بحث هذه المدونة الإلكترونية

مرات مشاهدة الصفحة في الشهر الماضي

السبت، 29 أكتوبر 2016

تلك المسلّة البعيدة-المؤلف كريم النجار


كتب
تلك المسلّة البعيدة


تلك المسلة البعيدة  

المؤلف
كريم النجار
  

 الطبعة الأولى: القاهرة 2009 
دار أدب فن للثقافة والفنون والنشر
بالتعاون مع مؤسسة شمس للنشر والتوزيع
لوحة الغلاف للفنان: مهند العلاق
تصميم الغلاف: كريم النجار

رقم الإيداع: 19410/2008
البحت التائه، التاريخ، وتجربة الحياة اليومية
في ديوان "تلك المسلة البعيدة"   
  
"حسين عجة"
يستوقفنا، قبل كل شيء، العنوان الذي أختاره الشاعر لسفره الكبير هذا، وذلك لأنه يدخلنا من كلمته الأولى ضمن ديوان الشعر العربي في بحثه الواسع، الصعب والمشتت عن بقايا "الأشياء" والكائنات. بحث جديد عن الإطلال. مغامرة أخرى لطرح تساؤلات قد لا يتحمل إيقاعها الحاضر الرتيب والصاخب في آن معاً. ذلك لأن "البحث" هنا لا يكف عن الانشطار، أو أن منهج البحث ذاته يتعمد ذلك الانشطار. فتارة يتوجه المسار نحو الماضي المتواصل العيش، أو الماضي الذي لا يقبل بالوقوف ضمن حركة التاريخ، أي ابتعاده ولو قليلاً عن الحاضر، حتى يتم تناوله وتأمل موقع الضربات فيه، ومن ثم وضعه في موقع التجربة التي تمت معايشتها من قبل. كلا. فهذا الماضي لم يصبح ماضياً بعد. ذلك لأن نوعية وتوتر أحداثه، دمويتها وشراسة دمغاتها، تقدمه وكأنه ماثلاً في كل لحظة من لحظات غيابه. لا على صعيد الذاكرة وحدها، أو كآثار صور بدائية، ممحوة، ترتد في زمنيتها لماضي سحيق وحسب، ولكن لأنها لا تكف عن الامتزاج وتعكير صفاء الحاضر، أو حتى مجراه المسربل العادي. وتارة أخرى، يساورنا الشك بأن البحث برمته منصباً على تشابكات الحاضر، وتفاصيل التباساته اليومية، فيما يبقى الماضي محض خلفية لمعايشة آنية تمحي صوره ورتوشه القديمة، حتى وإن كان ذلك على صعيد المتخيل، أو ما يمكن أن يكون بديلاً له : نحن فقط في الحاضر المحض، بكل ما تنطوي عليه المفردة من رعب وبياض، لا يسمح بظلال أخرى غير تلك التي وضعها لنفسه كحاضر وحسب.

قلنا أن الديوان يستوقفنا بدءً بكلمته الأولى، لا لأنه يضعنا فجأة أمام "البعيد" أو "مسلة" ذلك البعيد، ولكن لأن مفردة "تلك"، وبغض النظر عن استخدامها اليومي وعفوية ما توحي به ضمن قاموس اللغة المُتشكل، تحيلنا بدفعة واحدة نحو أنفسنا، إذا جاز التعبير، لدرجة تولد لدينا شعوراً بأنها وحدها من يتحمل ثقل مسافة البحث، أكثر من "المسلة" ومن ذلك "البعيد" الذي يتم تذكره. أو مسافة البعد المفترضة للبحث عنها، أو لتسميتها وحسب : أن يقال كانت هناك "تلك... المسلة". وبذات الحركة الواحدة، تحيلنا نحو "أشياء"، كائنات، أحداث، عبارات، وجوه، وحتى بعض الأحاديث التي لا نعرف من قالها ومن أصغى لها.

كذلك لا ينبغي، من وجهة نظرنا، التعامل مع مفردة "مسلة" باعتبارها شاخصاً مادياً، يمكن اللجوء إليه، أو أنه كان في يوم ما حاضراً، ومع اندثاره قد ولد إغواء البحث عنه، عند أحدهم. فالمسلة التي يتحدث عنها النجار هي، في الحقيقة، علامة الانفصال، الدالة اللامادية عن الشيء ذاته وما يتجاوزه. أو، بدقة أكبر، المسلة هي الإشارة غير المرسومة في مكان ما، أو التي لم يقم ببعثها كائن ما. أنها الانفصال والانشطار المحض. تلك التي "يتحنط فيها الكلام". تلك التي ترغم الشاعر على القول:
تلك أيامك الخاوية
يتصارع ثوران... في حضرتك
وأنت لاهي بيومك المتأخر
ساعة أو ساعتين
بتعبير آخر، المسلة هي ما لا يمكن البحث عنه. الشيء المولد للخواء ذاته. الخواء الذي ليس بالخواء، بل نزاع؛ والذي يعطي نفسه، في البداية وكأنه بدون منازع، ولكننا سرعنا ما نكتشف "صراع الثيران فيه"، في حضرة ذلك الذي قد يلتفت له ولا يمنحه من زمنه المتأخر سوى "ساعة أو ساعتين" في اليوم الواحد. ظن منه بأنه بهذا يكون قد واجه حجم وضخامة "الفجيعة"، التي سيأتي الحديث عنها لاحقاً. لندخل في العمل : تحمل القصيدة الأولى عنوان "أيامك الخاوية". يبدو أن ثمة ذات تجري مخاطبتها هنا. غير أنها معدومة الوجود. فما يصلنا عنها أو منها، يظل وكأنه منقولاً عما يُقال بخصوصها. من هي هذه الذات؟ سيكون من العجالة القول : ذات الشاعر. وقد يكون الحال هو كذلك، بالرغم من صيغة الحوار الضمني الذي يغطي القصيدة بكاملها. تتشكل إذاً، شيئاً فشيئاً،، لدينا معرفة أكبر عن توزع ميادين الديوان، فبعد الخواء، وتحنط الكلام، نفاجأ بالجوهر المتجذر بذاته، أو الذي يريد "هو" التجذر فيه. لنرى الثمن الذي ينبغ دفعه من أجل ذلك التجذر :
"ليس سواك من أحدٍ
يجمع الغياب".
للوهلة الأولى، نعتقد بأن ذات ما قد تلبست ذلك الجوهر، ومن ثم ستكون قادرة على"جمع الغياب" الذي لا يجمع؛ بيد أن تلاحق الرموز، تناثر المجازات سيضعنا مباشرة أمام :
"جدران تطبق على بذخ
اللون وضوء يتوضأ بالرذيلة".
لا أحد يستطيع، إذاً، تجسيد الجوهر، إدعاء تحمل بذخه، أو قبول لونه الذي سيتوضأ بالرذيلة. ذلك لأن عشق الجوهر لوحده لا يكفي، إذا كان في عزلة كاملة عن الغلاف السديمي الذي يحيط به، أسم هذا السديم قد يكون التاريخ، الزمن، أو شيء ما غريب عن كل ذلك، قد يكون، في العمق، غاية غير مفهومة :
"لغايتك المعلقة بدبابيس الوقت وهيولي الومضة
الأولى
وحده الوقت يفرش جناحيه مثل أله ينازع
الغيم".
النزاع ثانية، الإله الغيم، فيما تمر ومضة الهيولي لكي تعبر غشاء العائق، في بحثها المخبول عن مثيلها، عن كائن أو صفة قد تخلى الكائن عن جسده والصفة عن قيمتها؛ سينفتح الباب أمام شخصية لا يمكن تلويثها لا بتراكمات التاريخ، ولا بما يعلقه الوقت في دبابيس. لنسمع :
الحلاج يهمس بأذنك، لا أحد غيرك سواك
لا صوت يأتي
لا أثر
لا أنين
هسيس يدب بين الضلوع.
بهذا يتجمع ويتكور الجوهر على نفسه، في لغة التصوف. وبالرغم من ذلك، لا يستسلم التاريخ بمثل هذه السهولة، ولا يُفرغ ناسه بلمحة بصر :
عرب هنا، عرب هناك
مر التاريخ بحدقاته المتورمة
(...)
ونام الزمن
في جوف الحوت
الصمت وسيلتك الناهضة
والصراخ تعلمته.

تلك هي صيغة الحوار : ما بين الأنا والآخر. ما بين الأنا والأنا، تحت نظر التاريخ ذو الأحداق المتورمة، والذي ينازع الشاعر حتى الموت للخروج منه، رغم وهم تمسكه به. قد يقال كل ذلك من جزئيات موروث المتخيل الشعبي. وليكن. بيد أن الرحلة لم تتم. إذ سيحاول الشاعر، هذه المرة، عبر وفي لحظة بحثه عن ذلك الموروث، القيام بفعل آخر. السكن أو المكوث في قطب آخر، وها أن قصيدة "أبني بيتي في البحر" تقدم لتعلن لنا ذلك صراحة، وبلغة لا تقبل لا المجازات ولا اللبس :
أبني في البحر بيتي
بيتي من رمال البحر
أسكن بهدأة من الريح والعاصفة
لا ضوء
ولا دخان
يتصاعد من أفواه العتمة والشوارع.

ليست هناك تعليقات: