحك عفنه! وكاد يلعن نفسه، لولا انه راح يستنشق عطرا ً عزله عن النتانة، ليحس، انه صار كريها ً كجثة تتفسخ داخل حفرة رطبة.
ورفع صوته: على أن العلة كامنة في هذا الذي تصورت انك حسمت أمره، لأنك بت تدرك استحالة إلا أن تختار مرضك...، لأنك إن لم تختاره بتحتم عليك أن تدمر نفسك أو تجعلها نائية لا يمكن لمسها أو مسها،  كي تصبح هي ذاتها علة وجودها. وهنا لا تتساوى الأضداد، ولكنها لا تتوحد أيضا ً...، حتى لو دخلت في حيز منعدم الثنائيات، والأبعاد، لأنك لن تكون أكثر من ذرة توحدت بأخرى لإنتاج فلز مهمته الدخول في تسويات لا نهائية بحسب الخطة التي أدركت، منذ سمح لك مرضك أن تكف عن التدحرج، استحالة مغادرة حيزك في المعادلة. فهل ثمة شفاء لمرض لا وجود له كهذا الوجود الموجع؟
     وأحس بوعيه يعود إليه، فقال متندرا ً: لقد هزمت...، فعاد يصغي للطبيب يهمس في أذنه: المشكلة انك تتمتع بمرض شبيه بالجرثومة التي كلما حاولنا القضاء عليها استعادت مناعتها وصارت اشد فتكا ً...، فلا وجود لها في الأخير إلا بوصفها سابقة على تعرضك للمرض. فأنت غير مصاب بمناعة هشة وإنما المعضلة لا قفل لها ولا مفتاح.
ـ قبل قليل أخبرتني بضرورة التمتع بالنقاهة...، والآن تتخلى عني...؟ وكرر: ها أنا اهزم قبل حصولي على حتى على النقاهة.
ـ قد لا تستطيع الانتصار، إلا لبرهة، لكنك لن تقدر أن تبقى منتصرا ً أكثر من زمن مرورها  ...
وأضاف:
ـ إلا أن المعضلة لا تكمن هنا، بل لماذا لا بد أن تقهر ...، بعد أن تكون قد وجدت من يساعدك الوصل إلى الذروة: الهزيمة؟
ـ هذا ـ هو ـ ما منح مرضي سره العنيد؛ قوته في التقدم، فلو انتصر العبيد والضعفاء على الأقوياء والطغاة، وانقلبت المعادلة، فان دماء الجلادين ستروي عجلة التقدم، لكن ليس إلا عبر مسافتها في الزوال. فالمرض  لا يعمل إلا بوصفه عاملا ً مساعدا ً..، شبيها ً بمحركات الزمن الخفية، كلاهما لا يتركان أثرا ً لحضورهما في المرور، والعبور...، فالعدم إن نطق، فانه لا ينطق إلا بحضور غائب.
ـ انك لم تبق لنفسك لا أملا ً، ولا سرابا ً تجري خلفه، لا وهما ً تتعكز عليه، ولا احتمالا ً قد يدلك إلى الصواب..، كي تموت موتا ً يليق بما حاولت الفرار منه!
ـ  ومن أخبرك إن للموت سلطة على الموتى...، انه، أيها الحكيم، شبيه بجرثومة هذا المرض، إنه كالعامل المحرك الذي يصنع الحركة ولا يتحرك، لأنه لا يفنى ولا يستحدث، ولا عمل له سوى محو كل اثر دال على  مسارات ومنعرجات هذا المحو.
ـ ألا ترى إن ثمة شيئا ً ما، في هذا، لم ُيدرك: أن تخترع وهما ً كي تفنده، كاختراع بريء كي تعاقبه، وكاختراع نهاية حشوتها بهذه المقدمات؟
   ابتسم بخوف أعظم:
ـ لِم َ ـ قل لي ـ لِم َ انشغل الليل بالانتصار على النهار، ولم ينتصر، لِم َ انشغل الشر بالقضاء على الفضيلة، ولم يحرز تقدما ً يذكر، لِم َ انشغل الموتى بافتراس مواليدهم، ولم يتقدموا خطوة واحدة في إحراز النصر...، مادامت النهاية أعدت للجميع قبل الشروع بمنحها هذا الامتداد...؟
ـ لأن زمن المرور لم ينته بعد...، فعندما يأتي اجل الشمس، وتخمد نيرانها، تتجمد الأرض، آنذاك يكون مرضك قد أدى دوره من غير نقص، وربما من غير زيادة!
ـ تلك هي المعضلة: انك لا تنتصر على آخر جدير حتى بالهزيمة...، بل، بالعكس، إن عدوك وحده هو الجدير بالنصر ـ لكن ليس عليك ـ ولا على نفسه، بل على هذه اللعبة التي قسمتنا إلى قتلة أبرياء، والى أبرياء قتلة. فأي نصر هذا وأنت تسفك دماء بنات وشيوخ وفتية الدواب والمواشي والبهائم والبشر....، وأنت تعرف أن عويلهم يتجمع، وان آلامهم لن تذهب سدى، وفزعهم يتراكم، وكراهيتهم تتراص، تتوحد، مثل صراخهم، ومثل قدراتهم الجبارة على خزن هذا كله، ليولد رد الفعل الأعظم، منفجرا ً في لحظة الذروة، حيث تدرك انك أنت وحدك كنت من يعجل بهزيمتك! فيا لها من حياة غريبة وخطة غامضة تمنح البعض قوة السباع والتماسيح والنمور، وتمنح البعض الآخر قوة البعوض والبرغوث والعقارب! لكن لا الضحايا ولا الضعفاء ولا الديدان كفوا عن استحداث بسالتهم العنيدة بجعل النهاية تمتد ابعد من خاتمتها، ولا المفترسات والقتلة تعلموا الدرس. فحتى المنقرضات لم تمح أثرها بطيب خاطر إلا بإنجاب كائنات تجهل إنها ستؤدي كل ما ظنته مجدا ً وبسالة. فيما الهزيمة، هي الأخرى، ما أن تشرع برفع رأسها حتى  تراها لا تترك حجرا ً فوق حجر، ولا صرحا ً يدوم أكثر من زمن زواله. لعبة إن لم تلعبها، ستراقبها، بشرود أو بفزع أو بلامبالاة، فلن تكترث لك...، فأنت لم تختر ما كنت تعمل على اختياره، ولم تختر حتى الذي كنت تعمل على تدميره، تقويضه، ومحوه. فالموت وجد قبل وجود الموتى، أليس كذلك؟
ـ إنما لولى الموتى لكان الموت شبيه بكائن من غير أوامر، ومن غير اله، مثل ابن فقد والده وهو في المهد...، أو مثل أم يذبح بكرها أمامها تحت قبة السماء الزرقاء!
ـ غريب!
ـ لا غرابة...، فان لم تؤد دور الضحية، ستجد نفسك مرغما ً بأداء دور الآخر، وإن لم تتقن لعبة الجلاد فلن تجد سلوى إلا بالبحث عن عقار مستحيل تعالج فيه مرضك اللعين هذا!
   إذا ًفانا مصاب بمرض لا شفاء منه.
ـ أخبرتك...، لا وجود لهذا المرض، فالأعراض لا علاقة لها بما حدث لك، وبما تحدثت عنه.
    ها أنا طليق كأنني أتجمع كي أصبح نطفة.  وأضاف بحذر مشوب بالتردد: إنما أنا اجهل نتائج هذه الممرات..، فبعد انقراض الديناصورات، ظهرت كائنات أخرى بغية استكمال البرمجة، فالخطة وضعت قبل أن يكون هناك عبور، ومسافات، ونهايات. ثم تعرضت ـ هي الأخرى ـ لدرجات الحرارة المرتفعة..، فاستحالت إلى رماد...، والى أثير، ثم بزغ فجر النمل، والمواشي، والحشرات، والمفترسات...
ـ عصر آخر مزدحم بالبلور، والأضواء...، عصر الاحتفالات، مضى تحت شعار: تمتع ولا تنظر إلى الخلف.
ـ ها أنت هزمتني بنصر غير متوقع: ولكن اخبرني من تذوق لذّات المرارات حتى غدا يتتبع أطيافها...، من ارتوى حد ما بعد الهزيمة كي يحمل نصره عدما ً ناعما ً يتقدم باستقامة، وورع، وتقوى...؟
ـ هو ذا الذي شغلنا...
ـ عدنا لا نجد أحدا ً نخاطبه فلا نجد إلا أنفسنا كي لا نجدها إلا صفرا ً يترنح بين الأعداد!
ـ نفسي...، روحي...، ظلي.
     عاد يرى هالات خالية من الأصداء تتموج بنهايات لها ألوان غيوم نائية.
   فانا ظننت أني شفيت من ... الحلم.
ـ كلا...، سيدي، فأنت مازالت تمتلك الكثير الذي لم تخسره بعد.
   اختلطت عليه الذرات، وهو يتلمس الجدار، ليرى عتمة سمحت له باستنشاق ضوضاء أبصرها تلامس جسده وتتوغل حد انه تركها تحمله معها إلى فضاء بلا حافات. فقد شاهد جسده يرقد في فرن توهجت نيرانه  درجة انه غدا بلون لا يشع إلا عدما ً بلا حدود.
   ها هي العلة التي لا أسباب لها عدا إنها تعمل كعمل العوامل المساعدة.
ـ ها أنت ترغمني كي لا أقول شيئا ً..
ـ أحسنت! فأنت لم تخلق لنفسك...
   هذه هي المعضلة حقا ً: إن مرضي يبلغ ذروته...، فانا لن أنجو حتى لو شفيت منه، بل الأمر أكثر صراحة: أن مرضي كالموت، سابق على وجودي،  وسيبقى بعدي إلى الأبد،  انه شبيه بوجود اللاشيء تماما ً، فانا مريض بالعلة التي لا عقار لها، ولا شفاء منها، لأنني إن نجوت من الموت، فلن تنجو الموت من المعاقبة بما هو أقسى منها.!
   ارتج الفراغ بأصوات رآها تتداخل وتمنع عنه فتح فمه.
ـ فأنت حصلت على العقار لمرض لا وجود له. لأنك أبصرت غيابك قبل أن يكون لك حضور، ليكون الخليط اكتملت عناصره كافة.
  بعد زمن لا يعرف مداه آفاق:
ـ ما الذي جرى في كوكب ـ شبيه بكوكبنا ـ ولم يخلف إلا ما يدل على انه توارى، قبل ملايين السنين الضوئية، ما الذي يجري ـ الآن ـ فوق كواكب لها مواصفات كوكبنا لا نمتلك وسيلة حتى لتحديد مساراتها ومواقعها في مجرتنا، أو في باقي المجرات...، وما الذي سيحدث لكوكب سيتكون، بعد تحوله إلى صفر اسود، وهو يمضي نحو خاتمة أعدت له عبر نشأته وتكونه واختفاءه...؟
مصغيا ً لجواب لفت نظره:
ـ ما شأني بالأمر...، إن جرى وغاب، أو انه سيتكون ليتلاشى..، الإله وحده اعرف بخططه، بعد أن تركتني امضي حياتي جثة هامدة تم تحنيطها ودفنها في حفرة؟
     اهو مدخل لحوار..، أم خاتمة له؟  بحث عنها فلم يجدها، ككل مرة، إلا ورآها توارت. فوجد ممرا ً ضيقا ً سمح له بسؤال نفسه:
ـ ماذا لو كنت امتلك إرادة الـ ...
   لجم فمه بحركة لا واعية، مستنشقا ً رائحة أصابعه: كريهة كدم لم يجف بعد. متابعا ً:
ـ ماذا لو ولدت في أي كوكب سوى هذا الكوكب ...، وماذا لو كنت ولدت في أية حديقة إلا هذه الحديقة...، وماذا لو أني اخترت أية دابة إلا هذه....؟
ـ ما شأني أنا بأسئلتك الغريبة؟
    ليتبدد موقع الصوت قبل أن يحدد موقعه، وقبل أن يستمع إلى إضافة. فزحف محركا ً جسده نحو الفتحة: مازال الدخان كثيفا ً، فالحرب لم تنتهي بعد، فتراجع:
ـ ربما هي ليست إلا سلاسل مصادفات محكمة قادت الأولى كل ما راح يكمل تسلسلها...، فلو كنت ولدت...، ولو لم اختر الدرب الشائك هذا ...، ولو لم تكن هناك غواية، وظلال معرفة، وتمويهات آثام عنيدة ...، لو لم تكن هناك أصوات، إشارات، وحكايات مضطربة ...؟

    ها، ها، ها. مبتسما ً بلذّة خدر أحس به يصعد نحو الأعلى:
ـ  لا يمكن لهذا الرأس وحده أن يكون مسؤولا ً عن هذه النتائج، الرأس وحده بمعزل  عما لا يحصى من الأسباب.... ، ليعاقب، وليجد انه لا يبحث إلا عن مدية يغرزها في القلب!
   ليعود يتذكر من غير رغبة:
ـ  عندما رأيت الملايين تزحف..، تزعق، تستنجد، تتضرع، سألت: ماذا يفعلون؟ قالت لي: يبحثون عن ممرات تقودهم إلى السماء.
  فطس من الضحك. هامسا ً بحذر:
ـ هو ذا لغز الداء وسره...، يهرولون، يصعدون، يهربون، تاركين اقرب المقربين يغطسون في الوحل...
ـ من قيدك ...، من منعك...، ولم يسمح لك بالذهاب معهم، خلفهم؟
تساءل بشرود تام:
ـ  كأن العدم وحده يعرف ماذا يعمل، أم إنها هي خطة الإله المحكمة ...؟
    سمع أقدامها تدك الأرض:
ـ  أيها الإله! هل تعرف ماذا فعلت بحياتي...؟
ـ ...
ـ حتى انك لم تدعني أرى الله!
اقترب منها:
ـ والآن من منا علته كانت سببا ً بوجع الآخر...، ومن منا علته  لا شفاء لها ..؟
ـ أنا لم أجدف...، لم اعص...، حتى بعد أن سلبت مني إرادة الحياة وتركتني احتضر في هذا القفص داخل هذا المستنقع.
ـ أكاد لا افهم شيئا ً مما تقولين، ومما يحدث!
ـ غريب! بعد أن حولتني إلى ظل، إلى خرقة، إلى صفر، تتندر كأنك لم تعد إلها ً!
   عاد يتساءل:
ـ كأنها تتكلم لغة غير التي أتكلمها، وكأنني أتكلم لغة تحجب عنها المعنى. فأنا قلت لها، ببساطة: أنا لم اطلب منك ِ سوى رؤية ما يحدث...، لأنه وحده غدا غير قابل للتعديل، لأنه غير قابل للفهم...، بل ها أنا  صرت أدب، وازحف...أيضا ً!
ـ لن امش خلفك...، اذهب وحيدا ً كما ولدت وحيدا ً.
ـ أنا لم اطلب منك تتبع خطاي...، لم استشرك، ولم امد يدي استجدي العون...، والمساعدة، بل قلت: ليذهب كل منا في طريقه.
ـ أنا ذهبت.
   سمع الطبيب يتمتم:
ـ دعها...، دعها ترجع إلى كوكبها،  فما عليك سوى ترك الدرب يأخذك إلى نهايته.. لهلك تجد من يتستر  عليك! بدل أن تختلط روحك بالوحل.
ـ هل فهمت شيئا ً؟
ـ أخبرتك، منذ البدء، انك لم تخلق إلا لتدب، وتزحف.
ـ والسماء؟
ـ عندما لا تسمعك...، فالذنب هو ذنبك، وليس ذنبها!
ـ أنا لم اختر الإقامة في هذا الجحيم، لم اختر أن اقبع في هذه الظلمات، أنا لم اختر أن أرى أحدا ً إلا وغرس مديته في القلب...
ـ  أنا أخبرتك إنها لم تكن حاملة للوباء، بل..، هي، الوباء نفسه! إلا إنها ستصعد وحيدة إلى السماء! وها أنت تراها، مثل الملايين الملايين، كأنها لم تعرفك، وكأنك لم تعد تعرفها. كيف حدث هذا كله وعبر أسرع من أن يكون وهما ً، وأنت تراه سيحدث مرات ومرات إلى ما لانهاية!
ـ سيدي الحكيم، الآن أنا لا اسمع إلا ذرات تتصادم، حادة، لتتلاشى، متجمعة في بؤر، وتعود تتسع عبر فراغات لها أشكال لا مرئية، من ثم تلامسني كأطياف هامسة: امش خلفنا. قلت: إلى أين؟ سمعت: يا دابة، لو لم تفعل فسنمشي خلفك. قلت: إلى أين؟ سمعت: أمش، فالسؤال ذريعة للتوقف، لأنك إن لم تمش فستبقى بانتظار الموت، آنذاك ستجد زوالك دبّ فتهرول خلفه ولا تلحق به أبدا ً.
وأضاف بشرود تام:
ـ ومع أن المعضلة، كما قلت، غير قابلة للشرح، ـ مع إنها تسمح للتأويلات ـ إلا أن عدم شرحها لا يجعل تأويلها أكثر من تأويل الغواية ذاتها؛ فالمرض حقق تقدما ً حقيقيا ً بجعلي في موقع: المراقبة. لقد راح يفترس تاريخ الحديقة جزءا ً جزءا ً، ولم يترك لهذا التاريخ سوى أن يدفن. فلم يكن حضوره فائضا ً، أو محض مصادفة، أو ضربة نرد. فانا أدرك تماما ً انه عمل على شل الفعل، وشل أية رغبة بالعمل، وحولنا إلى كائنات مجهرية لا تمتلك إلا أدوات الفتك،  والافتراس.
وفكر بصوت أعلى:
ـ فانا أصبحت عقبة، وكلما توغلت في سبر مناطقها النائية، أدركت استحالة التقدم، مما يمنح العدم قدرات باسلة على صياغة كل ما يدفعنا إلى: محو بعضنا بعضا ً، وإنزال اشد الأفعال خساسة فيه، هو ذا واجبه. فهو لا يفكر كي يمتلك هويته، لأنه، ببساطة، يعمل على محوها.  فانا سأموت ليس لأنه حقق نصره، وكسب المعركة، أو لأنني لم اخلق كي اربح شيئا ً، بل لأن تاريخنا ـ في هذه الحديقة ـ وجد لينفي حضوره.
متابعا ً، بعد لحظات صمت:
ـ ثم أنا لا امتلك إلا الأدوات ذاتها التي لم تعد صالحة للاستخدام، فانا ولدت فائضا ً إذا ً.....، وهذا استنتاج يتنافى مع المنطق...، فهل الموجودات وجدت للبرهنة على عظمة البرمجة وهي لا تكف تعدل مسارها نحو ابتكار قدرات أعظم على الاجتثاث، والإبادات، والمحو؟
ـ أين ذهبت؟
ـ لا استطيع أن أرى سوى روحي وقد تحولت إلى حبيبات ناعمة تتطاير داخل مجالات لا تسمح لي بأكثر من: محو يمحو محوه، أم إن هذا كله تعبير منحرف عن حقيقة المرض، أم أنا كيان مازال يتكون....، ولكن ضد من...، ومن اجل من...، وأنت أدركت ـ مثلي ـ إن محونا لا يبرهن إلا على ديمومة هذا الذي غدا عدما ً أبديا ً؟ أم انك ستقول لي: إنني اخترت معضلتي لأنني عملت على تقويضها، وإنني لم اخترها إلا لأنني لم أجد سواها وهي التي انتقتني من بين باقي المخلوقات، وإنني مادمت لم اكتسب المناعة، فانا أصبحت معضلة نفسي، مثلما أصبحت المعضلة غير قابلة للاستئصال؟ ولكن اخبرني ـ أرجوك، فانا تعبت، ما عملها، بعد أن تنتهي من حساباتها مع هذه الحديقة؟
ـ آ ...، إنها هي الأصل الذي اكتسب المناعة! كالموت لا يتسلى إلا بزيادة أعداد الوافدين...، وكالشر لا عمل له إلا للبرهنة على أن الأشرار أبرياء في نهاية المطاف!
ـ أرجوك...، اقترب مني.
ـ لا مسافة بيننا كي ابتعد.
ـ لِم َ ساعدتني على الشفاء؟
ـ تقصدني، أم تقصدها؟
ـ لم اعد أميز...، فانا أفكر برأس سلب مني منذ زمن بعيد..!
ـ كي يكون النصر مؤزرا ً بعد هزيمة الجميع!
ـ وأنتما مسروران بمثل هذا النصر...، على حساب هذه المخلوقات التي نسجت من الوحل الملوث بالدماء؟
ـ لا مسرة، ولا شقاء في الأمر...، فالحرب لم تبدأ كي نحسب حسابات ربحها ومكاسبها...، لأن ما رأيته ليس سوى الوهم بتقنيات لا تعرف عنها شيئا ً...، فأنت ستموت قبل أن ينتصر مرضك عليك، وستشفى منه كي تمضي عمرك كله تبحث عنه فلا تجده!
ـ وسأموت وكأنني ولدت لأتذوق مرارات هذا الجحيم..؟
ـ وهل تذوقتها؟
    وهل بلغ الداء ذروته، تساءل مع نفسه، إنما وجد متاهة فترك أفكاره تحّوم فيها، غير مترابطة، مثل بذور تتقاذفها الريح، ومثل جسد مازال يتناثر في الفضاء، فعاد يتشبث بسؤال أيهما كان فائضا ً عن الآخر: هو عن مرضه، أم أن المرض وجد ليحد من رغبات لم يحدد أكانت متأصلة فيه، أم اكتسبها بوجوده متنقلا ً بين الحفر، الزرائب، الحظائر، والأقفاص...
    لم يكترث للبحث  عن رد فقد لمح إجابة غامضة منحته رغبة الاسترخاء: فقد أحس بفقدان للجاذبية،  وبوجود قوة سالبة تسمح له بأخذ قسط عميق من الراحة. فالمرض ـ إذا ً ـ لم يبلغ ذروته بعد...، فانا لا اختلف عن أي كيان أو مخلوق آخر لوجود الأسباب ذاتها التي راحت تكونه وهو لم يعد ينتج شيئا ً ما يذكر، غير المرض، وأعراضه..، أي غير هذا الصفر وقد تجمعت فيه الأعداد وصار عدما ً من غير زوائد،  وتاما ً من غير نقص!
    إنما راح يرى الفراغ ينصهر بالذبذبات التي شاهدها تصدر عن جسده وليس عن رأسه: فالجسد برمته هو الذي يفكر!  فرغب لو وجد أحدا ً ما يخبره بأنه استطاع تفنيد انه لم يعد فائضا ً، وانه لا يكن كراهية للمليارات التي لم يعد لها اثر...، فانا كلما فقدت الإحساس بالألم ازداد إدراكا ً بالتعرف على ما كنت ارغب لو لم ادعه يتبدد، ويتسرب، متسائلا ً،  هل باستطاعته أن يحدد ما فقده، وهو ذاته قد تحول إلى ذرات والى جسيمات لا مرئية متماثلة في انفصالها وعزلتها  وترابطها العنيد.
   فهل حقا ً لا يمكن رؤية الحياة إلا  بوصفها احد أكثر المشاريع سلبية للتوحد بهذا الذي حمل اسم: الموت...، الذي هو تاريخي وقد غدا شبيها ً بمرض تمت السيطرة عليه..؟ أجاب مؤكدا ً: والاحتفاء بما أنتج من عراك، اشتباكات، مكائد، وحكايات لا تجد من يصغي إليها، ولم تجد أحدا ً يضع لها خاتمة لا تستحدث ديمومتها ؟
رفع صوته:
ـ لقد بلغ مرضي ذروته...، فموتي لا علاقة له بالأعراض التي عملت على استئصالي. وود لو غادر وهتف بأعلى ما يمتلك من قواه الواهنة: ها أنا أتمتع بالاطمئنان ..، بالرضا...، بل بالمسرة والحبور...، فانا لم أتعرض للمسألة...، ولن أرسل إلى جهنم!
ـ شفيت...، بمعنى: انك اعترفت بمرضك؟
ـ أخبرتك ..، أيها الحكيم: بالشفاء...، لكن ليس من المرض...، بل من أعراضه!
ـ ها أنت عدت إلى العلة التي لا علة لها. إلى السبب التام!
ـ حتى لو كانت أدلتك موثقة، لا تقبل الشك، فانا لن أتوقف عند ذروتها. لقد أخبرتك إن الحياة لا تستحق إثارة هذا الاضطراب، وهذا اللغط، لا هذا الصخب ولا هذا الحبور!
   ولم يفصح عما دار بخلده، وزحف نحو الضوء:
ـ لكنك لا تستطيع أن تتجاهل إننا نتكدس كتلة موحدة داخل هذه الحفرة...، وداخل هذه الأقفاص...، في هذا المستنقع؟
ـ ها أنت بدأت تبحث عن البديل المستحيل، البديل الذي لا وجود له.
ـ ....
ـ أخبرتك...، إن الحرب لم تبدأ بعد...، ومن الصعب استفزازي للحديث عن نهايتها...، أو للحديث عن مرضك الذي شفيت منها.
ـ ها أنت تلمح أن الحياة عبور ابعد من هذا الذي مضى وتوارى وزال؟
ـ ها أنت عدت تتحدث عن الأعراض...، لكني أؤكد لك أن الشفاء تم بنجاح باهر، حتى لو كان المريض فارق الحياة!
ـ أحسنت!
ـ لكنك الآن تؤكد انك عدت إلى المرض اللعين!
ـ آ...، أيها الحكيم، الآن أدرك تماما ً انك تحديدا ً لا تريد إلا أن أحافظ عليهما: الأعراض والمرض أيضا ً...، كأنك مكلف من العدم بالحفاظ على ديمومته...، والسياق يثبت  ذلك.
     رفع أصابعه قليلا ً إلى الأعلى، فلم يجد فتحة، فتحسس جسده: المرض انتشر على نحو تام  للحفاظ علي ّ، وأعراضه صارت عونا ً لي بالذهاب عميقا ً في الظلمات.
معترفا ً مع نفسه:
    ـ هو ذا المفتاح يدور في القفل؛ فأنا كنت اعمل أجيرا ً عند المرض!
   ضحك المرض ساخرا ً:
ـ بل أنا ـ هو ـ  من كان مكلفا ً بخدمتك عبدا ً يعمل من غير قيود..!
ـ أكاد اجن: من يعمل عند من...؟ فأنت لم تخلقني كي أعبدك، ولا أنا اخترعتك كي أرعاك...؟
ـ تلك هي المعضلة التي ستقودك إلى السجن..، وربما إلى قطع رقبتك، أيها الزنديق الكافر!
ـ أنا لم أجدف...، ولم اعص. فانا هو جنين الحمامة الذي لم يتكون في الرحم بعد!
ـ بل ذهبت ابعد منهما...، وكان عليك أن تضبط حدودك...!
ـ حدود مرضي...، أم كان عليك أن تعرف أنت حدودك معي؟
ـ هذا مقبول كي لا ترسم الحدود، بيننا، بسفك الدم.
ـ لم افهم؟
ـ كل دابة، كل بهيمة ترسم حدودها بالبول...، هكذا لا يعتدي الذئب على النمر، ولا الفهد على السباع...، ولا ابن أوى على الثعالب...
ـ من غير سفك دماء، وحروب جائرة..؟
ـ اجل...، الحرب لا تجري إلا كما فكرت، طوال الوقت، بالقضاء علي ّ..، وكان عليك أن تدرك، منذ البدء، استحالة انتصار احدنا على الآخر...، فلا أنا امتلك أوامر بمحوك، ولا أنت لديك صلاحيات بالقضاء علي ّ.
صعق:
ـ ماذا علي ّ أن افعل...، وأنت تعرف سر شقائي كله؟
ـ لو كنت اعرفه، كما قلت، لكنت عثرت على حياة لا اضطر فيها إلى المكر، والتمويه، والمناورة..!
ـ آ ...، أيها الماكر ...، طالما ساعدتها بإيذائي، بل بتدميري، وإفنائي...،بل حتى انك وجدت رعاية غير معلنة من لدن هذا الحكيم، الذي اشرف على علاج مرضي؟
ـ هذا احتمال لا يمكن استبعاده..، طبعا ً، لأننا، هي وأنت، وأنا والطبيب، نعمل على تنفيذ خطة ليس علينا إلا أن نكملها...؛ خطة وضعت قبل وجودنا، وستبقى تعمل بعد هلاكنا أيضا ً.
ـ هلاكنا؟
ـ  نعم، سيدي، فأنت تموت كي يأتي حفيدك يكمل مسيرة  أسلافك..، وهي تموت كي تأتي ابنتها بأولاد يديمون زخم الاشتباك، والطبيب، هو الآخر، ستعمل إرشاداته، وكتبه، عمل الحد من تجاوزنا لحدود عملنا، أو الإسراف فيه، فنحن جميعا ً، بكل صنوفنا، سنبقى نحرص على إتمام ما هو متصل، مادام لعملنا الفوائد الاستثنائية التي غايتها التوازن بأداء واجبنا على الوجه المقرر...!
ـ من أنت؟
ـ أنا هو واحد من المجموع الذي لا يمكن إحصاء عدده، المكلف بتنفيذ هذه الخطة في هذا البرنامج...!
ـ وعند من تعمل... ؟
ـ عند الذي تعمل امرأتك، والطبيب، وأنت عنده!
ـ آ....، حتى الأسى يجيد الدفاع عن نفسه؟
اقترب منه:
ـ وإلا هل كنت استطيع الفتك بكم عن طيب خاطر، أو بدوافع التسلية، والشفافية، والترفيه الباذخ، أو حبا ً بارتكاب الآثام..؟
    لم يعد لدي ّ عقل...، مرددا ً، وهو يدور حول ظله، ولا قدرة على الفهم.
اقترب المرض منه:
ـ وماذا كنت ستعمل لو كان لديك عقل...؟
ـ لكنت قضيت عليك، واسترحت!
ـ أيها العجوز الهرم..، المعزول حتى عن نفسه، هذا لن يحدث، ولو حدث، فان ما تبقى منك  سيبقى يبحث عني. فلا أنت وحيد، ولا هي وحيدة، ولا الطبيب وحيد، ولا أنا أيضا ً...؟
ـ ها أنت تقودني إلى السؤال المستحيل: إذا كنا جميعا ً سنهلك، ولا نترك إلا من يكمل مسيرتنا، بديمومة زوال لا يزول، فمن ذا سيجني ثمرة هذا الكد والجهد والشقاء على مدى مليارات مليارات مليارات مليارات .....، السنين الضوئية؟
ـ لو كنت اعرف...، لقضيت عليك...، واسترحت، بدل أن ادعك تديم زخم صراع لا ينتهي بخسارة احد، ولا حتى بفناء الجميع!
ـ لا بد انه الإله...، يا سيدي؟
تساءل المرض:
ـ  وما نفع الإله من صخب كائنات واهنة لا عمل لها سوى ابتكار ما هو اشد تعسفا ً وقهرا ً وجورا ً في ديمومتها الزائلة...؟!
ـ وهل ستدوم، وهل ستزول، بعد أن أدركنا إننا لا نمتلك إلا أدوات تستحدث مخبآتها لإكمال خطة ستمتد وتمتد حيث برمجتها تشتغل من غير وهن، وكلل، وبعيدا ً عن كل العثرات...؟
ـ ها أنت تجاوزت حدود السؤال...، أما أنا فلا امتلك إلا أن أبقى اعمل بحدود عملي! هل فهمت الآن لماذا وجدت الغوايات، والتمويهات، والمراوغات...، لماذا يمتحنك الموت بأشد النكبات قسوة، وغرابة.. ...، ولماذا لا تحصل على الغفران إلا وأنت ذهبت ابعد منه، لكن عبر دروب الخطة، وممراتها، عبر الذي ظننت انك أمسكت بمتاهته، وليس بسرابه، كي تجد الذي أضعته، وتغيب...  ؟
   ها هو تاريخ إزاحة...؟ لا...، معترفا ً ومعترضا ً، فلا أزمنة هناك كي تتجمع...، وكي تزاح، أو تستبدل. انه المحو وحده ينبثق بلا مقدمات: ويتلاشى كهذا الذي رآه تحول إلى رذاذ جاف. فالصفر، دار بخلده، غدا ً دويا ً من غير صوت، وصخب، وبلا امتداد، واضطراب. لكنه لمح غيابها بلا قطيعة، يتدحرج، ويمتد، متقطعا ً، من غير أمل إلا بالعثور على اثر...، عدا انه لم يعد يستأنف ما دار بباله بوجود موت سابق، وآخر، بلا حافات. فالجرثومة راحت تمحو أعراض مرضها ـ مرضها ومرضي ـ كي يتكون...، وقد رآه مثل نجم يلمع بحدة أفقدته الرؤية، فترك رأسه يتمايل، وأصابعه تتشبث بالهواء...، وثمة ظلمات أحس بها تلامس حواسه، جلده، وتتحول إلى خلايا أدرك إنها مازالت تمتلك مناعة ضد المحو...، فأفاق، لبرهة، ممسكا ً  بفراغات بدأ ينسج بها بساطا ً للطيران؛ هو ذا اللا زمن إذا ً....، إنما أحس بثقل جذبه إلى الأسفل، فوجد انه حلق عاليا ً، فانا أموت إذا ً...، لا، مستنشقا ً رائحة وعود رآها تذوب، تتهدم، وتقترب منه. فانا كنت اخترت إذا ً...، لا، منجذبا ً لمتاهة قادته ليرى انه لم يعد وحيدا ً....، بل منجذبا ً، يدب، يزحف، ثم يجد جسده مطوقا ً بالفراغات ذات الملامس الباردة، فالزمن باح بما لم يفقده: براءة دفنها قبل أن تهرم، وقبل أن يتذوق الآم العدم تتموج مرحة بغضب مضطرب وبحروب لم تترك حتى أثرا ً لمحاربيها، لمكانها، لأسبابها، لتاريخها....،  حتى كاد يخبرها بما سمح للمفتاح أن يدور بقفل الباب: لم نجن إلا القهر منبثقا ً...ورفع صوته، لأن حضورك كان صنو غواية الأفاعي، لا براءة ولا إثم،  كان حضورك تاماً، مثل وجود من غير علة، يمضي ابعد من أسبابه، لا يخفيها، ولا يعلنها، ليبقى أبدا ً يذهب ابعد منها. لكنها لم تجب، لم تغب. كان غيابها قد اكتمل...، فقبل زوالنا، وبعده، هل ثمة قوة ما باستطاعتها أن تحدث ثلما ً، أو فجوة، في مسارات حكاية غير مؤكدة، لكن لا احد باستطاعته أن ينفيها، أو يمحو أثرها في ملغزات هذا العدم.
    وهنا تكمن المفارقة، إلا إنها أكثر التباسا ً:
ـ فلو لم ْ أكن أنا هو هذا الذي علي ّ تدميره، لكان وجوده بمثابة مد بأيام عمري، لكنه فعل كأنه تام الحرية في فقدانها. فانا لم اعد أميز أو امتلك قدرة وضع فاصل بينه وبيني، فكل منا متجانس حد ذوبان التقاطعات، والاختلافات، فانا وهو صرنا مثل الأعداد تتجمع فيها بسالة الأذى حد الشفقة. لأنه  لو كان سلك ـ ولو كنت أنا سلكت أيضا ً ـ غير هذا التدرج المبني على ما لا يحصى من العثرات، الارتدادات، والوثبات، لكانت الفجوة قد اتسعت بين الفعل والفكر، بين التشكل حد بلوغ الذروة وبين غيابها التام.
     فهو ـ مثلي ـ اضعف من أن يكون ضعيفا ً، مطوق بالذعر، لا يمتلك الا الحد الاخير من الجهل، فهو اكثر من ان يتسم بالجهل، انما لاسباب اخرى، منها، استحالة تحديد معيار للحكم، غدا كل منا لا يسمح للاخر ان يكون الا ما صار عليه: جرثومة تعمل عمل حيوان خائف، عديم السمات، شارد الذهن، منهك القوى، عديم الحيلة...، انما، على خلاف هذا، غدا كل منا شبيه ببركان ما ان يخمد، الا ليباشر باستكمال برمجة انفجاره التالي.
   فما أكثر منافع الرداءة! لا اعرف أأنا بحت له بما دار ببالي، أو هو من دندن مع نفسه ليبوح لي بان ما يرعبه، ويعري وهنه، ويفقده صبره، شعوره بالتقدم خطوة لإجراء التسوية.
    ذلك لأن الجرثومة ـ جرثومة الرداءة ـ أدركت تماما ً أن تقدمها خطوة واحدة لا يعني سوى الحصول على ما هو ابعد من الحلم: موته الذي هو موتي، وموتي الذي هو موته، لكنها أدركت إنها لا تمتلك هذا ألتوق، مع أن كل منا، عندما تتجمع خسائره، وانكساراته، وما لا يحصى من مرات الإبادة التي عشناها،والمحو حد إزالة كل ما يخلفه المحو ...، يجد انه صار لا يمتلك قدرات مضادة، وقوى لا مرئية تسلك أفعال الإعصار أو الزلازل أو البراكين أو الطوفان: النشوة بنصر محكوم عليه بتذوق مرارات المحو، وما هو أسفل كل درجات الخسران، والإخفاق.
   لهذا كان من المستحيل عزل الفعل عن الفاعل، مع أن الأخير، بخبراته البدائية، لا يمتلك أفعالا ً تدوم أكثر من الفراغ الذي يهرب منه. ففي تلك المناطق غير المسكونة، ولا أقول المشغولة بما بعد ـ وبما قبل ـ الفراغ، بل بهذا ألتوق النائي الذي تسكنه البذور العنيدة، والتي ترسخت فيها ما يشبه اقتران الصفر وقد صار عددا ً. فهو يقول لي: العدم ممتدا ً، وأنا أقول له: امتداد العدم، وديمومة ديناميته!
     هل أجبت على السؤال الذي لم يخطر على ذهني أبدا ً...، لماذا انتصرت هذه الديمومة، وشيّدت، حتى عبر تمويهاتها، وأقنعتها، وخداعها، سكنها، وصارت غير الذي حمل موتها؟ وكيف غدا التسلسل شبيها ً بسلم  لا ينتهي بباب، بل صار هو ذاته الممر، يؤدي إلى ما لا يحصى من الممرات، هي الأخرى تعمل عمل السلالم، لا تمتلك إلا غوايات عنيدة، تجعل أي تقدم بمثابة العثور على عقار  لا يدع للأفعال أن تصبح اسما ً، أو ترتقي لتشكل عنوانا ً.
   أم أن هذا كله تصدعات أبعاد، لا تمتلك إلا إرادة البوح بالحد الأدنى من أبقاء الهزيمة مؤجلة، مثل النصر، علاقة أطياف تنبثق بالمرور من اجل الاختفاء...؟ لأن هذا الذي تشكل بين الفراغين، ليس دويا ً، وليس جذاما ً، وليس وعدا ً، بل الذي سلبت منه هزائمه، كما سلبت منه انتصاراته، ليصبح التقدم ذاته الجرثومة التي عملنا على تشييد أنصابها، وصروحها، ومعابدها، وشركاتها العملاقة ...، عبر الدخان والأثير....، وكأن كل الثنائيات، حتى التي لم نلمح أثرها، كانت عنصرا ً مكملا ً لنشوء جرثومة تمتلك هذه المواصفات؟
   هل بحت ـ بلا إرادة مني ـ عن إرادتي بعدم الرضا ...، لكن ماذا يعني أني سبرت أغوار الخطة التي لم أر منها أكثر مما جنته أدواتي بالتنقيب، وقد كنت واعيا ً تماما ً أن الشيخوخة لا تنتج الحكمة بمعزل عن الوهن، ولا تقود إلى النافع بمعزل عن الضار...؟
     إنها حكاية نبات لا نعرف شيئا ً عنها، نبات ظهر مثل فطريات لا مرئية، ومكث يؤدي الدور الذي أؤديه أنا مع ـ هذه العلل ـ العثرات، ولكننا لا نمتلك حتى الاعتراض عليها. فانا سأموت ليس لأنني اخترعت الذي عملت على دحضه، أو لأن المرض هو من فتك بجسدي الهزيل، بل لأننا لم ننشغل إلا بإنشاء بناء يذهب ابعد من أوهامنا، وأحلامنا....، فهل هناك عدالة دمرت أركانها كما فعلنا، مع ذلك لم نر إلا ما حصل بمعزل عنا، لنبصر المشاهد تجري عبر ما لا يحصى من الشاشات، ناعمة وسلسلة بقسوتها، عشوائيتها، ونظامها العنيد.
    فانا لم اعد امتلك إلا ما تمتلكه: الصخور...، وهي تستكمل دورتها في المختبر الأكبر...، إن كنت أنا هو من أبدى كل البسالات أو استسلم لها، كرها ً أو لامبالاة، فانا أتدثر بالكلمات، وبالمشاعر المعادة، وفي كيانات اجهلها، ليس لأن أدواتي باطلة، وليس لأن اللا شرعية فاتحة الاستطراد، والحشو، والاشتباك، بل لأنني ـ ككل من عملت فيهم هذه الجرثومة ـ لا نمتلك إلا المضي ابعد من خضوعنا للغوايات، وكأني بت قانعا ً بالرضا ـ هنا ـ والقبول بالتسوية، مساوما ً هذا الشبح، ذكرا ً أو خنثا أو أنثى أو عاملا ً مساعدا ً أو بعدا ً لا مرئيا ً للتخلص من تراكمات أراها تقترب من التحول إلى بركان...، إلا أن للكلمات أداء يتستر على ملغزاتها، كي أصبح ضحية شهامة مغوار مضى إلى الحرب، وكي أتذوق مرارات هزيمة الأخير وأنا لا امتلك إلا أن أدّب، ازحف، أتموج، أتطاير، واثناثر ...؟ معترفا ً بنهاية رحت أتدثر فيها وقد انصهرت فيها المتضادات...، لأن الخروج من العالم، حتى بالحد المعقول، ليس أكثر من إرغام العالم بمنحي عقارا ً يحقق لي الشفاء بدل تحولي إلى مرض اكتملت ألغازه العنيدة !
   فهل ثمة متاهة ـ أدندن مع نفسي ـ لا تستدعي أن أقول لنفسي بإصرار: لا تدعها ترحل! فأنت لا تريد أن تأخذ إلا غيابك، وتدع للحضور أن يتذكر مسرات تردم الأسى، وأنت تراه شبيها ً  بالمنحدرات التي كوتنا، واكتوينا بمحوها، فزورنا المشهد كي يغدو احتفالا ً...، وكسونا الصراع أعلاما ً كي  تمتلك خواص الابتهالات، والمجد.
    تبا ً ليدي ّ وهي تداري زحفي، كلمة كلمة، من غير فواصل، مثل قنفذ لم يجد شريكا ً إلا أشواكه كي يدعها تعمل عمل السكين في القلب، حيث الأدوات عديمة النفع تؤدي الدور ذاته الذي يؤديه الموت مع من سيولد، يانعا ً، في كوكب أو في مجرة لديها عدمها تستحدثه مادامت كل لحظة، مثل كل فراغ، ومثل كل ما لا وجود له إلا عبر عبوره، ومثل كل كلمة لا تستكمل إلا ما يكمل استحالة ردمه...، ادع رأسي يتجول بما أحدثه المرض...، أنثى كان أو خنثا  أو عاملا ً مساعدا ً، في ّ، بعد أن راح العدم يدوّن كل ما تم دفنه، ومحوه، وانتظار بزوغه أكثر محوا ً، وعنادا ً، في الانبثاق.
17/10/2016
Az4445363@gmail.com


ليست هناك تعليقات: